تأليف : محمد السويسي
يعتبر تسوق اللحوم والأسماك من أعقد الأمور لرب البيت لما تتطلب من خبرة ومعرفة لما يتخللها من أعمال الغش بما لايطاق ، ويليها الخضار والفواكه التي تتطلب التفحص وحسن الإختيار مع القليل من المعرفة لبعض الأنواع للتمييز بين الجيد والأجود كالليمون أو الرمان والدراق ، أما البطيخ فيحتاج الى خبرة كبيرة . ويلي هذه الأصناف الأجبان ومشتقاتها ومن ثم زيت الزيتون والعسل . وسوف آتي فيما بعد في مقالات أخرى إلى تفصيل كل منها على حدة في التمييز والإنتقاء بين السيء والجيد ضمن حكايا طريفة ، على أن ابدأ بالحكاية عن بائعي الأسماك .
طرائف باعة السمك : لقد بدأت مقالتي بالرواية عن الأسماك لأنها الأصناف الأصعب في تسوقها إذ تتطلب خبرة ومعرفة كبيرة في إنتقائها والتمييز بين الأسماك الطازجة وبين تلك المجلدة أوالمبردة . والفرق بين السمكة المجلدة والمبردة ، أن الأولى تأتي من بلدان بعيدة وقد اصطيدت من أعالي البحار لتجلد لفترة طويلة تصل لأشهر عدة ومن ثم تصدر للخارج ، وتكون اسعارها في العادة متدنية جداً قياساً بأسعار المبردة بما يتيح لصاحب المسمكة أو السوبرماركت أن يبيعها على هواه بأرباح عالية ، اما السمكة المبردة أو المثلجة فأنها تأتي من الجوار او بالأحرى من موانىء البحر المتوسط في سيارات أو أوعية مبردة ، خاصة من سوريا وتركيا ومصر ، فيعرضها البائع في برادات وقد غطيت بالثلج . وتكون أسعارها دائماً أقل من نصف أسعار الأسماك الطازجة المصطادة محلياً على الأقل ،إلا أن طعمها ونكهتها تختلف عن مثيلتها المحلية لاختلاف المرعى بين بلد وآخر .
ومن هنا يتطلب شراء السمك الخبرة والحذر إذ قد يعمد البائع الى خلط السمك الطازج والمبرد معاً بالإضافة للمثلج بعد أن يزيل تجلده بالنقع بالماء ليعرضه كسمك طازج أو مبرد . لذا فإن الزبون الذي لايملك الخبرة ولا ملكة التمييز بين هذه الأصناف الثلاث ، قد يتعرض للغش عند الشراء رغم سهولة الأمر لصاحب المعرفة . والذي لايمكنه معرفة صلاحية السمك وجودته منذ النظرة الأولى فيجب أن لايتورط بالتفرس والسؤال والإستسفسار من البائع الذي من المستحيل أن ينصحه إلا بالأسوأ مع إصرار شديد المدعم بحلف اليمين الكاذب على أنه طازج وبأنه الأجود والأفضل ؟! إذ أن هذه المهنة قائمة على الغش المبرم ، وأقول ذلك عن خبرة طويلة وأورد بعضاً من أمثلة طريفة حدثت معي في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم كالآتي :
توجهت يوماً لأتغدى في مطعم تربطني معرفة بصاحبه فطلبت نوعاً معيناً من السمك لايستساغ إلا مشوياً على الفحم بعد تشطيبه بالسكين ، ومن ثم يعصر عليه الحامض بعد الإستواء ، إذ يتعذر شوائه في البيت رغم تدني أسعاره إلا أن إعداده يتطلب خبرة كبيرة ، وقد قدم لي صاحب المطعم الوجبة بأفضل مما كنت أتوقع فطلبت التعرف إلى معد الطبق فجاء به ، فإذا هو سمّاك إبن سمّاك ولم يتعد الثلاثين من العمر ليقول لي أنه بائع سمك أيضاً مع اخوته في المسمكة الفلانية فشكرته على خبرته ووعدته بزيارة ونسيت الموضوع ، إلى أن كنت ماراً بعد عدة أسابيع من أمام إحدى المسامك دون الإلتفات إلى داخلها ، متجهاً نحو سيارتي ، لأسمع صوتاً يناديني بإسمي فالتفت نحو مصدر الصوت مستغرباً وقد إقترب صاحبه مني دون أن اعرفه ليتبين لي أنه صاحب السمك المشوي في المطعم بعد أن ذكرني بذلك . فقلت خيراً ، قال ألا تريد أن تشتري سمكاً من عندي وأنا على أستعداد ان اعده لك في البيت إن أردت بأفضل مايمكن ، وقد أغراني بهذا العرض ، فتوجهت معه الى الداخل حيث فتح ثلاجة مستطلية ضخمة تعج بالسمك المدفون بالثلج ، إلا من رأسه وبعض بدنه ، ليمد يده بخفة وينتقي منها سمكة"لقّز"بوزن ثلاثة ارباع الكيلو تقريباً ، وكانت هي الأسوأ في كل البراد ، ويرفعها بحركة بهلوانية قائلاً :هذه السمكة قد انتقيتها لك ولاأرى أفضل منك لأبيعه إياها وقد سبق أن تعرفت عليك ، فنظرت اليها وهي بيده ثم تفرست في الثلاجة فهالني مارأيت ، فأجبته ولكن ليس لدي هرّة في البيت ، ثم ومن قال لك أنه لو كان لدي هرة تقبل أن تأكل من هذه السمكة المعفنة وقد مر عليها أكثر من ثلاثة أسابيع !! ألا تخجل .. ؟ثم تطلعت الى داخل البراد لأنظر فوجدت أن لديه سمكة "مسقار"طازجة واحدة بوزن نصف كيلو تقريباً ، فنظرت اليه وقلت له سأحذّرك حزّورة إن عرفتها فقد أشتري من عند أخيك إن كان لديه سمكاً طازجاً في ثلاجته ، وقد سبق أن عرفني عليه عند دخولي ، فلم يرد أو ينبس ببنت شفة وقد اعتراه الذهول والخجل ..سألته هناك سمكة طازجة وحيدة في البراد دلني عليها وستربح ؟ فمد يده وأخرج "المسقارة "قائلاً اعذرني ، هي الوحيدة لدي اليوم ، إذ لم يخطر ببالي أبداً أنك تعرف بالسمك إذ يندر أن يأتينا شخص من المدينة له خبرة بالسمك . قلت وأنا متجه نحو براد أخيه ،ويحك هذا شهر ايلول وفيه أطيب انواع السمك الذي افضله ، لأشتري بعض السمك "الصفرني " إذ لم يكن لديه أي نوع آخر طازج غيره . ومع أنه لم يكن طلبي لصغر حجمه إلا أنني اشتريته على مضض إذ عرف أخوه الحزّورة .
طرفة أخرى إذ جاءني أحدهم بلحية قد غشني بها لتتلائم وغش السمك الذي يحمله وعندي ضيوف فبادرني قائلاً ، أن جاري قد أوصاه على بعض السمك "الجربيدة" الطازج وقد اصطادهم اليوم بيده من الصبح حتى العصر وأحضرهم له بعد أن نظفهم جيداً ولايحتاجون الا للقلي وأنه لم يجده ولايعرف ماذا يفعل وقد شارف النهار على الغروب ولم يبع شيئاً حتى الآن ليشتري شيئاً لعائلته على العشاء وقد تركهم دون غداء ؟ ! وإن شئت يبيعني إياهم ليحضر لجاري غيرهم غداً ، أي أنه وضع كل فنون الإحتيال في القول في ديباجة واحدة ، فأجبته أقترب وافتح الكيس لأرى ، فنظرت سمكاً لماعاً دون أن أتفحصه كما جرت العادة إذ غطى حذري وخبرتي ثقتي بلحيته والقلنسوة الصغيرة البيضاء التي يضعها على رأسه ، عدا عن تمسكنه في حديثه ، فنقدته ثمنهم كما طلب وقد أشفقت عليه بدلاً من أشفق على نفسي وقد "شربت المقلب " ثم غادرت بعد قليل إلى البيت لأعدهم في اليوم التالي على الغداء وما أن بدأت زوجتي بتفريغهم في مصفاة في المطبخ حتى قلت لها توقفي وأعيديهم الى الكيس كما كانوا وناديت الناطور ، بعد أن أفهمتها مشكلتهم ، لأعطيه إياهم قائلاً له لقد أشتريت هذا السمك على انه طازج ليتبين لي أنه سمك مجلد وليس لي من صحبة معه فأما أن تأخذهم أو تطعمهم لقطط الحي ، فأجابني بل أن هذا النوع من السمك هو صاحبي ومنية عمري وغرامي ولن أفرط بهم فأخذهم ليأكلهم وعائلته ، فضحكت إذ ذكرني بحكاية أشعب والسمك .
والسؤال المثار الأن هو أين المقلب في ذلك ؟ المقلب الأول هو انني دفعت ثمن هذا السمك على اساس أنه طازج ليتبين لي منذ النظرة الأولى عند إعداده على أنه سمك مجلد ومحلول بالماء ليطرى ، وقد باعني إياه بما يساوي اربعة أضعاف ثمنه على أساس أنه طازج ، والمقلب الثاني هو أنني لاأحب السمك المجلد ، إذ لاأجد لذة في تناوله أوطيبة .
وفي رواية طريفة أخرى ، وقد فاض السوق بسمك "الجربيدة "المبرد المصري المستورد ، كما أنواع أخرى كثيرة من الأسماك من مختلف البلدان ، إلا انني كنت ولاأزال أفضل السمك المحلي ، خاصة الجربيدة ، عن كل أنواع الأسماك الأخرى لما أجد فيه من لذة وطيبة في طعمه تميزه عن الأسماك المستوردة وفقاً لمرعاه ، وقد توجهت باكراً الى بائع السمك الذي اعتدت الشراء من عنده لأبتاع حاجتي من السمك لديه ، إلا أنه كان عليّ أن لاأكتفي بالنظر فقط بل التفحص بيدي أيضاً لأتأكد أنه سمك محلي وليس مستورد ، فبدات أنتقي من السمك على البسطة أمامي وأضعه في كفة الميزان ، إذ كانت كلها أسماكاً طازجة من موقع واحد ، وفيما أنا أنتقي جاء شريك له وقد حمل صندوقاً من السمك بين يديه ليرفعه ويفرغه دفعة واحدة فوق الأسماك التي أنتقي منها ، فدهشت ونظرت اليه قائلاً ومستنكراً ماهذا ؟! أجابني باستنكار أكبر ماذا في الأمر ؟! .. قلت هذه سمك مصري مبرد من شكله ولونه وأنت تريد أن تبيعني إياه ضعفين ونصف عن السمك البلدي فكيف ذلك ؟أأصبحت غشاشاً ؟ فكان جوابه أنه سمك بيروتي وقد وصل الآن ! ..ولم أجادل إذ أن معظم سمك بيروت يأتي من تجار طرابلس وعكار ،فاكتفيت بما وضعت في كفة الميزان ونقدته الثمن ولم أعد للشراء من عنده مطلقاً .
أكتفي بذلك إذ أن حكايتي مع محاولات الشطارة والغش من باعة السمك لاتنتهي ، وقد أوردت بعضها ليحذر الآخرين ممن ليس لديهم خبرة عند الشراء بأن لايثقون ببائع السمك مطلقاً إذ أنه وكشيش الحمام سواء في حلف القسم الكاذب من أجل الإقناع والمخادعة .