وهنا لابد من ذكر حقيقة هامة جدا وهى أن إفتراض وقوع مؤامرة بين الرئيس السادات وأمريكا وإسرائيل للقيام بما كان القذافى يسميه "حرب التحريك"بدلا من حرب التحرير هو نوع من الهلوسة التاريخية والسياسية. فإسرائيل بلد ينهض على الديموقراطية والإنفتاحية، مما يجعل من القيام بحرب تمثيلية متفق عليها بين الطرفين أمرا خارجا على القانون لأنه يتسبب فى فقدان حياة آلاف أو مئات أو عشرات أو حتي آحاد الإسرائيليين بالإضافة إلى الإصابات والتشوهات للجرحي. ولم ولا ولن يوجد سياسى إسرائيلى واحد يستطيع الإتفاق على أمر كهذا. ثم أن عدد ضحايا الحرب من القتلى الإسرائيليين تخطى الألفين وخمسمائة مقاتل، من بينهم فقط 400 قتيل سقطوا فى ليلة واحدة يوم 14 أكتوبر من أجل العبور إلى الغرب لتحقيق الثغرة الشهيرة. وبنسبة تعداد السكان كان عدد قتلى إسرائيل حوالى 1 فى 1500 من السكان. وهذه النسبة لو طبقناها فى مصر فى ذلك الوقت عندما كان تعداد مصر 40 مليون ستأتى بعدد خسائر فى الأرواح يزيد عن 25 ألف قتيل، فى مصر فقط ناهيك عن خسائر سوريا. وهو رقم لم يقع فى مصر. وقد نظرت لجنة القاضى أجرانات رئيس المحكمة العليا فى كل ملفات الحرب لكى تجرى تحقيقا عادلا منصفا لتحدد أين كانت المسئولية فى هذه الهزة إن لم تكن هزيمة. وإتضح من تقرير اللجنة أن الأخطاء كانت على الجانب العسكرى فقط أى رئيس الأركان ورئيس مخابرات الجيش وقائد جبهة سيناء بينما خرجت جولدا مائير بدون إتهام لها بأى تقصير. والسبب واضح طبعا.
فالعمل السياسى لا يمكن المحاسبة عليه لأن القرار يبنى على معلومات تتقدم بها الجهات المعنية فى كل الدولة. أما العمل العسكرى فهو مما يمكن المحاسبة عليه لأن واجب القادة العسكريين هو ممارسة أقصى درجة من الحرص فى التعامل مع الطرف الآخر وفى تحليل المعلومات التى ترد إليهم. وهذا فى مجال المحاسبة القانونية. أما الحساب السياسى فهو قائم فى كل وقت عن طريق عدم إنتخاب هذا السياسى من جديد. وقد شعرت جولدا مائير بهذا الأمر فتقدمت باستقالتها بعد صدور تقرير لجنة التحقيق رغم حصولها على تبرئة من التقصير ولكن الحساب السياسى هو ما لم تكن تود أن تنتظره، بالإضافة إلى عوامل السن وفتح الطريق أمام الجيل الجديد (رابين) ليتولى المسئولية.
أما تهمة الغطرسة فلا يمكن إثباتها وليس لها عقوبة فى قوانين العقوبات.
ومن الثابت أيضا أن الإدارة الأمريكية كانت فى البداية شبه واثقة من قدرة إسرائيل العسكرية على دحر الهجوم المصري السوري المشترك وحدها بقدراتها الجوية الفائقة على الجبهتين. وقد كان من مهارة التخطيط العربي فى تلك الفترة أنهم لم يستعملوا الصواريخ الحديثة التى كانوا قد حصلوا عليها من الإتحاد السوفيتي إلا فى يوم السادس من أكتوبر لأول مرة وذلك حرصا على عامل المفاجأة، وقد تحقق للعرب بالفعل ما أرادوا حيث كانت صواريخ الأرض - جو من عوامل حسم المعارك فى البداية لصالح الجيشين العربيين إذ غلت يد الطيران الإسرائيلي عن التدخل الفعال بسبب حائط الصواريخ هذا.
وبناءا على هذه الثقة الأمريكية فى القدرة الإسرائيلية لم تتحرك الولايات المتحدة لإمداد إسرائيل بأى معدات جديدة إلا عقب إستغاثة رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير بالرئيس بهنري كيسنجر ثم نيكسون شخصيا، والسبب هو أن مسئولى والبنتاجون كانوا يعتقدون كما أسلفت فى القدرة المتفوقة لإسرائيل. وكان هناك شخصان فقط هما من أرادا البدء بشحن الإمدادات إلى إسرائيل فى كل الإدارة الأمريكية، وهما الرئيس شخصيا وهنرى كيسنجر.
وعند هذه اللحظة الفارقة يحار المرء فى فهم الدوافع الحقيقية لهنرى كيسنجر الذى كان هو صاحب القرار الفعلي فى تلك الفترة حيث أن الرئيس نيكسون كان غارقا فى مشاكله الداخلية المتعلقة بفضيحة ووترجيت.
وقصة الثغرة بدأت يوم 13 أكتوبر بتحليق طائرات إستطلاع أمريكية فوق مصر قامت بتصوير الجبهة من إرتفاع عال جدا لا تصل إليه الصواريخ المصرية وأبلغت القيادة الإسرائيلية بوجود تلك الثغرة الغير محكمة بين كتلتي الجيشين الثاني والثالث المصريين، وهو ما قد قام القائد الإسرائيلي للمظلات آريل شارون باستغلاله بمبادرة شخصية منه رغم رفض القيادة لهذه المغامرة. وقد كلفت هذه المغامرة كما أسلفت أكثر من 400 قتيل إسرائيليى فى ليلة واحدة وهو ثمن عال جدا على المجتمع الإسرائيلي.
وقصة الثغرة أشهر من أن أتناولها من جديد ولكن الذى يهم فى هذا السياق هو أثر الإتصالات المصرية مع الولايات المتحدة قبل وأثناء المعارك على ما وقع بعد ذلك من أحداث.
إذ أن الإتصالات الأمريكية المصرية لم تتوقف عند حد اللقاءات فى أمريكا أوائل عام 1973، بل تعدت ذلك إلى إتصالات خلال القتال نفسه. إذ أن حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي للرئيس المصرى، والذى كان قد قابل كيسنجر فى مطلع العام، أرسل برسالة أخرى عبر القنوات السرية إلى كيسنجر يبلغه فيها أن مصر "لا تنوي تعميق نطاق العمليات".وهذه الفقرة سماها محمد حسنين هيكل فيما بعدالفقرة الكارثية لأنها تقوم بتعريف الأمريكيين بالنوايا المصرية مسبقا..
فهل هي بالفعل فقرة كارثية؟