من كتاب الأعلام والأقزام فى ميزان الإسلام للدكتور السيد حسين العفانى
أدبًا مع الله من رواية "أولاد حارتنا"، وأعرف بجلال الله وعظمته من هذه الرواية الطائشة الرعناء!
* الملاحظة الثالثة: الإِساءة إِلى رسول الإِسلام - صلى الله عليه وسلم -:
تحدثت الرواية بعد حديثها عن آدم عن ثلاثة من الرُّسُل الكبار: موسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، وحديثها عن الرسولين الأولين موسى وعيسى عليهما السلام كان معتدلا نوعًا مَّا، فلم يرد فيه ما يسيء إساءة جارحة لأيٍّ منهما.
- أما حديثها عن محمد رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاء مليئًا بالإساءة والتجريح إلى حد الافتراء في بعض الأحيان، فقد نسبت إليه الرواية اختلاس ثمار الجوافة، والجري في الطريق العام وهو عارٍ تمامًا من ملابسه مع تضاحك الأطفال عليه!!
وهذا افتراء محض وكذب صارخ على من أرسله الله رحمة للعالمين، وصانه من "العبث"في جميع مراحل عمره المبارك قبل البعثة وبعدها.
- ثم جعلته الرواية "بياع بطاطة"ينادي على بضاعته ويقول وهو "يزق"عربة يد "كارو":
"بطاطة العمدة .. بطاطة الفرن"!!
وهذا كذلك افتراء خالص، وليس له سند من الواقع ولا من الوهم!!
- وجعلته الرواية مُغْرمًا بمعاكسة الفتيات يترصدهن في الطريق العام قبيل الغروب!!
- وجعلته الرواية كسولاً لا يحب العمل، ويخلد إلى الراحة والدعة حتى أكرهته السيد خديجة على العمل في إدارة أملاكها!!
- ثم أجلسته الرواية على "المقاهي"وسقته الـ ... على الجوزة!! - ووصفت الرواية حفل زفافه إلى "خديجة"وصفًا مزريًا للغاية، كانت الخمور تجري فيه أنهارًا، وكل المدعوين كانوا سكارى ومساطيل؟!
- وجعلت الرواية محمدًا وخديجة يسيران في ليلة زفافهما خلف راقصة تتمايل وتهتز وكأنها تلقي عليهما الدرس الأخير في العلاقات الـ .. ؟
- وعيرته الرواية -مرات- بأنه راعي غنم لليهود والنصارى وغيرهم؟!
- لم ترع الرواية حرمة خاتم النبيين الذي وصفه رب العالمين بأنه سراج منير، وعلى خلق عظيم، ورحمة للناس كافة:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: ٤٥، ٤٦].
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: ٤].
هكذا صنعت الرواية مع خير خلق الله، وهي تعلم عمَّن تتحدث جلالاً وعظمة، وهيبة ووقارًا؟!
* الملاحظة الرابعة - الحط من قَدر العرب والمسملمين؟!
وعندما تحدثت الرواية عن آل حمدان أو آل جبل، وهما رمزان لليهود قبل موسى عليه السلام وبعده، وعندما تحدثت الرواية عن آل رفاعة، وهم رمز للنصارى، عندما تحدثت الرواية عن هاتين الطائفتين، تحدثت عنهما بكل تقدير واحترام، ولكن عندما تحدثت عن العرب قبل الإسلام، ثم عن المسلمين بعد الإسلام رمتهم بكل نقيصة، فهم أتعس أولاد الحارة -أي الدنيا- وهم الجرابيع الحفاة العراة الذين لا أصل لهم ولا صفة -أي كريمة- وحياتهم لا تعلو كثيرًا عن حياة الكلاب والقطط والذباب؟! يلتمسون رزقهم في النفايات وأكوام القمامة؟!
هكذا ورب السموات والأرض وصفت الرواية العرب والمسلمين،. العرب الذين اختار الله رسوله الخاتم منهم، وأنزل كتابه المعجز بلغتهم، وشرفهم بجعلهم أول من يتلقى رسالته الخاتمة، ثم يبلغونها للناس في مشارق الأرض ومغاربها.
والمسلمون الذين وصفهم الله بأنهم "خَيْرُ أُمَّة أُخْرِجَتْ للناسِ "هم في رواية "أولاد حارتنا"أحط الناس قدرًا، منزلتهمَ منزلة الكَلاب والقطط والذباب؟!
أليس هذا مما يجعل الحليم حيران، ويدعو إلى سوء الظن في الرواية ومؤلفها والمدافعين عنها إلى آخر شوط، وإلى أبعد مدى؟!
أليس في هذا "الصنع"محاولة سافرة لمصادرة قول الحق:
"الله أعلمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالتَهُ .. "؟!
ليتنا نعلم الثأر الذي بين رواية "أولاد حارتنا"وبين العروبة والإسلام والمسلمين؟!
أم أن موعدنا "يومَ تُبلَى السرائِرُ"؟!.
* الملاحظة الخامسة - مناصرة غير الإِسلام على الإِسلام؟!
ومن الملاحظات البارزة على الرواية، أنها -دائمًا- تناصر غير الإسلام على الإسلام نفسه، حتى في العقائد الثوابت في الإسلام، ولنضرب بعض الأمثلة:
- تفضيل عيسى على محمد صلى الله عليهما وسلم، وعِلَّة تفضيل عيسى على محمد في الرواية أن عيسى كان عزوفًا عن النساء؛ أما محمد فكان يترصد الفتيات عند المغيب، وكان زير نساء؟!
هذا ما يقوله الحمقى من المبشِّرين والمستشرقين، وقد ناصرتهم الرواية وخذلت المسلمين؟! - مجاراة الرواية لليهود، أو مناصرتهم في دعواهم أنهم قتلوا عيسى عليه السلام وصلبوه، فتجزم الرواية أنهم قتلوه فعلاً، وتضرب عرض الحائط بعقيدة المسلمين وبقول الحق:
{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: ١٥٧].
- وناصرت الرواية المبشِّرين والمستشرقين في اتهامهم نبي الإسلام بعشق زينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة، ثم تزوجه منها بعد أن طلقها زيد استجابة للواعج العشق؟!
- تناصر الرواية أعداء الإسلام وتُعبر عن مناصرتها لهم بقولها: "وتعشَّق امرأة من الجرابيع -أي المسلمين العرب- ثم تزوجها أيضًا"؟! (١).
- دعوى الرواية أن السيدة خديجة تشككت طويلاً في أمر الرسالة لما أخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - ببدء نزول الوحي عليه، وأنها ظلَت تراجعه وتجادله حتى قال لها: إني أعُفيك من أن تصدقيني؟! مع أن الثابت إِسلاميًّا أن السيدة خديجة بادرت بقولها:
"إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأُمَة"عند أول سماعها بنزول الوحي.
ودعوى الرواية كاذبة كاذبة، وهي مجاراة منها ومناصرة لمزاعم أعداء الإسلام.
ْ- ناصرت الرواية حقدة المستشرقين والمبشرين في دعواهم أن القرآن مقتبس من التوراة والإنجيل؟! فجاءت الرواية تقول -كذبًا وزورًا وبهتانًا-: أن قاسمًا أو محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان يتردد كثيرًا على ورقة بن نوفل الكاهن النصراني، وأخذ عنه علمًا غزيرًا، وأن محمدًا كان يخاطب ورقة بقوله: "يا معلمي"؟!، والرواية تعلم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس له مُعَلم قط إلا الله عز وجل، وبذلك نزل الوحي الأمين:
{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: ٤٨].
{وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: ١١٣].
أليس هذا -مرة أُخرى- داعيًا إلى سوء الظن في الرواية إلى آخر شوط؟!
* الملاحظة السادسة - تجريد التاريخ النبوي من محتواه:
حرص المؤلف -كل الحرص- على تجريد التاريخ الديني النبوي من محتواه، وتفريغه تمامًا من "الإيمانيات والروحانيات"وتصويره في صورة صراع مادي صرف يبدأ وينتهي حول حطام الدنيا وملذاتها الفانية؟!
فليس في رواية "أولاد حارتنا"أية إشارة، ولو رمزية إلى قضية التوحيد والإيمان بما وراء الطبيعة من حقائق هي أُسس ما نادت به الرسالات السماوية.
- فمثلاً لقاء موسى بفرعون لم يكن إلا لنيل بني إسرائيل حقوقهم من "الوقف"وحصولهم على المعاملة الكريمة في المجتمع الفرعوني المستبد.
- ودعوة موسى لبني إسرائيل محصورة -في الرواية- في توحيد صفوفهم لينالوا حقوقهم، ويمكنهم الحفاظ عليها إذا نالوها.
- ومهمة عيسى كانت لمحاربة العفاريت وتخليص المرضى من شرورها ليكونوا أصحاء؟!
- ورسالة محمد - صلى الله عليه وعليهم جميعًا وسلم - كانت لمحاربة "الفتوات "وتسخير "الوقف"للجميع. .- أما مهمة "عرفة"فكانت لإحلال قوة العلم الحديث محل الإيمان بالله ورُسُله، بعد أن حكمت الرواية على هذا الإيمان بالفشل؟!
ومؤدى هذا كله:
أن الرواية تجاري العلمانية في تفسيرها المادي للتاريخ رضي المؤلف أم لم يرض، أحب أم كره.
* الملاحظة السابعة - التعاطف مع الشيطان؟!
جارت الرواية "أولاد حارتنا"بعض الكتاب الأوروبيين والعرب في التعاطف مع الشيطان الذي طرده الله من الجنة بسبب عصيانه وكفره، ونظروا إلى هذه الواقعة على أنها من وقائع "حرية الرأي"، وأن الشيطان عوقب -ظلمًا- على رأيٍ أبداه، وعقيدة اعتقدها، حملته على عدم السجود لآدم؟ بل إن بعض الدجالين العرب دعا إلى نصرة الشيطان على الله عز وجل، وزعم هذا الأفَّاق الأشر أن الشيطان قال لله:
"لا أسجد إلا لك"، ومع هذا عاقبه الله وطرده وهو مظلوم مظلوم؟! (١).
واشترك في هذا -الدجل- الأستاذ توفيق الحكيم من قبل، وتخيل محاورة دارت بين "إبليس"وشيخ الأزهر، فأفحم إبليس شيخ الأزهر؟! وأثبت -إبليس- أمام شيخ الأزهر أنه مظلوم، مظلوم، وأن جميع الكائنات كانت تردد صياح إبليس: أنا مظلوم مظلوم؟!
سارت رواية "أولاد حارتنا"في هذا الاتجاه، ولوَحت كثيرًا بأن "إدريس"، وهو رمز الشيطان فيها، طرد من البيت الكبير -أي من الجنة- بدون سبب معقول أو مقبول. وزعمت -زورًا وبهتانًا- أن جميع الملائكة، كانت تؤيد الشيطان، ولكنهم كتموا أسرارهم خوفًا من بطش "الجبلاوي" (الله)، وتظاهروا بعدم الاعتراض؟!
فطرد الشيطان في الرواية كان لبغض "الجبلاوي" (الله) للشيطان ولإرادته النافذة التي لا تصغي لحجة مظلوم؟!
* الملاحظة الثامنة - ربط منابع النور بمواضع الخطيئه؟!
ما زلت -والله في حيرة- من بعض الرموز في "أولاد حارتنا"، ومن أكثر الرموز إثارة للحيرة رمز "صخرة هند"، وقد علم قارئ هذه الدراسة أن "هند"هي ابنة إدريس في الرواية، أي ابنة الشيطان، وأن الصخرة التي أضافها إلى "هند"مؤلف الرواية، هي المكان الذي زعمت الرواية أن ابن آدم "قدري"ارتكب فيه "الفاحشة"مع "هند"، وقد فسرنا الرمز "هند"من قبل بأنه: الغواية الشيطانية، ولا معنى لها سوى هذا، إذ لا يُعلم أن للشيطان ابنة اسمها "هند"، وحتى لو كان له ابنة فمن أدرى المؤلف أنها تُسمَّى هندًا؟!
وليس هذا هو مبعث الحيرة، وإنما مبعث الحيرة أن مؤلف الرواية الأستاذ نجيب محفوظ قد ربط بين منابع النور وهي الرسالات السماوية الثلاث، وبين هذا الموضع "صخرة هند"، وهو موضع أول جريمة "زنا"تقع في الوجود حسب "جو"رواية "أولاد حارتنا"الأوسع من الخيال والأوهام؟!
- فالرُسُل الكرام تلقوا رسالاتهم من "الجبلاوي" (الله) عند "صخرة هند"؟!
ومفزعهم وملجؤُهم كان "صخرة هند"؟!
- وعيسى والحواريون كانوا يتخذون من "صخرة هند"ناديًا للحديث والتشاور؟!
.فما الذي حمل المؤلف على ربط منابع النور بمواضع الخطيئة يا ترى؟!
إنها ملاحظة ذات خطر، وإني لأحتفظ بما فهمته منها، وما أردت إلا أن أشرك معي القارئ في الحيرة، ولعله يفهم مثلما فهمت؟!
* الملاحظة التاسعة - الاختيار والترك:
عرف قارئ هذه الدراسة أن الفصول الأربعة الأولى: أدهم، وجبل، ورفاعة، وقاسم، تتناول أحداثا واقعية لها وجود حقيقي في التاريخ، وهي تمثل -كما تقدم- حركة التاريخ الديني النبوي وتطوراته. وقد لاحظنا أن المؤلف يقف من وقائع هذا التاريخ موقفا معينًا يقوم على سمتين بارزتين:
إحداهما: الأخذ، والأخرى: التَّرك: أي يأخذ بعض وقائع ذلك التاريخ، ويترك بعضًا آخر في رسم صور "الأشخاص"الأربعة، الذين تحدث عنهم، وهم:
آدم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، فما أكثر ما تركه من سيَر هؤلاء الرُّسُل الكرام، فمما تركه في "أدهم"المنهجِ الذي حدده الله لعمارة الأرض بعد الهبوط {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: ٣٨، ٣٩].
- ومما تركه في "جبل"فلق البحر وعبور موسى وبني إسرائيل إلى سيناء، وغرق فرعون وآله، ورفع الجبل فوقهم، ووزارة هارون لموسى.
- ومما تركه في "رفاعة"حديث المائدة والكلام في المهد.
- ومما تركه في "قاسم"الإسراء والمعراج، وحصار شعب بني عامر، ومع هذا الترك، فإن ما ذكره كان كافيا جدًّا في تحديد "حقيقة"كل شخصية من الأربعة المذكورين. * الملاحظة العاشرة - نباهة عرفة وصاحبيه:
إن "عرفة"، و"حنش"وعواطف هم "الوحيدون"في الرواية الذين رفعهم المؤلف "مكانًا عليًا"، وصانهم من كل ألوان النقص والهمز واللمز أو التجريح، وهذا يلائم الجو العام لـ .. وجدانيات المؤلف، "وجوانياته"؟!.
القسم الثاني - عرفة:
أما القسم الثاني، فهو معقود -أساسًا- لعمليتي هدم وبناء، أو "إعدام"و"إحياء"، وكانت نيةُ "أولاد حارتنا"مُبيتة على هذا من قبل أن "يُخَط"حرف واحد فيها؛ فالنية -عادة وواقعًا- تسبق العمل دائمًا، وتكون "هي"الباعث على العمل، والداعية إلى الهدم أو الإعدام لـ "الدين"الذي جاء به الرُّسُل وحيًا يوحى من عند ربهم؟! والإحياء لـ "العلم الحديث"ممثلاً فيما يُدرَك بالحواس الخمس، وتُجرى عليه التجارب والملاحظات والمشاهدات، ثم تستخرجُ قوانينه الكلية، وقواعده الجزئية المستوحاة من المادة المدروسة. وكان كل شيء في الرواية يخدم هذا الاتجاه، ويمهد له من وراء ستار، ولكن كيف تمت عمليتا الهدم والبناء، أو الإعدام والإحياء؟ هذا تساؤل مهم للغاية.
- أما الإجابة عليه فنصورها في الآتي:
جيء بـ "عرفة"رمز العلم الحديث، ونائبه "حنش"، ثم وُضِع بإزائهما التاريخ الديني النبوي، ممثلاً في الجبلاوي، وأدهم، وجبل، ورفاعة، ثم قاسم. وبدأت العمليتان معًا:
ضربة بالمعول في صرح التاريخ الديني النبوي، ثم وضع لبنة في صرح العلم الحديث. وتعددت ضربات المعول في الهدم، وتعددت كذلك عملية البناء بوضع لبنة جديدة محكمة، وسار الفصل الخامس "عرفة"على هذا النظام: كل انخفاض في جانب التاريخ الديني النبوي يقابله ارتفاع في جانب العلم الحديث؟!
وكل نقص في الأول يقابله زيادة في الثاني، إلى أن وصل الأمر إلى تنفيذ حكم الإعدام التام في الدين، وعلى "التو"قام العلم الحديث، وجلس على "عرش الرحمن"وحل محله، ومكانه؟! هذا في الرواية، وليس في الواقع؟!
والذي قام بتنفيذ حكم الإعدام في الدين، هو العلم الحديث نفسه، ممثلاً في "عرفة"قاتل الجبلاوي في الرواية، وكانت الرواية قد جعلت "الجبلاوي"المصدر الأول والوحيد للاتجاه الديني في الوجود كله، يعني هو "الله"تعالى عما يقولون عُلوا كبيرًا، وكان لحكم الإعدام في الرواية مبررات كما تقدم:
- تقديم السن بالجبلاوي، اعتزاله، فشل رجاله الكبار: جبل ورفاعة وقاسم، تَخلف منهجه، فساد بضاعته، زهد أولاد الحارة فيه وفي رجاله؟!
أما العلم الحديث فكان يحقق نصرًا وازدهارًا وتقدمًا كل يوم، فعرف الناس له فضله، ووقفوا على قدراته الهائلة، وطاقاته التي لا حدود لها، فإنه - كما وصفته الرواية: "قادر على كل شيء"؟!
فلماذا -وهذا شأنه- لا يكون هو الآمر المطاع، والناهي المسموع، ومعقد آمال الناس التي لم يستطع أن يحققها الجبلاوي ورجاله على مدى العمر الطويل؟!
* والخلاصة:
إن هذه الرواية تترجم في وضوح: أن كاتبها ساعة كتبها كان زاهدًا في "الدين"كل الزهد، معرضا عنه كل الإعراض، ضائقًا به صدره، أعجميًّا به.
لسانه، فراح يشفي نفسه الثائرة، ويعبر عن آرائه في وحي الله الأمين، بهذه الأساليب الرمزية الماكرة، والحيل التعبيرية الغادرة، رافعًا من شأن العلم الحديث إلى مكان الثريا، واثقًا فيه كل الثقة، حتى أجلسه في روايته على "عرش الديَّان"مناصرًا للعلمانية الجاهلة، على دين الله القيم، ورسالاته السامية.
فالرواية -وهذا واقعها- رواية آثمة "مُجَرَّمَة"بكل المقاييس وطنيًّا، وقوميًّا ودينيًّا.
والتماس البراءة لها: مستحيل، مستحيل، مستحيل.
اللهم إلا إذا طمسنا قلوبنا، وأعمينا أبصارنا، وسددنا سمعنا، ثم هتفنا مع أولاد حارة الأستاذ نجيب محفوظ، وقلنا كما قالوا: "لا شأن لنا بالماضي، ولا أمل لنا إلا في سحر عرفة، ولو خيرنا بين "الجبلاوي" (الله) والسحر، لاخترنا السحر"؟! (١).
وهيهات هيهات لما يتصورون؟ " (٢).
* من سقطات محمد جلال كشك في كتابه "أولاد حارتنا فيها قولان":
الدفاع المبالغ فيه البعيد كل البعد عن الحقيقة.
- يقول عن موقف اليسار من نجيب محفوظ:
"وهم يبغضون منه النفس الإسلامي الذي يتضوع من أعماله" (ص ١٩) وهل يصدق هذا عاقل؟!
وقال في (ص ١٣٨): "جريمة نجيب محفوظ أنه قدم وجهًا إِسلاميًّا
مشرقًا، مشرقًا في الزمن الرديء جدًّا .. وفي زمن بدا فيه المسلم قبيح المسلك قبيح الفكر".
ويقول في (ص ٥٨): "ولا شك أن قاسم يرمز إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - "فلينظر كل الناس إلى ما قاله نجيب عن قاسم.
وقوله عن جمال الدين الأفغاني (ص ٣٦): "المجاهد الشهيد أستاذ الأجيال جمال الدين الأفغاني .. شاهت الوجوه .. من فيهم له في خدمة الإسلام ما للأفغاني؟!!
الأفغاني بلا جدال هو أعظم مسلم في القرن التاسع عشر هو الزعيم المفكر الذي جعل العالم الإسلامي ميدان نشاطه، متخطيًا بنجاح الحدود القومية والمذهبية"رأيت ردنا المفصل على فكر الأفغاني.
وقال عن الأفغاني: "ولكنه بلا جدال أستاذ الجميع، وخير من خدم الإسلام في القرن التاسع عشر، ولولا شنشنة نعرفها من أخزم، لقلنا بل ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم" (ص٣٧، ٣٨)!!
وقال (ص ٤١): "إن المسلم الذي يتعرّف على الله سبحانه وتعالى من معالم شخصية الجبلاوي، هو الذي يستحق الاستتابة، ويجب عليه أن يعيد تثقيف نفسه في علم التوحيد .. وهو مسلم ظن بالله الظنون ولم يقدر الله حق قدره .. والسموات مطويات بيمينه - سبحانه وتعالى عما يشركون" (١).
- ونحن نحيل القارئ إلى ما قاله سكرتير لجنة الجائزة في حفل التسليم باستوكهولم عام ١٩٨٨ حيث أشار في غضون إطرائه على الرواية إلى ما تضمنته من مفهوم (موت الإله)! (٢).
ونحيل القارئ إلى الكتاب الهام "الطريق إلى نوبل ١٩٨٨ عبر حارة نجيب محفوظ "للأستاذين الدكتور محمد يحيى ومعتز شكري.
* نجيب محفوظ والشيخ عبد الحميد كشك وأحمد عبد المعطي حجازي:
"في صحيفة الأهرام الصادرة في ٢/ ٦/١٩٩٩ شن أحمد عبد المعطي حجازي هجومًا ضاريًا على الشيخ عبد الحميد كشك -رحمه الله- مدعيًا أن الكتاب الذي كتبه الشيخ كشك عن نجيب محفوظ فيه دعوة لاغتيال نجيب محفوظ استجاب لها ولباها -كما يقول حجازي- "بعض القردة المتوحشين"، وانهالوا على عُنُق الكاتب بالخناجر والمُدى"ويمضي فيصف الشيخ كشك بأنه "واعظ محدود الثقافة!! لا علاقة له بدراسة الأدب"وبأنه: "واعظ نصف أمي"ويتساءل ساخرًا: "لماذا لا يُعيَّنْ الشيخ كشك أستاذًا في جامعة المنصورة، أو في جامعة القاهرة" (١).
* في ميزان الحق:
"وما ذكره حجازي يرفضه الحق وينقضه الواقع، فالذين اعتدوا على نجيب محفوظ لم يقرأ واحد منهم كتاب الشيخ كشك بل لم يسمع به، وهذا ما أثبتته التحقيقات والشيخ كان من حفظة القرآن المتعمقين في معانيه وأسراره، وكان ذا ثقافة موسوعية واسعة، ووهبه الله حنجرة قوية الأمر والتأثير، وكنت أتمنى أن يقرأ حجازي كتاب "النبي والفرعون"للكاتب العالمي الشهير "جيلز كيبل"وقد كتب فيه فصلاً عن الشيخ كشك من عشرين صفحة جاء فيه. "أنهم يستمعون لكشك في القاهرة، وفي الدار البيضاء، وفي حي المغاربة في مارسيليا .. فهو نجم الدعوة الإسلامية، وقد كان لكشك مقلّدوه،
ولكن لم يتوافر لأحدهم أحباله الصوتية التي لا تُضاهَى، أو ثقافته الإسلامية الواسعة، أو قدرته غير العادية على الارتجال، أو روحه الجسور في نقده للأنظمة الظالمة، والدكتاتورية العسكرية، ولمعاهدة السلام مع إسرائيل".
هذه سطور من شهادة كاتب غربي غير مسلم لرجل اتهمه حجازي بالأمية والتعصب وضيق الأفق .. " (١).
* ونقول لأحمد عبد المعطي حجازي ضيق الأفق:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رَمَدٍ ... وينِكُرُ الفم طعم الماء من سقَم
ونقول له: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء: ١٠٩].
والله الموعد.
* عبد الرحمن الشرقاوي يشوِّه التاريخ الإِسلامي:
سبق أن تكلمنا عن عبد الرحمن الشرقاوي وكتابه "محمد رسول الحرية"وردّ الشيخ محمد أبي زهرة علية (٢)، يقول الأستاذ أنور الجندي تحت عنوان "أخطاء عبد الرحمن الشرقاوي في كتابه "السيرة والتاريخ":
في كل كتاباته الإسلامية يظهر الغرض المبيت المدفون واضحًا:
"محمد رسول الحرية -مسرحية الحسين ثائرًا- كتاباته عن الإمام علي".
إن درجة الوعي الإسلامي الآن في فهم تيارات التغريب قد أصبحت عالية وما نعتقد أنها يمكن أن تخدع وهذه الأسماء معروفة الهوية ولذلك فهي لا تستطيع أن تكسب ثقة قارئ واحد من المؤمنين باليقظة الإسلامية ولعل هذا هو ما يزعج هؤلاء ومَن وراءهم، إن خطط التغريب والغزو الثقافي قد. ....كشفت تمامًا فمهما حاولوا تغيير جلودهم ومهما خلطوا أوراقهم ومهما نشرت لهم الصحف الكبرى ومهما حالت بين مفترياتهم وبين تصحيحها، فلييئس هؤلاء تمامًا وسيرتد الكيد إلى نحور أهله.
إنها محاولة لتحطيم الصحوة وللقضاء على الأصالة ولطرح مزيد من الشبهات والشكوك والسموم على الطريق الذي أصبح صالحًا ليسلك عليه المسلمون إلى إقامة المجتمع الرباني، إنها محاولات يائسة لإفساد الفكر ولتزييف التاريخ ولهدم القيم تحت أسماء إسلامية، ومن خلال صحف محتوية للتغريب والغزو الفكري، ففي روايته الحسين شهيدًا كان حريصًا على أن يصور المجتمع الإسلامي بعد أن اختار الرسول الرفيق الأعلى بنصف قرن في صورة بشعة، وكأن هذا المجتمع قد تداعى وتهاوى وصار مجتمع عربدة وفجور، ومجتمع شقاق ونفاق ومجتمع جبن وضعف ومجتمع خيانة ونكث للعهود، مع أن المجتمع كان لا يزال يزخر بعدد كثير من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه عدد ضخم من التابعين لهم بإحسان (وهذه متابعة لخطة طه حسين) التي جرى عليها في الهجوم على الصحابة وأتباعهم أما في دراسته عن الإمام علي فقد اعتمد على مراجع معينة أغلبها مشكوك في صحتها وفي مقدمتها الأغاني، وفي هذا تابع أهواء الدكتور طه وخطته حتى ليخيل إلي أنه امتداد حقيقي وتجديد استشراقي تغريبي لأفكار طه حسين المسمومة التي بثها في كتابه الفتنة الكبرى وعلي وبنوه في الأربعينات يجددها الشرقاوي في الثمانينات.
فقد جرى وراء القصص البراق، واعتمد على المصادر المضلة وساير خصوم الشيخين أبي بكر وعمر من الباطنية وحاول أن يلحق الإساءة بالسيدة عائشة على هوى بعض الفرق.
- ويمكن أن نقول بوضوح أن عبد الرحمن الشرقاوي القصاص الذي. يغلبه الخيال والبريق والرواية المثيرة لا يصلح مؤرخًا ولا يمكن أن يقبل منه كل ما كتب على أنه تاريخ وهو يمضي في سلك واحد مع جورجي زيدان أولا وطه حسين أخيرًا ومن العجيب أن أحدًا ممن نقدره لم يشر إلى متابعته لخطأ طه حسين في هذا المجال.
- وفي الوقت الذي يأتي كتاب غربيون يشيدون بعظمة الإسلام ورسوله ورجاله ينحرف كتاب عرب لهم أسماء إسلامية عن هذا الخط ويخوضون إلى ما تحت ركبهم في الأعراض والقبائح.
ولقد تأكد ما قاله الشيخ الشعراوي من أن الأهرام أصبحت وكرًا لأعداء الإسلام وأن موقف الأهرام من إغلاق الصحيفة على كتابها دون أن تسمح بوجهة النظر الأخرى هو من الآثام التي سوف تحاسب عليها الأهرام عندما يكتب تاريخ الصحابة، وما كانت هكذا تجري المعارك الأدبية في القديم حيث كان يسمح لكل طرف أن يعرض آرائه، وها هي الأهرام تستخدم من قبل توفيق الحكيم وزكي نجيب محمود، والشرقاوي لخدمة أعداء الإسلام.
- ولقد صدق الشيخ محمد الغزالي حين وصف الشرقاوي بأنه يجمع القمامات من كتب التاريخ ويصدق أيضًا ما وصف بأنها مؤامرة لضرب الإسلام لحساب المسيحية ولضرب الصحوة التي أدخلت في الإسلام أعلامًا كبارًا أمثال جارودي (١) وبوكاي.
ولعل أسوأ صفحات الشرقاوي هو أسلوبه في الحوار وإدخاله الإقذاع والسخرية فهو كاتب يمكن أن يوضع في صف الشعراء القدامى الذين تخصصوا في الهجاء المقذع الذي يرفضه الإسلام أسلوبًا للحوار فما بالك وصاحب الحق في الرد لا يمكن من أن يقول كلمته في نفس المكان، أي.ظلم هذا" (١).
* مآخذ على كتابات الشرقاوي حول الإمام علي:
أولاً: إن مصادر الكتابة عن الإمام علي - رفاقه ومنهج البحث في سيرة الصحابة تختلف عن المصادر ومنهج البحث في التاريخ العام، وهو لم يلتزم بهذا المنهج بل عمد لكتب التاريخ وغير كتب التاريخ فاستقى منها مادته وأخباره، فرجع إلى كتاب "الأغاني "، وهو مرجع لمؤرخي الأدب في العصر العباسي يجمع أخبار الشعراء والأدباء والمغنيين والمغنيات ومجالس الشراب والطرب، فإذا وجدت فيه معلومة عن صحابي أو تابعي فيجب الوقوف أمامها طويلاً، للبحث عما إذا كانت قد وردت في مصدر تاريخي أصيل مما تتكفل به أصول البحث العلمي، ومصطلح علم الحديث وأصول الرواية في معرفة حال الرواة وصحة المتن وطريق التحمل ولكن الشرقاوي سوى بين المصادر القديمة لقدمها ولم يفرق بينها ومن هنا وقع اللبس.
- ومن مصادر الشرقاوي (الطبري) والطبري لا يشك أحد في صدقه ولكنه اعترف في كتابه أن الكتاب لا يخلو من الوقائع المكذوبة والأخبار المنحولة فلما هوجم الشرقاوي في هذا دافع عن مصدره وأهمل هذا التحذير الخطير الذي سجله الطبري في صدر كتابه.
وهكذا فإن المصادر التي رجع إليها الشرقاوي لم تكن كلها كفئًا للموضوع فوقع في ورطة إذ لم يستجب لنصح الناصحين فيها.
ثانيًا: "تناول أشخاصًا لهم بلاء وغناء وسبق إلى إلاسلام والجهاد في سبيل الله ووصفهم بما لا يليق بأمثالهم، فهم تلاميذ محمد - صلى الله عليه وسلم - والشوامخ. . . الذين هاجروا في الله بعد ما فتنوا وهاجروا وصبروا وقد قدم لنا الإمام علي في عماية فتنة وأعصار محنة، وقديمًا قرر الفقهاء والعلماء والسلف الصالحون ممن أدركوا الفتنة وجاءوا بعدها الإمساك عن الخوض فيها فإن الصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم ولكل منهم وجهة نظر واجتهاد والمخطئ فيه له أجر والمصيب له أجران.
لم يتناول الكاتب دور اليهود في هذه الفتنة التي آثر الخوض فيها وما فعله عبد الله بن سبأ وأشياعه والمخدوعون به فهم أسبابها وما أشبه الليلة بالبارحة ولم ينهج نهج المحدثين وأهل الأثر من نقده الأخبار على مقتضى قوانين الرواية والجرح والتعديل الذي ميز الله به أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وراح يسوق الأخبار ومنها الملفقة كأنها حقائق مسلمة ويبني عليها اتهامات ويصدر أحكامًا قاسية وهي أخبار واهية لا تحل روايتها فضلاً عن اعتمادها في تقرير حكم أو توجيه لوم خاصة إذا كانت تحمل في ثناياها دليل بطلانها، ولم يشر إلى مرجع واحد من مراجعه التي اعتمد عليها، فإن كثيرًا من أئمة المؤرخين قد ينقلون الشائعات والأخبار التي لا تصدق، ولكن بأسانيدها اعتمادًا على أن الناس سيبحثون الأسانيد فيتقبلونها أو يرفضونها.
(عن بحث الأستاذ عبد المعز عبد الستار بتصرف)
ثالثًا: إلحاحه في قوله: "ليس لبني إسماعيل فضل على بني إسحاق ولا لبني إسحاق فضل على بني إسماعيل"والحق أنني ألمح منها كيدًا خفيًا من عمل اليهود وإفكًا افتروه، بعد أن عزلهم الله عن قيادة البشر وجعلها في العرب من بني إسماعيل فاليهود من يريدون أن يتساووا مع العرب والمسلمين ويستغلوا المبدأ ويقرروا أنهم يرتقون إلى مستوى المسلمين على ما بهم من بغي وكفر وقساوة قلب، وعلى أخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وقولهم: "ليس علينا في الأميين سبيل"، ونحن نقول: "بل. لبني إسماعيل اليوم فضل على بني إسحاق"، وللعرب فضل على اليهود بعد ما أثبت اليهود ببغيهم وعداوتهم أنهم على مدى التاريخ وراء كل فتنة وسبب كل محنة وأنهم كالمشركين لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ ولا ذمةً.
رابعاَّ: غرق عبد الرحمن الشرقاوي في أباطيل الرواة وفي "الروايات الضالة فأجرى على لسان (الإمام علي) عبارات ما كان يمكن أن تجري على لسانه، وتقوَّل عليه أخبارًا كاذبة كمثل ما نسب إليه من أنه قال أنه كان أولى من أبي بكر وعمر بالخلافة.
خامسًا. انزلق عبد الرحمن الشرقاوي في أعراض الصحابة واندفع بهدف ونية مُبيتة وليس من باب الخطأ، أو عدم الإحاطة بالمصادر، ولا كانت هذه الفترة من تاريخ الإسلام شائكة، وكان هو غير متخصص في التاريخ وقليل الدراية، والعلم بالصحابة بحيث يجب أن يتناول تاريخهم بأسلوب مختلف، يقوم على احترامهم ومعرفة قدرهم وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا حين قال: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، ويقول. "لا تسبوا أصحابي، من سب أصحابي فقد سبني".
وقد بدا القصد من سياق السرد وهو النيل من الآخرين ومن سابقته بالذات، وهي نقطة مهمة كان لا بد من إثارتها، وكانت عبارات الكاتب تستهدف التنقيص ممن قبله من الخلفاء - رضي الله عنهم - أجمعين.
وقد قصد الكاتب إلى إثارة خلاف في هذه الآونة بين طائفتين أو أكثر من المذاهب الإسلامية وإيجاد بلبلة وتباغض بين تلك الأمم والمذاهب ومن هنا دخل في الخطر الكبير الذي جاء عنه التحذير في بعض الآثار: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها".
الأخطاء كثيرة وكأن بالرجل يرمي إلى شيء من وراء هذه المغالطات غير العلم فابتعد عن الحقائق، وماذا يقصد بأوصافه التي أتى بها خياله عن. ليلة زواج ذي النورين عثمان - رضي الله عنه - من نائلة، وهو الذي كانت تستحي منه ملائكة الرحمن، ومن أين له هذا الوصف البعيد كل البعد عن العلم وعن التاريخ وأقرب ما يكون إلى روايات الجنس، ثم كتاباته عن أم المؤمنين عائشة وعن الصحابة طلحة والزبير وغيرهم عندما وصفهم بغير أوصاف المؤمنين وهم المؤمنون حقًا.
عن (عبد الله الأنصاري) بتصرف.
سابعًا: بدأ الشرقاوي خطته بأن ألف كتابه "محمد رسول الحرية"على أساس أن الإسلام مظهر للصراع بين الطبقات وأن الأصنام تم صبها حول الكعبة لأسباب مادية وتم هدمها كذلك لأسباب اقتصادية ومضى في طريقه يفسر الوقائع بمعايير الفكر اليساري ويقرأ كتب التاريخ غير مميز بين حقيقة وشائعة، وبين صحيح وموضوع وغير مدرك لمكانة الرجال الذين يتحدث عنهم فجاءت كتاباته بعيدة كل البعد عن المنطق العلمي، كما جاءت بعيدة الأثر في الإساءة إلى الإسلام والصحابة وإلى الآمال المرجوة في الصحوة الإسلامية وجمع الشمل وقد ردد الشبهات والتقط النقاط المشكوك فيها التي تعينه على باطله، ومنها الخطبة المنسوبة إلى علي بأنه أولى بالخلافة من أبي بكر وعمر وهي خطبة تعني أن الخلفاء الثلاثة كانوا مغتصبين حقًّا ليس لهم وأنهم طلاب دنيا وعشاق رياسة وأن جمهور الصحابة جبن عن مظاهرة صاحب الحق المقرر، وهذا النسق يرمي إلى فتح الباب للطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
ودعواه أن بني النضير أسلموا باطل فما أسلم بنو النضير يومًا، وأنهم حاولوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما كان بينهم في بعض الشئون وهناك قضية وهب لها الشرقاوي فكره ونشاطه، ويريد أن يجر الإسلام إليها جرًا دون هوادة، هل للمسلم أن يدخر أو يكنز بعد أن يؤدي الحق المقرر عليه في ماله،. أم يجب إلا يمسك عنده شيئًا فوق حاجته وهو يؤكد أنه لا يجوز استبقاء شيء لصاحبه فوق نفقته العادية، إن هذا هو ميل إلى نظرية كارل ماركس (لكل حسب حاجته)، ولكنه يصور الرأي الذي ارتآه على أنه من الكتاب والسنة، وهو يحاول أن يجعل علي بن أبي طالب ضد رأس المال مهما أدى ما عليه من حقوق وهو يحاول أن يجعل عثمان كأحد الباشوات أو اللوردات الذين يشبعون شهواتهم ويرهبون المجتمع بفضول أموالهم ومن المقرر أن كتابات عبد الرحمن الشرقاوي لا تحكي تاريخًا إِسلاميًّا، فهو يساري يريد أن يجعل الإسلام وتاريخه مصبوغين باللون الأحمر والتفكير المادي ويسوق الحوادث سوقًا لخدمة هذا الغرض.
فهل صحيح أن الصراع بين التوحيد والوثنية كان صراعًا طبقيًا كما يقول الأغنياء يدافعون عن وجودهم والفقراء عن حقهم في الحياة الكريمة، وعن أحلامهم في عالم أفضل، أي أحلام هذه وهل صحيح أن موسم الحج كان "يستثمر هؤلاء الأغنياء أموالهم في البيع والشراء والربا فيربحون ويربحون، وهذه الأصنام هي التي تمنحهم كل سلطاتهم على الأجراء والمعدومين والعبيد وأبناء السبيل وواجه محمد هذا كله بأن الأصنام ضلال مبين فهو يلعن الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، هكذا يقول الشرقاوي في تصوير الرسالة الإسلامية. صراع بين الغنى والفقر لا وجود له إلا في دماغ المؤلف.
وآية عدم اكتناز الذهب والفضة نزلت بعد اثنتين وعشرين سنة من بدء الرسالة ولا صلة لها بعبادة الأصنام أو الحرب التي شنها الإسلام على الوثنية من أول يوم. حتى الهجرة إلى المدينة جعل لها الشرقاوي أسبابًا اقتصادية فإن المرابين في المدينة كان ضغطهم أقل، والهوان الذي يتعرض له المدينون كان أخف، تأمل قوله: هنا مجتمع آخر أكثر تقدمًا من مجتمع مكة، هنا علاقات
اجتماعية أخرى أكثر قابلية لتعاليم محمد، فالمرابي اليهودي لم يكن قادرًا على استعباد المدين العربي إذا عجز عن الوفاء كما كان يحدث في مكة، ولم يكن له الحق في أخذ امرأة المدين أو ابنته لإكراههما على البغاء كما كانت تفعل قريش، وأجير الأرض في المدينة أعلى درجة من عبيد مكة الذين كانوا يحرسون القوافل والمصارف إلخ.
ليس في هذا الكلام كله ذرة من صدق، والقول بأن العرب كانوا يسترقون المدين المعسر، ويستوفون ديونهم من استرفاق امرأته وابنته وإرغامهما على الزنى، كلام مكذوب، ما كان شائعًا لا في مكة ولا في المدينة وبالتالي فلا صلة للهجرة بهذه الأوضاع المختلفة.
إن هذا الكلام ليس تشويه تاريخ، بل هو تزوير تاريخ، أو كما يقال في مصر (سمك، لبن، تمر هندي) وليس في القرآن ولا في السنة المطهرة ولا في السير المؤلفة عن صاحب الرسالة ما يترك مثل هذا الانطباع الغريب، عن الجو الذي بدأت منه تعاليم محمد. كما يصف عبد الرحمن الشرقاوي الإسلام ونبيه وما نزل عليه من وحي وما تمخض عنه من حضارة.
عن الشيخ (محمد الغزالي بتصرف)
* مسرحية الحسين شهيدًا:
الأصابع الحمراء تشوه حقائق المعارك الإسلامية وتشهر بالصحابة الأجلاء (أحمد الشرباصي، محمد الطيب النجار، زكي البنهاوي) نشرة الاعتصام - مايو ١٩٧٥ عن هذه الدراسة للمسرحية تحت عنوان: "مسرحية الحسين شهيدًا".
١ - المسرحية تظهر شخصية الحسين وشخصية السيدة زينب - رضي الله عنهما - وهما من آل بيت الرسول الأعظم، وقد تكررت الفتوى من العلماء المسئولين بمنع. إظهار هذه الشخصيات الطاهرة.
٢ - تردد في المسرحية التشهير بجماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم قدوة لنا وقد نوه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمكانة أصحابه في أكثر من حديث شريف ومن واجبنا أن نبرز مفاخرهم ونركز عليها ونهتم بها وألا نطيل الوقوف أمام ما نسب إليهم من خلاف أو أخطاء.
٣ - ترددت في المسرحية عبارات الاتهام بالكفر والخروج عن الإسلام وعبارات اللعنة والتغريض الشنيع بالحرمان وهذا كله بين مجموعة تنتسب إلى الإسلام وجاءت فيها ألفاظ خارجة مثل (أبناء الأمهات الزانيات، يا ابن الفاعلة، يا ابن البرصاء، الدعي بن الدعي).
٤ - صورت المسرحية العصر الأموي تصويرًا يجافي الحقيقة في بعض النواحي فوصفه بأنه عهد الإقطاع والأطماع وجردت الأمويين من كل خير ونحن لا ننكر أن هذا العصر فيه عيوب ومآخذ، ولكن هذا العصر شهد أيضًا فتوحات إسلامية كثيرة، وكان فيه جهاد ونضال فكيف نجرده من كل حسنة، ونبالغ في تصوير فساده كل هذه المبالغة.
٥ - والعجب كل العجب أن يوجد "وحشي بن حرب"بين شخصيات هذه المسرحية؛ لأن أحداثها تدور في سنة ستين للهجرة ووحشي بن حرب قد مات سنة خمس وعشرين للهجرة في خلافة عثمان - رضي الله عنه - فوحشي إذن لم يدرك شيئًا من أحداث هذه المسرحية فكيف يضاف إلى أشخاصها.
٦ - هناك نوع من القسوة في الحكم على معاوية مع أنه صحابي ومن كتاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد ذكرت المسرحية أنه عطل أصلاً من القرآن وزيف قاعدة الشورى وأهدر أحكام السنة إلى غير ذلك من التهم الشديدة التي يختلف في تحديدها المؤرخون والباحثون.
٧ - جاء على لسان الحسين - رضي الله عنه - وأرضاه أنه ذهب حينما اشتدت المحنة. إلى قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال يخاطب النبي: جدى، أنا لا أعرف ما أصنع فأعني "والحسين خير من يعرف أن العون إنما يلتمس من الله تبارك وتعالى، وجد الحسين هو نفسه القائل: "إذا استعنت فاستعن بالله"فضلاً عن أن الواقعة لا نصيب لها من الصحة.
٨ - ذكرت المسرحية أن (يزيد) قد فرح بمقتل الحسين - رضي الله عنه - وهذا يخالف الواقع؛ لأن التاريخ يذكر أن يزيد قد توجس شرًّا من قتل الحسين وأنه بكى حين رأى رأسه ولسنا ندري لمصلحة من يظهر يزيد وهو حاكم المسلمين على أقل تقدير - في مظهر حقير مثير لو كان أمرًا واقعًا لما كان من الحكمة إبرازه.
فقد قدمت المسرحية عقب مقتل الحسين شخصًا يبدو مخمورًا والجواري تمتطين ظهره وينخسنه فيسير بهن كالحمار والتاريخ يذكر فيما يذكر أن يزيد كان متهمًا بالانحراف عن الآداب الدينية قبل المبايعة له فلما تولى الحكم انصرف عن هذا الانحراف أو على الأقل لم يجاهر بمثل ما كان يجاهر به من قبل.
٩ - أن المسرحية مع الأسف كأنها تحرص على تصوير المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنصف قرن فقط في صورة بشعة، وكأن هذا المجتمع قد تداعى وتهاوى، وصار مجتمع عربدة وفجور ومجتمع شقاق ونفاق ومجتمع جبن وضعف ومجتمع خيانة ونكث للعهود مع أن المجتمع كان لا يزال فيه عدد كبير من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه عدد ضخم من التابعين لهم بإحسان.
١٠ - تردد في المسرحية أكثر من مرة التعريض بنظام الجواري حيث تناول الأشخاص عبارات الاتهام باللهو والتمتع بالجواري، على سبيل التعريض والتهكم مثل هذه العبارات (ما يجيد سوى مصاحبة الجواري)، (تمتع بجواريك الأبكار الخرد)، (سوق الإماء).
١١ - تناثرت عبارات مأخوذة من جو غير إسلامي مثل هذه العبارات (ما جئت لألقي سيفًا) (جئت لألقي موعظة) (لأملأ كل بيت بالمحبة، جموع الفقراء) (يا مطفئ نور الحضارة).
١٢ - اختير لون السواد لطائفة من الممثلين والممثلات وهذا السواد شعار طائفي مذهبي خاص فهل من المصلحة إثارة مثل هذه الطائفية، وكذا بدا من قام بدور الحسين في ثياب تشعر بأنها إيحاء بشخصية غير إسلامية، وإن كانت شخصية لها مكانها في نظر المسلم.
وكان هناك في نص المسرحية نواح وندب وتعديد وقد طال هذا وامتد فما مدى اتفاق ذلك مع تعاليم الدين.
كذلك جاء على لسان أحد الأشخاص من أتباع الحسين - رضي الله عنه - ما يفيد، أن قتال المعارضين للحسين خير من قتال المشركين فهل يحكم على عقائد الناس بمثل هذه السهولة.
* عبد الرحمن الشرقاوي شاعر الرؤية الخائنة ومسرحيته "وطني عكا ":
لقد أيّد الشرقاوي خط الصلح الكامل مع إسرائيل الذي أنتهجه السادات، وكان موقفه هذا قد سبقه تقديمه لمسرحيته "وطني عكا"التي طرحها عام ١٩٦٩، وكان عبد الرحمن الشرقاوي بكامل قواه العقلية والأيديولوجية متبنيًا لتلك المغالطات التي رددها الشيوعيون العرب حول قضية فلسطين وعلاقتنا بالكيان المغتصب وهي نظرة ومغالطات لحثالة من الشيوعيين شوهاء مجرمة ظلت تعتقد بوجود شعب طيب في "إسرائيل"تحكمه قلة رجعية لا تمثل الغالبية، وأنه لو تغير نظام إسرائيل -يقصدون الكيان الصهيوني- من الرأسمالية إلى الماركسية تنعدل الأمرر وتنتهي المشكلة. أي أن الشرقاوي كان يعبر -ولا شك أنه نجح في التعبير- عن رؤية خائنة شوهاء لمستقبل أهم وأوضح قضية من قضايانا على المستويين القومي والإسلامي.
ويبدأ الشرقاوي في تقديم افتراضات -ليس لها أي مبرر مادي- لنماذج من العسكرية الإسرائيلية، يفترسهم تأنيب الضمير صبيحة انتصارهم عام ١٩٦٧! ويظهرون كلهم كضحايا تضليل الصهيونية (لاحظ الدس لايجاد شعور بأن هناك فارقًا بين الصهيونية وبين دولة إسرائيل! ).
- وعندما نصل إلى المشهد الأخير يصور لنا الشرقاوي نضج وكثافة ما ادعاه -طوال المسرحية- من الأصوات الحرة التي ارتفعت داخل إسرائيل وتأثيرها في الموقف الحاسم، عندما يأمر الضابط الإسرائيلي "يعقوب"بنسف القرية العربية إذا لم تسلم الفدائيين، فيتقدم الضابط الإسرائيلي (الحر) "سلامسكي"معترضًا في غضب وثورة على أمر قائده "يعقوب" (ولا يضربه بالرصاص كما هو متبع في مخالفة الأمر العسكري أثناء معركة، بل يجادله بالحسنى! ) ونجد ضابطا إسرائيليًّا آخر (حرًا) كذلك اسمه "سعد هارون"من يهود فلسطين القدامى - يؤيد معارضة "سلامسكي"متخذًا أسلوبًا دينيًا كهنوتيًا في التعبير عن رفضه لأمر الضابط (يعقوب) بنسف القرية العربية.
وفي هذه اللحظة نفسها -والشرقاوي يصور لنا الأصوات الحرة في إسرائيل تعارض وتمنع الذبح والنسف والقتل، وهي تبدو متغلبة ومنتصرة على التيار المعادي للعرب في هذه اللحظة بالذات يدخل الفدائي الفلسطيني (أبو حمدان) بالمفرقعات وبخدعة ساذجة يستطيع أن يقنع الفرقة العسكرية الإسرائيلية (والتي تبدو طيبة وإنسانية إلى درجة البراءة) يقنع الفرقة بالالتفاف حول صندوق المفرقعات فينفجر ويقتل الفرقة العسكرية كلها .. ويضاء المسرح ونرى الفرقة الإسرائيلية الإنسانية جثثًا مبعثرة على الأرض .. أشلاء الأصوات الإسرائيلية (الحرة) التي قتلها الفدائي الفلسطيني.
- وبهذا يصل الشرقاوي بمدلول اللغة المسرحية المرسلة مع هذا المشهد - إلى أن المقاومة الفلسطينية، إنما تقتل بأعمال "العنف"الأصوات الحرة التي. نكسبها داخل معسكر الأعداء!! وبذلك يخلص حضرته إلى إدانة المقاومة.
لصالح تلك الأصوات الحرة المزعومة، التي يدعي وجودها في داخل الكيان الصهيوني المعتدي، والتي تدعونا المسرحية إلى الأعتراف بها والتعاون والتعاطف معها، وفق خطة رؤية خائنة مضللة طيلة العرض المسرحي.
لاحظ التخاريف الشرقاوية التي تقول أننا داخل الكيان الصهيوني ننجح في تشكيل تيار لصالحنا، ولعلنا لا ننسى المفارقة في أن الكيان اليهودي -للأسف- هو الذي نجح في تشكيل تيار عام داخلنا نحن لصالحه!
ومن المفارقات أن تكرَّم هذه المسرحية من قبل بعض ممثلي المقاومة الفلسطينية الذين قدّم (أبو إياد) باسمهم درع المقاومة، جائزة تقديرية للمخرج كرم مطاوع والمؤلف عبد الرحمن الشرقاوي عن عملهما ذاك الشائن" (١).
* مدحت باشا الخائن والمؤامرة على الخلافة في تركيا:
المؤامرة على تركيا الخلافة مؤامرة على الإسلام بدؤها مدحت. ووسطها الاتحاديون. وختامها أتاتورك.
لماذا هذا الحقد الشديد البالغ من أقلام عربية لكتاب مسلمين جغرافيًّا على الخلافة الإسلامية والجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية والتضامن الإسلامي الذي تشرق في هذه الأيام شمسه وتبدو علاماته وتعلو راياته بعد أن تعددت كتابات الكتاب عن الصحوة الإسلامية بأنه "ضربة موفقة"، أو قول أحد المؤرخين الشعوبيين: "وهكذا سقطت الخلافة الإسلامية إلى الأبد"!.
وقد نسي هؤلاء وأولئك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون. .ملكًا عاضًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت" (١).
وما ينطق الرسول عن الهوى. وهذا الحديث الصحيح يؤكد عودة الخلافة الإسلامية مرة أخرى على نحو أوثق صلة بحكم الله ونظامه الذي جاء به القرآن الكريم. ولقد كان سقوط الخلافة الإسلامية (حدثًا) خطيرًا لم يكتب عنه بعد، وكان له أثره في نفوس العاملين في حقل اليقظة الإسلامية.
وقد كان مصدرًا لقيام المفهوم الصحيح للإسلام بوصفه منهج حياة أو نظام مجتمع. وما من دعوة إسلامية إلا وقد أخذت على أهلها العهد بالعمل لعودة الخلافة الإسلامية متى جاء أوانها، وما تزال الحركات الإسلامية كلها عاملة على هذا النهج، سائرة في هذا الطريق.
ولا ريب أن قيام عدد من المنظمات الإسلامية العالمية هي بشائر الخير في هذا الطريق. فإن الدعوة إلى قيام الجامعة الإسلامية أصبح اليوم عملاّ ضروريًّا بعد أن فسدت الدعوات الاقليمية والقومية، وفي مقدمتها الجامعة العربية. ولا بد للمسلمين من أن يصلوا إلى الطريق الحقيقي لمواجهة تآمر الغرب والصهيونية والشيوعية عليهم وهو إحياء جامعتهم وإقامة خلافتهم.
* معلومات مسمومة:
ولست أدري لماذا هذا الاهتمام بإعادة طرح معلومات مسمومة كاذبة
.مضللة انتشرت زمنًا وكانت أشبه بالمسلمات، روجها اليهود والمارون ثم تبين زيفها وتكشفت الحقائق التي تدحضها؟!
لماذا العودة إلى الزيف بعد أن ظهرت الحقائق؟!
ولماذا الادعاء بأن مدحت مصلح. وأن مصطفى كمال أتاتورك مجاهد؟!! - والحقيقة أن للرجلين ومن بينهما من رجال "الاتحاد والترقي"هم عملاء النفوذ الأجنبي والصهيونية. لقد تكشفت هذه الحقائق في العالم الإسلامي كله، ولم يعد في إمكان كاتب ما أن يضلل الناس بإعادة هذه الأكاذيب وصفِّها، وخداع الناس في أمر رجل كان والده حاخاما يهوديًّا مثل (مدحت) أو رجل هو من الدونمة أصلاً مثل (أتاتورك) إن الدعاوى الصهيونية والغربية قد خدعت المسلمين طويلاً بتزييف صفحة الدولة العثمانية، والسلطان عبد الحميد من أجل هدف معروف وواضح هو إسقاط هذا السلطان، وإزالة الدولة العثمانية، وهدم الخلافة الإسلامية لتمكين الصهيونية العالمية من الوصول إلى فلسطين، والاستقرار في القدس!!
لقد كان أتاتورك والاتحاديون هم مادة تجربة جديدة فاسدة أُريد بها القضاء على النظام الإسلامي، وهدم الشريعة الإسلامية وإقرار نظام العلمانية والمادية والوثنية في المجتمع والتربية والسياسة في البلاد الإسلامية، ومحاولة لجعله مثلاً أعلى للتقدم والتجديد. ثم جاءت أحداث التاريخ بعد خمسين عامًا لتكشف زيف هذه المحاولة وفسادها بعد أن تعددت حلقات هذا الغزو التغريبي الذي تجئ الأحداث يومًا بعد يوم بمثابة الدليل الأكيد على فساد هذه التجربة وعلى سقوط هذا المنهج ومؤكدة بأن المجتمع الإسلامي الأصيل القائم على فكرة التوحيد الخالص منذ أربعة عشر قرنًا يرفض العضو الغريب، ويتأكد له بعد التجربة المتصلة مع الديمقراطية الغربية والاشتراكية الماركسية وفشلهما أن السبيل الوحيد أمامه هو المنهج الرباني الأصيل، وأن الذين
حرضوه طوال هذه السنين بالتماس المنهج الغربي (شرقية وغربية) سبيلاً للنهضة في العالم الإسلامي لم يكونوا صادقين في دعواهم فإن هذا الأسلوب في الاحتواء والعمل على صهر المسلمين في بوتقة الأممية الغربية كان من نتائجه سقوط الخلافة الإسلامية، والدولة العثمانية، وسقوط فلسطين والقدس في أيدي الصهيونية، والحيلولة دون امتلاك المسلمين لارادتهم وتطبيق شريعتهم الإسلامية والعمل على منعهم من أداء فريضة الجهاد، أو إمتلاك القوة القادرة على تجديد بناء الحضارة الإسلامية القائمة على العدل والرحمة والإخاء الإنساني.
* مدحت باشا:
إن الصورة التي رسمتها تلك الكتابات المسمومة لمدحت باشا كاذبة ومضللة. فلم يكن مدحت بطلاً قوميًّا ولكنه كان واحدًا من قوى المؤامرة التي أعدت بإحكام للقضاء على الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية، وقد كان أمره مكشوفًا لدى السلطان عبد الحميد الذي كان قد وضع يده على مخطط الدونمة بالاشتراك مع أحرار الترك الذين كانوا قد جندوا لخطة إزالة الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية من طريق الصهيونية بعد أن حققت قبل ذلك إزالة الجيتو بالثورة الفرنسية وما كان مدحت شهيدًا في الحقيقة؛ لأن الشهادة لا تكون للخونة، وما قتلوه في الحقيقة، ولكنه قتل نفسه بخيانته لوطنه وللإسلام، والعمل على تمكين اليهود من النفوذ، وهو من الدونمة الذين دخلوا في الإسلام تقية لإخفاء هويتهم، ولتدمير الدولة العثمانية من الداخل. وكان يعمل بتوجيه من المتآمرين المقيمين في باريس، والمتآمرين المقيمين في سالونيك. ولم يكن الدستور الذي دعا إليه مدحت إلا محاولة لإخراج الدولة العثمانية من النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية وتغليب نفوذ العناصر المعادية للإسلام، وتمكينها من الانقضاض على الدولة.
- وكان السلطان عبد الحميد يعلم مدى ما تهدف إليه المخططات الصهيونية. ولقد شهد المؤرخون المنصفون بأن الدولة العثمانية الإسلامية قد تسامحت إلى أبعد حد مع العناصر غير الإسلامية، ومكنتهم من أداء عباداتهم وإقامة شعائرهم، وفتح المدارس وإقامة الجماعات إلى الحد الذي كان عاملاً من عوامل تمكنهم من التآمر على الدولة وإسقاطها. ولقد كان السلطان عبد الحميد هو نقطة المؤامرة في الحقيقة لأنه وقف أمام مطامعهم وأهوائهم، ورد (هرتزل) عن محاولاته ومؤامراته بالرد الحاسم وسمع من ممثل اليهود أن ذلك سيكلفه عرشه أو حياته فلم يتردد في تضحيته وقد كشف السلطان عبد الحميد في مذكراته دور الدونمة ورجال الاتحاد والترقي.
* الانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية:
وإذا كانت هناك محاولة للانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية، واتهامها بالتقصير، فإن هناك ما يؤكد كذب ذلك، وما أورده جمال الدين في حديثه إلى المخزومي باشا في كتابه (خاطرات جمال الدين) يكشف عن مدى قدرة السلطان عبد الحميد على فهم تيارات الغربيين، وقدرته على ضرب مخططاتهم وضرب بعضهم ببعض. ولقد قام السلطان عبد الحميد بإعلان تلك الصيحة المفزعة التي عجلت به. وهي قوله: "يا مسلمي العالم اتحدوا"، وكان هدفه أن يجمع المسلمين ممن هم خارج الدولة العثمانية (العرب والترك) تحت لواء الخلافة والوحدة. وفزع الغربيون واليهود من ذلك فزعًا شديدًا، فقد مضى إليه بُخطا حاسمة وحقق نتائج هامة.
ولقد كان عقلاء المجاهدين المسلمين يؤمنون بأن المحافظة على الدولة العثمانية إحدى العقائد الإسلامية بعد التوحيد والنبوة. ومن ذلك محمد عبده وشكيب أرسلان ورشيد رضا وغيرهم. وقد كانت الدعوة الحقيقة هي محاولة إصلاح الدولة العثمانية من تحت مظلة الخلافة وتعديل تنظيمات الحكم دون. إسقاط الدولة، وكان ذلك فهم أحرار العثمانيين والعرب جميعًا، وقد كان هذا ممكنًا لولا ذلك الدور الذي قامت به الماسونية واليهودية العالمية في سبيل تحطيم نفوذ السلطان عبد الحميد، وإحلال نفوذ الاتحاديين وأعوانهم الذين تربوا في محافلهم. والذين سلموا لهم فلسطين، وسلموا للإيطاليين في طرابلس الغرب، وأدخلوا الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى ولا ناقة لها فيها ولا جمل حتى يحطموها ويقضوا عليها.
* وحدة إِسلامية وليست عنصرية:
كذلك فإن علاقة مصر والبلاد العربية بالدولة العثمانية لم تكن علاقة استعمار بل إن كلمة استعمار لا تطلق إلا على النظام الغربي الحديث، وإنما كانت علاقة ترابط تحت لواء الأخوة الإسلامية، واستعانة البلاد المستضعفة بالدولة القوية، والمصريون والجزائريون وغيرهم هم الذين طلبوا من الدولة العثمانية الارتباط بها خوفًا من تجدد مؤامرات الحروب الصليبية.
* زيف ما في كتب الموارنة وأتباعهم:
ولا شك أنه من أكبر أخطاء الباحثين هو إعادة نشر ما جاء في الكتب المدرسية والدراسات التاريخية السابقة لظهور "بروتوكولات حكماء صهيون"عن السلطان عبد الحميد وتركيا العثمانية. وهذا كله زائف ومن صنع الصهيونية وأعوانهم من الموارنة. أما اليوم فإن الرؤية التاريخية المنصفة قد اتسعت ومن الظلم أن يقف الباحثون عند الحملات الكاذبة المضللة وتجاهل الرؤية الصحيحة لإبعاد الواقع التاريخي، لقد حملت كتب جورجي زيدان وأحمد أمين وغيره صورة مضللة زائفة للسلطان عبد الحميد، وصورة براقة زاهية للاتحاديين الذين علقوا العرب على المشانق ومكنوا للصهيونية وحطموا الدولة العثمانية، وهم الذين تربوا في أحضان المحافل الماسونية. وعلى. الباحث المنصف أن يرجع إلي الإضافات الجديدة التي ظهرت بعد الخمسينات والتي تكشف فساد ما كتبه جورجي زيدان وفارس نمر وسليم سركيس.
والجديد يجلو الحقيقة، فما كتبه جواد رفعت ومحمد جميل، وعبد الله التل والعقاد وخليفه التونسي وعجاج نويهض وتوفيق برو فإن هذه الكتابات قد غيرت تلك الصورة الزائفة التي ما زال يعتمد عليها خصوم الإسلام.
والقضية: أن اليهود عندما أحسوا بأن السلطان عبد الحميد قد وقف في طريقهم نهائيًّا عملوا على تصفيته، ومهدوا لذلك باتهامه بالاستبداد والفساد، وأذاعوا ذلك في صحف الموارنة في مصر مثل المقطم والهلال والمقتطف وغيرها.
ثم جاء أحمد أمين وأمثاله فنقلوا منهم؛ لأن الحقائق لم تكن قد تكشفت بعد، ولم تكن البروتوكولات قد ترجمت. إلى العربية، فلماذا هذا التزييف بحجب مرحلة من الحقائق، والعودة إلى إذاعة ما قبلها من الضلال بإعلاء شأن مدحت وأتاتورك، وهما من هما في الخيانة والتبعية.
* الرجل الصنم .. والخائن الأكبر مصطفى كمال أتاتورك الذي أسقط دولة الخلافة وأتى بالعلمانية:
- قال هذا الزنديق في افتتاح البرلمان التركي عام ١٩٢٣:
"نحن الآن في القرن العشرين لا نستطيع أن نسير وراء كتاب تشريع يبحث عن التين والزيتون" (١).
* اصطناع البطل الوهمي أتاتورك:
لقد كانت اللعبة العالمية تقتضي اصطناع (بطل) تتراجع أمامه جيوش. .الحلفاء الجرارة! وتعلق الأمة الإسلامية اليائسة فيه أملها الكبير وحلمها المنشود، وفي أوج عظمته وانتفاخه ينقض على الرمق الباقي في جسم الأمة فينهشه ويجهز عليها إلى الأبد! وهذا أفضل قطعًا من كل الـ "مائة مشروع لتقسيم تركيا" (١) وهدم الإسلام.
- وتمت صناعة البطل بنجاح باهر ووقف يتحدى الحلفاء وألقى باليونان في البحر (٢)، ولم ير الحلفاء بدًا من التفاوض معه! وكانت ثمرة المفاوضات هي - الاتفاقية المعروفة باتفاقية "كيرزن"عام ١٩٢٣ ذات الشروط الأربعة:
"١ - إلغاء الخلافة الإسلامية نهائيًّا من تركيا.
٢ - أن تقطع تركيا كل صلة مع الإسلام.
٣ - أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية في تركيا.
٤ - أن يستبدل الدستور العثماني القائم على الإسلام بدستور مدني بحت (٣).
- ويصف المؤرخ (آرمسترونج) خطوات تنفيذ الاتفاقية قائلاً:
"انطلق كمال أتاتورك يكمل عمل التحطيم الشامل الذي شرع فيه وقد قرر أنه يجب عليه أن يفصل تركيا عن ماضيها المتعفن الفاسد، يجب عليه أن يزيل جميع الأنقاض التي تحيط بها، هو حطم فعلاً النسيج السياسي القديم، ونقل السلطنة إلى ديمقراطية، وحول الامبراطورية إلى قطر فحسب، وجعل. .الدولة الدينية جمهورية عادية، إنه طرد السلطان (الخليفة) وقطع جميع الصلات عن الامبراطورية العثمانية، وقد بدأ الآن في تغيير عقلية الشعب بكاملها وتصوراته القديمة وعاداته ولباسه وأخلاقه وتقاليده وأساليب الحديث ومناهج الحياة المنزلية التي تربطه بالماضي" (١).
- وامتدح توينبي عمله واعتبره أعظم من هتلر عبقرية في فن الهدم وقطع الصلة بالماضي، وقال: "إن الدولة القومية التركية التي أقامها مصطفى كمال على النسق الغربي تبدو -وقت كتابة هذه السطور- عملاً ناجحًا لم يتحقق مثله حتي ذلك الوقت في أي بلد إسلامي آخر" (٢).
- وامتدحه ولفرد كانتول سمث -على طريقته الخاصة- قائلاً: " .. رأينا تركيا في سبيل رفعة شأنها وخلق مثل عليا جديدة لم تتردد في سحق السلطات الدينية وألغت تعاليمها وحررت الإسلام وكشفت النقاب عن الدين الحق القويم!! " (٣).
نصب مصطفى كمال نفسه إلهًا من دون الله يشرع للأمة كما يشاء، فلفق قانونًا فريدًا يتكون أكثره من القانون السويسري والقانون الإيطالي وغيرهما وأكمل الباقي من عنده، ومع ذلك فهو يدعي أنه كله من عنده قائلاً:
"نحن لا نريد شرعًا فيه قال وقالوا ولكن شرعًا فيه قلنا ونقول" (٤).
- ويصف أحد الكتاب الغربيين جلسة في مجلس النواب فيقول أن مصطفى كمال وقف قائلاً:
."إن التشريع والقضاء في أمة عصرية يجب أن يكونا عصريين مطابقين لأحوال الزمان لا للمبادئ والتقاليد".
- ثم اقتفاه وزير العدل شارحاً ومفسراً:
"إن الشعب التركي جدير بأن يفكر بنفسه بدون أن يتقيد بما فكر غيره من قبله، وقد كان كل مادة من مواد كتبنا القضائية مبدوءة بكلمة قال المقدسة، فأما الآن فلا يهمنا أصلاً ماذا قالوا في الماضي بل يهمنا أن نفكر نحن ونقول نحن" (١).
- ويعترض عليه مرة أحد القانونيين بقوله:
"إن هذا النظام الذي تريدون وضعه لا يوجد في أي كتاب للقانون".
فيتلقى الجواب التالي:
- "إن النظم ليست إلا أشياء وأموراً تكيفت ومرت من التجارب .. على أن أنفذ ما أريد وعليكم أن تدرجوا ما أعمل في الكتب!! " (٢).
ونتيجة التطرف والغلو المفرط والأعمال التي لا مبرر لها إلا تنفيس الحقد الأوربي على الإسلام ومركب النقص الذي كان يستشعره الكماليون -اتخذت تركيا المتعلمة تدبيرات وإجراءات غريبة حقًّا:
فقد ألغت بالعنف والإرهاب الكتابة التركية بالأحرف العربية ثم تجرأت فحرمت الأذان بالعربية، وكتبت المصحف أو ترجمته بلغتها الهجين، وحددت عدد المساجد وأقفلت كثيراً منها أو حولته إلى ما لا يتفق وقداسته كما فعلت بجامع أيا صوفيا، وألغت وزارة الأوقاف. وفرضت بقوة السلاح المسخ الفكري وحتى المظهري على الأمة لا سيما معركة القبعة الأوروبية التي. سالت لأجلها الدماء، وألغت الأعياد الإسلافية، وحطمت بصورة استبدادية مظاهر الحشمة والحياء الإسلافيين، فأكرهت النساء على تقليد المرأة الغربية في كل شيء وحاربت بشدة صارمة كل من اعترض طريقها من المتورعين وحتى المعتدلين شيئًا ما من الكماليين (١).
ولذلك فإن حكومة تركيا العلمانية الكمالية -هي كما وصفها الأمير شكيب أرسلان- ليست حكومة دينية من طراز فرنسا وإنجلترا فحسب، بل هي دولة مضادة للدين كالحكومة البلشانية في روسيا سواء بسواء، إذ أنه حتى الدول اللادينية في الغرب بثوراتها المعروفة لم تتدخل في حروف الأناجيل وزي رجال الدين وطقوسهم الخاصة وتلغي الكنائس (٢).
والحقيقة المرة أن مصطفى كمال قد خلق نموذجًا صارخًا للحكام في العالم الإسلامي، وكان لأسلوبه الاستبدادي الفذ أثره في سياسات من جاء بعده منهم، كما أنه أعطى الاستعمار الغربي مبررا كافيًا للقضاء على الإسلام، فإن فرنسا مثلا ًبررت تنصير بلاد المغرب العربي وفرنجتها بأنه لا يجب عليها أن تحافظ على الإسلام أكثر من الأتراك المسلمين أنفسهم!!
وليس أعجب من هذا الرجل وزمرته إلا من ينادون اليوم -من الزعماء- بإقامة حكومات علمانية في بلادهم ويقولون: أن مصطفى كمال هو قائدهم الروحي.
* حقيقة أتاتورك:
- يقول الأستاذ أنور الجندي: "إن أتاتورك في الحقيقة لم يكن مجاهدًا. ولا مصلحًا، وإنما كان تتمة الاتحاديين لقد أخروا دوره في المرحلة الأولى قبل الحرب ليتولى الدور الثاني.
فالاتحاديون أسقطوا الدولة العثمانية بأن أدخلوها الحرب لتصفي ماليتها ووجودها.
وجاء أتاتورك ليفرض عليها اللون الغربي، وينقلها نقلة واسعة عن دولة الخلافة الإسلامية إلى دولة علمانية تكتب بالحروف اللاتينية، ويقضي على الإسلام تمامًا، ومعاهدته السرية المعروفة التي عرفت بمعاهدة لوزان تكشف ذلك في وضوح.
وقد استطاع أتاتورك إخفاء وجهه الحقيقي حتى يؤدي دوره كاملاً فخدع المسلمين في المرحلة الأولى بالصلاة وإمساك المصحف، وطلب الدعاء منهم.
أما دوره في الجهاد في أزمير فقد كشفت الوثائق أنه كان زائفًا، وأن غيره هو الذي قام بدور البطولة، وأنه استلب منهم هذا المجد وحطمهم ونسبه إلى نفسه.
ولقد كان أتاتورك عميلاً غربيًا كاملاً، وعميلاً صهيونيًّا أصيلاً، وقد أدى دوره تمامًا، وأقام تلك التجربة المظلمة المريرة التي تركت آثارها من بعد على العالم الإسلامي كله، والتي كشفت الأحداث في الأخير فسادها، وتبرأ الأتراك المسلمون من تبعتها، وكانت ظاهرة عودتهم إلى الأصالة مرة أخرى دليل على أنها كانت تجربة زائفة مضادة للفطرة ولطبائع الأشياء، والدليل إن المسلمين لم يتقبلوها بل رفضوها، وقد كشف أكثر من مستشرق وفي مقدمتهم (هاملتون جب) أن العرب لن يقعوا في براثن هذه التجربة التي خرجت بهم عن الأصالة وعن الذاتية الإسلامية.
ولقد كان من أكبر معالم اضطراب كمال أتاتورك أنه عندما أحس بدنو أجله أن دعا السفير البريطاني ليتولى بدلاً منه رئاسة الدولة التركية، كعلامة. ..من علامات الخسة والنذالة والخيانة!!
وقد صفع المؤرخ العالمي آرنولد توينبي التجربة الكمالية التي يفخرون بها ويمجدونها الآن بعد أن رفضها أهلها وحكموا بفسادها. يقول توينبي: إن الأتراك كانوا عالة على الحضارة الغربية، وأنهم تغربوا ولم يقدموا أي شيء إلى هذه الحضارة، فكانوا عاجزين عن الإبداع في أي مجال من مجالات الإنتاج.
والواقع أن مصطفى كمال أتاتورك لم يكن كما يدعي المدعون شيئًا جديدًا، ولكنه كان حلقة في المؤامرة بدأها مدحت، وكان وسطها رجال الاتحاد والترقي للقضاء على السلطان والدولة العثمانية. ثم ختمها أتاتورك بالقضاء على الخلافة الإسلامية، ولا ريب أن انتقاص قدر الدولة العثمانية وحكامها مجاف لواقع التاريخ، وهو من عمل أتباع التغريب والشعوبية، وقد جرى ضمن مخطط يرمي إلى إثارة الخلافات والخصومة بين عناصر الأمة الإسلامية، وكان دعوة للوقيعة بين العرب والترك والفرس، وهم عناصر الأمة الواحدة التي جمعها القرآن وقادها محمد - صلى الله عليه وسلم - وآمنت بأنه لا إله إلا الله مهما كانت هناك خلافات فرعية فإنهم جميعًا أمة واحدة، ولو كان هناك قليل من الإنصاف والأمانة التاريخية لدى كتابنا المزيفين لراجع الكاتب ما كتبه أستيورت وهو غربي في كتابه "حاضر العالم الإسلامي قبل أربعين عامًا"، وكيف تحدث عن عظمة الدولة العثمانية ودورها الذي قامت به في وجه الصليبية الغربية.
- أما صيحة العناصر والأجناس التي حاول كاتب أخبار اليوم أن يجعلها قضية فإنها لم تكن كذلك في ذلك الوقت، وإنما هي المؤامرة التي عمد النفوذ الأجنبي بها إلى استغلال صيحة القوميات لتفكيك عرى الدولة العثمانية، أما المسلمون فلم يكونوا يعرفون مصرية وسورية وجزائرية وغيرها. ولا كلمة العروبة نفسها، ولكنهم كانوا مسلمين فحسب، وإنما ظهرت هذه الدعوات إلى الإقليميات والقوميات بتحريض عناصر غير مخلصة لتفكيك عرى الوحدة، وهدم هذه الجامعة الإسلامية التي كان الغرب يخشاها، ولإقامة قومية زائفة هي القومية الصهيونية.
ولا ريب أن الأسلوب الذي اتخذ في إسقاط السلطان عبد الحميد هو أسلوب لم يعرفه النظام الإسلامي في تاريخه كله وهو من صنع المؤامرة الصهيونية التلمودية التي استطاعت أن تحمي وتحرك هذا الخداع عن طريق قوة عسكرية تتحرك هاتفة باسم السلطان خدعة ثم تكون في نفس الوقت متآمرة عليه لخدمة هدف غامض على كل الذين قاموا به، ولا يعرفه إلا القليل وهو إعادة اليهود إلى فلسطين.
كذلك فإن ما قام به أتاتورك لم يكن نصرًا عسكريا أو سياسيًّا وإنما كان هناك إشارة بقبول التوجيه الغربي: وتوقيع ملحق معاهدة لوزان وهو الذي فتح الطريق إلى كل شيء، وبه حلت جميع المشاكل، وانسحبت كل الجيوش، وتحقق ما يسمى النصر والاستقلال، وكتبت على أثر ذلك آلاف الكتب في تمجيد البطل الذي لم يكن إلا عميلاً من عملاء الخيانة لحساب الصهيونية العالمية والنفوذ الغربي والشيوعية أيضًا، فإن الشيوعيين هم أول من عاونه لقاء موقفه من عداء الإسلام ".
* عدوه الأكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
كان أتاتورك في فندق "بارك"وكان المؤذن يرفع الأذان في المسجد الصغير الكائن أمام الفندق مباشرة، يلتفت أتاتورك لمن حوله قائلاً: "من قال بأننا مشهورون؟ وما شهرتنا نحن؟ أنظروا إلى هذا الرجل (١)
كيف أنه وضع اسمًا وشهرة بحيث أن اسمه يتكرر في كل لحظة، وفي جميع أنحاء العالم إذا أخذنا فرق الساعات بنظر الاعتبار؛ ليهدموا هذه المنارة".
وانظر إلى شذوذ هذا الزنديق وفجوره وسكره لتعلم أي قزم كان هذا الخائن - انظر إلى "الجزاء من جنس العمل" (١/ ٣٩٩ - ٤٠٥).
أفتى خُزْعبلة وقال ضلالة ... وأتى بكفر في البلاد بُواحِ
فلتسمعنَّ بكل أرض داعيا ... يدعو إِلى الكذاب أو لِسجاح
ولتشهدن بكل أرض فتنة ... فيها يُباع الدين بيع سماح
يُفتَى على ذهبِ المعِزِّ وسيفه ... وهوى النفوس وحقدها الملحاح (١)
* الدكتور عبد الرزّاق السنهوري واضع القانون الدني الوضعي الذي حجب نور الشريعة عامله الله بما يستحق:
تمهيد:
- يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر:
أحب أن ألقي ضوءًا على القانون المدني الذي حكم مصر قرابة سبعين عامًا، من سنة (١٨٨٣) إلى سنة (١٩٤٩)، ثم القانون المدني الذي جاء من بعده، وقد اخترت هذا القانون بالذات؛ لأن لمصر في الدول العربية والإسلامية مكانة كبيرة، ولذلك فإن الحكام ورجال الفكر في مصر إذا قاموا بعمل ما فإن أثر هذا العمل يظهر ويتردد صداه في أكثر الدول العربية والإسلامية، ولذلك فإن قانون (١٩٤٩) أنتقل إلى كثير من الدول العربية، يقول واضعه: "إن القانون المصري الجديد ليؤذن بعهد جديد، لا في مصر فحسب، بل أيضًا في البلدين الشقيقين العربيين: سورية والعراق، ويكفي أن. يكون هذا الشرح للقانون المصري الجديد في الوقت ذاته شرح للقانون السوري الجديد .. (١).
القانون المدني المصري الأول:
هذا القانون هو نفس قانون نابليون الذي صدر في سنة (١٨٠٤)، مع كثير من التشويه والتحريف لذلك القانون، وقد وصفه رجال القانون بأنه قانون معيب لا يصلح لأن يحكم الحياة في مصر. يقول الدكتور السنهوري في كتابه "الوسيط":
"وأول ما يعيب هذا التقنين أنه محض تقليد للتقنين الفرنسي العتيق، فجمع بين عيوب التقليد وعيوب الأصل الذي قلده" (٢).
ويقول: "لم يقتصر التقنين المصري على نقل عيوب التقنين الفرنسي، بل زاد عليها عيوبًا من عنده" (٣).
ويقول: "ففي تقنيننا المدني القديم فضول واقتضاب، وفيه غموض وتناقض، ثم هو يقع في كثير من الأخطاء الفاحشة" (٤).
وقد شرح هذه العيوب في عدة صفحات لاحقة.
- وتقول المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون المدني الذي أقر في سنة ١٩٤٨: "يمكن القول أن قانوننا المدني فيه نقص، ثم فيه فضول، وهو غامض حيث يجب البيان، مقتضب حيث تجب الإفاضة، ثم هو يسترسل في التافه من الأمور، فيعنى به عناية لا تتفق مع أهميته المحدودة، يقلد التقنين الفرنسي تقليدًا أعمى فينقل من عيوبه، وهو بعد متناقض في نواح مختلفة،
.ويضم إلى هذا التناقض أخطاء معيبة" (١)، وقد شرحت المذكرة هذا الإيجاز وبينته.
وجاء في تقرير لجنة الشئون التشريعية بمجلس النواب المصري: "وضع القانون المدني الحالي سنة (١٨٨٣) باللغة الفرنسية، ثم ترجم إلى اللغة العربية ترجمة لم تسلم من الأخطاء، وقد جاء في معظم أجزائه صورة مقتضبة مشوهة من القانون الفرنسي الذي أصبح هو ذاته قانونًا عتيقًا في حاجة ماسة إلى تنقيح شامل وقانوننا المدني -في اقتضابه وغموضه، مما دعا الكثيرين من رجال القانون إلى توجيه النقد إليه معددين أخطاءه- لم يعد يجاري تقدم العمران في مختلف نواحيه واتساع المعاملات بين الناس، لذلك ازداد قصورًا فوق قصوره، عن مسايرة مقتضيات العصر الحاضر، وأصبح رجل القانون يسبح في بحر خضم من نصوص غامضة، وأحكام قضائية مطرد بعضها متنافر بعضها الآخر، وتفسيرات متفقة أحيانًا متجافية أحيانًا أخرى، فهو تارة يستوحي مواد القانون الغامضة ويستقرئها، وتارة أخرى يولي نظره شطر أحكام القضاء يستلهمها ويسترشدها -ما استقر عليه الرأي منها وما تشعبت الآراء فيه- وطورًا يرجع إلى المعجمات الفرنسية ومؤلفات الشراح من رجال الفقه المصريين وغيرهم مستقصيًا باحثًا. وبقدر كثرة المفسرين وتعدد الآراء التي يذهب إليها كل منهم، تتشعب الآراء فيضل الباحث فيما احتوتها من مجلدات" (٢).
وقد تحدثت المناقشات التي دارت في جلسات اللجنة القانونية لمجلس الشيوخ المصري كثيرًا عن عيوب القانون المدني ومصدره (٣). لماذا حكم ذلك القانون المشوه ديار مصر الإِسلامية؟
إذا كان القانون المدني المصري الذي حكم مصر الإسلامية فيه هذه العيوب فلماذا أقر؟ ولم حكم الديار المصرية سبعين عامًا؟ هل كان ذلك بإرادة المسلمين؟ مهما قيل في عيوب الفقه الإسلامي الذي كان يحكم بلاد المسلمين فإن عيوب هذا القانون تفوق كل وصف. فلماذا ألغيت قوانين الأحكام الشرعية ووضع بديلاً عنها قانون نابليون؟
الجواب: أن الذين أمروا بوضعه من الحكام المصريين كانوا مخدوعين مبهورين بكل ما جاءهم من الدول الأوربية، ويظنون أن قوانينهم وثقافتهم هي الحضارة التي لا غاية بعدها.
- يقول السلطان عبد الحميد في مذكراته: "خدع الإنجليز المصريين بأفكارهم لدرجة أن بعضهم يؤمن بأن طريق الإنجليز هو السبيل إلى الأمن والنجاة، ويفضل القومية على الدين، إنهم يظنون أن حضارتهم ستمتزج بحضارة الغرب دون أن يشعروا بأن هناك تضادًا بين الحضارة الإسلامية والحضارة النصرانية بحيث لا يمكن أبدًا التوفيق بينهما" (١).
هذا جانب، والجانب الآخر أن الشعب المصري المسلم كان مغلوبًا على أمره، فقد اجتمع عليه حكم الكفار الذين احتلوا دياره، وظلم الطغاة الذين ساروا في ركب الكفار ينفذون مطالبهم بلا توان، فلم يكن يملك من أمره شيئًا، ولذلك فرض عليه القانون الفرنسي، جاء في مناقشات مجلس الشيوخ لمشروع القانون المدني الذي أقر في (سنة ١٩٤٨ م) قول الدكتور ملش بك:"إن الأستاذ الوكيل بك وضع يده على مفتاح التشريع حينما قال: إن مصر كانت مغلة بالامتيازات الأجنبية التي كانت أول الأمر منحًا من الولاة ثم
لماذا حكم ذلك القانون المشوه ديار مصر الإِسلامية؟
إذا كان القانون المدني المصري الذي حكم مصر الإسلامية فيه هذه العيوب فلماذا أقر؟ ولم حكم الديار المصرية سبعين عامًا؟ هل كان ذلك بإرادة المسلمين؟ مهما قيل في عيوب الفقه الإسلامي الذي كان يحكم بلاد المسلمين فإن عيوب هذا القانون تفوق كل وصف. فلماذا ألغيت قوانين الأحكام الشرعية ووضع بديلاً عنها قانون نابليون؟
الجواب: أن الذين أمروا بوضعه من الحكام المصريين كانوا مخدوعين مبهورين بكل ما جاءهم من الدول الأوربية، ويظنون أن قوانينهم وثقافتهم هي الحضارة التي لا غاية بعدها.
- يقول السلطان عبد الحميد في مذكراته: "خدع الإنجليز المصريين بأفكارهم لدرجة أن بعضهم يؤمن بأن طريق الإنجليز هو السبيل إلى الأمن والنجاة، ويفضل القومية على الدين، إنهم يظنون أن حضارتهم ستمتزج بحضارة الغرب دون أن يشعروا بأن هناك تضادًا بين الحضارة الإسلامية والحضارة النصرانية بحيث لا يمكن أبدًا التوفيق بينهما" (١).
هذا جانب، والجانب الآخر أن الشعب المصري المسلم كان مغلوبًا على أمره، فقد اجتمع عليه حكم الكفار الذين احتلوا دياره، وظلم الطغاة الذين ساروا في ركب الكفار ينفذون مطالبهم بلا توان، فلم يكن يملك من أمره شيئًا، ولذلك فرض عليه القانون الفرنسي، جاء في مناقشات مجلس الشيوخ لمشروع القانون المدني الذي أقر في (سنة ١٩٤٨ م) قول الدكتور ملش بك:"إن الأستاذ الوكيل بك وضع يده على مفتاح التشريع حينما قال: إن مصر كانت مغلة بالامتيازات الأجنبية التي كانت أول الأمر منحًا من الولاة ثم
.. .الفرنسيون والإيطاليون وغيرهم، يقول المستشار محمد صادق فهمي بك، المستشار في محكمة النقض المصرية في مناقشته لمشروع القانون في جلسات مجلس الشيوخ:
"إننا نعرف تاريخنا، فبعد الشريعة أتت القوانين الجديدة ووضع التشريع وهو مأخوذ من التشريع الفرنسي، ثم انتقلنا منه إلى القانون المدني الأهلي، وقد استحضرنا أساتذة من فرنسا وأرسلنا البعوث إليها، وبدأنا نتعلم اللغة الفرنسية، وأصبحنا نعتبر أن الفرنسية لغة ضرورية كلغة للقانون. والسبب في هذا أن تغيير القوانين لا يكفي فيه التطبيق العملي ولا التفسير الفقهي بل يلزم الرجوع في هذا التفسير إلى المصادر، وحيث إن قانوننا مأخوذ من فرنسا فيجب أن نفسر القانون المصري جنبًا إلى جنب مع القانون الفرنسي حتى نستفيد بهذه الثروة التي أصبحت ثقافتنا متصلة بها كل الاتصال، كما يجب أن نستفيد بهذا الذخر العظيم ألا وهو الأسلوب الفرنسي في القانون، ولا يخفى على حضراتكم ما للفرنسيين من مركز سام خصوصًا فيما يتعلق بالتشريعات المنظمة والموضوعة في مجموعات. وهذه الثقافة التي وصلنا إليها الآن أخشى عليها فيما لو كان المشروع يؤثر عليها ويحاول أن يخرجنا منها فلو كان الأمر كذلك فتكون الطامة الكبرى" (١)، أرأيتم الطامة الكبرى في نظره؟ إنها تتمثل في الخروج عن الثقافة التي وردت من فرنسا.
- ويقول المستشار صادق فهمي في موضع آخر مبينًا مدى تغلغل القانون الفرنسي في عقول رجال القضاء: "لما كان مصدرنا هو القانون الفرنسي في كل أحكامنا وفي كل فقهنا وفي كل تفكيرنا، فإنكم تجدون أن الأحكام تسير بانسجام، وإذا ما رجعتم إلى القضاء الفرنسي فإنكم تجدون أننا. نسير جنبًا إلى جنب مع محكمة النقض، ولقد وصل الأمر عندنا إلى حد أننا نترجم بالكلمة أحكام محكمة النقض والأحكام الفرنسية؛ لأن النصوص مصادرها معروفة" (١).
* مصادر القانون المدني الجديد:
- اعتمد القانون المدني الجديد المقر في سنة (١٩٤٨ م) ثلاثة مصادر:
الأول: القانون المدني الذي وضعه الصليبي مانوري، وأضيف إليه أحكام القضاء المصري طوال سبعين سنة، يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري واضع هذا القانون: "أهم مصادر التنقيح التقنين المدني القديم، بعد أن هذبت وأضيف إليها أحكام القضاء المصري طوال سبعين سنة، بقي فيها القضاء المصري يعمل في تفسير هذه النصوص وتطبيقها، والنصوص التي استقيت من هذا المصدر تكاد تستغرق ثلاثة أرباع التقنين الجديد" (٢).
وجاء في تقرير لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ: "إن المشروع لم يخرج عن التقاليد التشريعية التي استقرت في البلاد منذ إدخال نظام التقنينات عند إنشاء المحاكم المختلطة (سنة ١٨٧٦). والمحاكم الوطنية (سنة ١٨٨٣) " (٣).
وجاء فيه أيضًا: "المصادر التي استمد منها المشروع أحكامه هي التقنين الحالي، وما صدر في شأنه أحكام المحاكم المصرية أولا .. " (٤).
الثاني: "التقنينات الحديث. فقد استحدث القانون الجديد موضوعات. ..أخذها عن هذه التقنينات، واستأنس في موضوعات أخرى بما تميزت به هذه التقنينات من تقدم في الصياغة ورقي في الأسلوب التشريعي" (١).
والتقنينات التي أخذ منها القانون الجديدة كثيرة: "التقنينات اللاتينية قديمها وحديثها، فالقديم يأتي على رأسه التقنين الفرنسي. ومعه التقنين الإيطالي القديم، والتقنين الأسباني، والتقنين البرتغالي، والتقنين الهولندي، والتقنينات اللاتينية الحديثة تشتمل على التقنين التونسي والمراكشي، والتقنين اللبناني، والمشروع الفرنسي الإيطالي، والتقنين الإيطالي الجديد، وتشتمل على التقنينات الجرمانية وأهمها. التقنين الألماني، والتقنين السويسري، والتقنين النمساوي. ورجع أيضًا إلى التقنين البولوني، والتقنين البرازيلي والصيفي، والياباني، وهذه التقنينات استقت من المدرسة اللاتينية والجرمانية" (٢).
- ويقول واضع القانون: "من كل هذه التقنينات المختلفة النزعة المتباينة المناحي، ويبلغ عددها عشرون تقنينًا استمد المشروع ما اشتمل عليه من النصوص، ولم يوضع نص إلا بعد أن فحصت النصوص المقابلة في كل هذه التقنينات المختلفة ودقق النظر فيها" (٣).
الثالث: الفقه الإسلامي: فقد استبقى التقنين الجديد ما أخذه من التقنين القديم عن هذا الفقه، وأضاف مسائل جديدة إلى ما سبق أخذه (٤).
* القانون المدني لا يمثل الشريعة الإسلامية:
وبالتأمل في مصادر القانون المدني نجد أن "القانون المدني لا يمثل الشريعة. الإسلامية بحال من الأحوال:
١ - لأن التشريع الإسلامي واضعه رب العالمين، أما هذا القانون فواضعه الدكتور عبد الرزاق السنهوري المصري والأستاذ إدوارد لامبير الصليبي الفرنسي، وقد عاون في وضعه الصليبيان استويت وساس.
٢ - أخذ واضعو هذا القانون أكثر من ٨٥% من نصوصه من قوانين الكفار الصليبيين. كما سبق بيانه، ولذلك نراه يبيح أحكامًا حرمتها الشريعة حرمة قطعية كالربا والقمار.
٣ - النصوص القليلة التي أخذت من الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي روعي فيها أن تكون متفقة مع المبادئ التي قام عليها القانون، فالقانون هو المهيمن على الشريعة الإسلامية، يأخذ منها ما يوافقه، ويرفض ما لا يتفق مع مبادئه، يقول الدكتور السنهوري في هذا: "يُراعَى في الأخذ بأحكام الفقه الإسلامي التنسيق بين هذه الأحكام والمبادئ العامة التي يقوم عليها التشريع المدني في جملته، فلا يجوز الأخذ بحكم في الفقه الإسلامي يتعارض مع مبدأ من هذه المبادئ، حتى لا يفقد التقنين المدني تجانسه وانسجامه" (١).
وفي ضوء كلام الدكتور السنهوري يمكننا أن نفهم مراده من جوابه على سؤال الشيخ عبد الوهاب طلعت باشا، فقد سأله الشيخ: "هل رجعتم إلى الشريعة الإسلامية؟ "فقال السنهوري: "أؤكد لك أننا ما تركنا حكمًا صالحًا في الشريعة الإسلامية يمكن أن يوضع في هذا القانون إلا وضعناه" (٢).
فمدى صلاح الحكم الموجود في الشريعة الإسلامية للقانون المدني مبني. على موافقته للمبادئ التي بني عليها القانون الوضعي، وهل يليق بالدكتور السنهوري أن يقسم أحكام الشريعة إلى أحكام صالحة وأحكام غير صالحة، وينصب نفسه حكمًا يأخذ منها ما يشاء ويدع ما يشاء!!، ولاحظ قوله: "يمكن أن يوضع في هذا القانون"لتعلم أن بعض الأحكام التي يمكن أن تكون صالحة في رأيه لم يأخذ بها؛ لأنه لا يمكن وضعها في ذلك القانون لمعارضة مبادئ القانون لها.
وفي إجابة أخرى للدكتور السنهوري على سؤال من الشيخ عبد الوهاب طلعت قال الدكتور السنهوري: "لقد أخذنا كل ما يمكن أخذه عن الشريعة الإسلامية مع مراعاة الأصول الصحيحة في التقنين الحديث" (١).
لاحظ في الإجابة قوله: "كل ما يمكن أخذه"، وقوله: "مع مراعاة الأصول الصحيحة في التقنين الحديث"لتعلم أنه أقام نفسه وأصول التقنين الحديث حاكمًا على شريعة الله يأخذ منها ما وافق أصول التقنين الحديث، ويترك ما خالفه، كأنما حكم الله وشرعه متروك لأحكام البشر وأهوائهم.
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: ٨٥].
وقد اقترح الدكتور السنهوري أن تكون المادة الأولى في القانون هكذا "تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها.
فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص هذا. القانون .. " (١)، فهو يريد تقييد القاضي عندما لا يجد نصًا في القانون ولا في العرف فيأخذ من الشريعة أن يكون أخذه من الشريعة محكومًا بالمبدأ الأكثر ملاءمة لنصوص القانون، فيجعل القانون هو الحاكم والمهيمن على الشريعة الإسلامية، وفي هذا ما فيه.
ْوالمادة الأولى من القانون المدني تقول: "تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها، فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى الشريعة الإسلامية، فإذا لم يوجد فبمقتضى القانون الطبيعي وقواعد العدالة" (٢).
- وهذه المادة تحرم على القاضي الرجوع إلى الشريعة الإسلامية التي ألزم الله الحكام المسلمين بتحكيمها ما دام الحكم منصوصًا عليه في القانون المدني الوضعي، فإذا لم نجد الحكم في نصوص القانون فيوجب علينا واضعه الرجوع إلى عرف البشر، ويجعل أعراف البشر مقدمة على أحكام الشريعة الإلهية، ثم يمن علينا واضع القانون بأن جعل الشريعة الإسلامية المصدر الثالث، ويمن علينا أنه قدمها على القانون الطبيعي وقواعد العدالة، يقول الدكتور السنهوري في هذا: "الشريعة الإسلامية هي المصدر الثالث للقانون المدني المصري، وهي إذا أتت بعد النصوص التشريعية والعرف، فإنها تسبق مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة" (٣)، وكونها تسبق مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة ليس مبررًا لأن يسبقها التشريع الذي أخذت معظم نصوصه من القوانين الوضعية، وأعراف البشر التي كثيرًا ما تكون أعرافًا. خاطئة، ونحن نرفض قوله بعد ذلك: "ولا شك أن ذلك يزيد كثيرًا في أهمية الشريعة الإسلامية" (١)، ونرفض قوله: "ويجعل دراستها دراسة علمية في ضوء القانون المقارن أمرًا ضروريًّا لا من الناحية النظرية فحسب، بل كذلك من الناحية العلمية التطبيقية" (٢).
أما أولاً: فلأن جعل الشريعة الإسلامية المصدر الثالث ظلم للشريعة الإسلامية وانتقاص من حقها، وتقديم لقوانين البشر وأعرافهم على شريعة ربهم، لا كما يقول السنهوري من أنه يزيد من أهميتها.
ثانيًا: لأن الشريعة الإسلامية لا تدرس في ضوء القانون المقارن بحيث يهيمن عليها، ويننقص منها، وهي الشريعة التي أنزلت حاكمة على الشرائع كلها والقوانين والكتب السماوية السابقة وغير السماوية.
وثالثًا: لأن النتيجة التي يمكن تحقيقها من وراء كل هذا محدودة الأهمية، بل تكاد تكون سرابًا، كما يقول الدكتور توفيق فرج أحد رجال القانون، ويعلل ذلك بقوله: "ذلك أن التشريع في الدولة الحديثة يكاد يستوعب كل شيء، وإذا وجد مجال يحتمل أن تقوم فيه بعض الثغرات، فإن العرف من وراء التشريع محيط به في شبه شمول، ولا يبقى لمبادئ الشريعة إلا النزر اليسير" (٣).
ويرى أيضا: "أن الدور الذي يترك لمبادئ الشريعة يزداد انكماشًا إذا أخذ بما يتجه إليه البعض من أنه لا يلجأ إلى مبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر للقانون - إلا إذا لم تكن تلك المبادئ تتعارض مع المبادئ العامة التي. .يقوم عليها التشريع المدني في جملته" (١)، ثم ينقل عبارة الدكتور السنهوري الذي يرى هذا الرأي والتي يقول فيها: "فلا يجوز الأخذ بحكم في الفقه الإسلامي يتعارض مع مبدأ من تلك المبادئ، حتى لا يفقد التقنين المدني تجانسه وانسجامه" (٢).
* كيف جعلت الشريعة والإسلامية المصدر الثالث:
على الرغم من أن جعل الشريعة الإسلامية المصدر الثالث الذي يرجع إليه القاضي غير مقبولة بحال من الأحوال، فإن واضعي القانون لم يتكرموا بوضعها إبتداء فقد كان نص المادة في المشروع التمهيدي هكذا: "تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها.
فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
ويستلهم في ذلك الأحكام التي أقرها والفقه مصريًا كان أو أجنبيًا وكذلك يستلهم مبادئ الشريعة الإسلامية" (٣). وهذه المادة جعلت الشريعة الإسلامية في الذيل كما ترى.
وعندما طبع مشروع القانون ووزع على الهيئات القضائية والقانونية وتحدثت منه الصحف في الديار المصرية طالب الشعب المصري أن تجعل الشريعة الإسلامية المصدر الرسمي الوحيد لكل تشريع يصدر في البلاد، فلم تستجب رغبة الشعب، وفرض عليه القانون الذي أخذ أربعة أخماسه أو أكثر. من القوانين الكافرة، وحاول الذين وضعوه وناقشوه استرضاء الرأي العام بجعل الشريعة الإسلامية المصدر الثالث، يرجع إليها القاضي حينما لا يجد مراده في نصوص القانون ولا العرف" (١).
* دعوى موافقة القانون المدني للشريعة الإِسلامية:
زعم واضع القانون المدني أن نصوصه موافقة للشريعة الإسلامية ولا تعارض بينهما، يقول في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي: "ما ورد في المشروع من نصوص يمكن تخريجه على أحكام الشريعة الإسلامية دون كبير مشقة، فسواء وجد النص أم لم يوجد، فإن القاضي بين اثنين، إما أنه يطبق أحكامًا لا تتناقض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وإما أنه يطبق الشريعة الإسلامية ذاتها" (٢).
والدكتور السنهوري يتناقض مع نفسه ففي المناقشة التي جرت بينه وبين الأستاذ الدكتور حامد بك زكي أستاذ القانون المدني في كلية الحقوق بجامعة فؤاد، قال الدكتور السنهوري: "المشروع في أساسه وفي بعض نصوصه يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية" (٣)، فهو هنا يقول: إن القانون متفق مع الشريعة في بعض أحكامه لا كلها، وأحب أن أنقل للقارئ الكريم شيئًا من المناقشة التي جرت بين حامد بك والسنهوري في مجلس الشيوخ المصري.
قال حامد بك زكي: إن الجزء العام في القانون خاص بنظرية الالتزامات ومصادرها، وهذا الجزء على ما أذكر قد تناولته المواد من ١٩ إلى ٤٥٠ فهو كله أوربي أي روماني. . .معالي السنهوري باشا: إنه قضاء مصري متفق مع الشريعة الإسلامية (١).
حامد بك زكي: أنا عندما أقول إنه أوربي إنما أعني بذلك أنه روماني.
معالي السنهوري باشا: قل ما شئت، والمهم أنني أقول. إن هذا إنما هو قضاء مصري.
حامد بك زكي: أريد أن أصل إلى القول بأن الأحكام الخاصة بالعقود إنما هي تطبيقات للأحكام الواردة في باب الالتزامات تحت اسم العقود، وأنا من هذه الناحية - أعلن صراحة أن المشروع إنما هو مشروع أوربي بحت، وأعلن أنني أوافق على هذه الفكرة، ولكن أريد أن أصل إلى القول بأن الشريعة الإسلامية قد رجع إليها في بعض المسائل الخاصة باستلهام بعض أحكامها.
الرئيس: إذا نظرنا إلى العلاقات بين الأفراد منذ الخليقة الأبدية نجد أن فلسفة الحياة الموضوعية تتقارب (٢).
لقد كان حامد زكي صريحًا عندما أعلن أمرين: الأول أن القانون المدني قانون أوربي روماني بحت، والثاني: أنه راض عن هذا، وأنه لا يرضى بأن تكون الشريعة الإسلامية مصدرًا للتشريع، وقد وضح رأيه هذا في بقية المناقشة.
أما الدكتور السنهوري فإنه يريد أن يجعل القانون المأخوذ من القوانين الأوربية موافقًا للشريعة الإسلامية (٣).
لقد كان رجال القانون الذين وضعوا هذا القانون يعرفون أن القانون بعيد عن الشريعة الإسلامية، ولكنهم كانوا يخافون من ثورة الأمة وانتقاد العلماء يقول رئيس اللجنة القانونية لمجلس الشيوخ لدى مناقشة مشروع القانون (١): "وقد قلنا كلنا: إن إغفال الشريعة الإسلامية من شأنه أن يعمل هيجانًا كبيرًا في الأفكار، ولما وجدنا أن المشروع لا يقول بما يخالف الشريعة الإسلامية قلنا نقدم الشريعة الإسلامية على القانون الطبيعي" (٢)، فالتقديم للشريعة إنما كان خشية هياج الأفكار!!
* العلماء الأوربيون يقررون ألا لقاء بين القانون الأوربي والإسلامي:
لا يجوز لمنصف صادق في حديثه أن يزعم أن قانونًا أخذت أصوله من القانون الروماني، وأخذت نصوصه من أكثر من عشرين قانونا أوروبيًا - أنه قضاء يتفق مع الشريعة الإسلامية، يقول فتزجيرالد Fitz Gerald وقد كان أستاذ القانون الإسلامي في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بلوندرا يقول في مقال نشره في مجلة القانون الفصلية الإنكليزية عدد يناير ١٩٥١ م:"الواقع أن النظامين: الرومي والإسلامي متضادان إلى حد لا يمكن معه التوفيق بينهما فيما يتعلق بالمسائل الأساسية، وهي المأخذ الصحيح للقانون، فالقانون الإسلامي هو قانون الله المشرع الوحيد، ولا سلطة لأي أمير في. .وضع القوانين، ومشيئة العوام لا اعتبار لها إلا إذا مثلت إجماعًا عامًا كافيًا" (١).
ويقول أيضًا: "الشريعة كما ذكرنا من قبل تختلف اختلافًا أساسيًا عن القانون الرومي، سواء في طبيعتها أو في غرضها، فالقانون الرومي حتى في خالص ناحيته المجردة والعلمية ليس إلا قانون العلماء القانونيين، أو كما يقال في المثل اللاتيني: "كل قانون وضع فإنه وضع بسبب إنسان"، أما القانون الإسلامي فهو أولاً وقبل كل شيء نظام أهل دين يطبقون الأحكام (الموجودة) على الوقائع، وغرضهم وصل كل نفس إنسانية بالله تعالى .. " (٢).
إن الفقه الإسلامي وهو قانون المسلمين جزء من الدين الإسلامي لا ينفك عنه، أما القانون الوضعي فهو علم مادي من أمور الدنيا، يقول المستشرق الإيطالي نالينو Nallino "جعل المسلمون الفقه جزءًا من علم الدين لا ينفك عنه، ولم يجعلوه علما ماديًّا من أمور الدنيا" (٣).
* مناقشات بعض رجال القانون لواضع القانون المدني:
سأذكر محاورتين جرتا في مجلس الشيوخ المصري لدى مناقشة مشروع القانون المدني المقر في (١٩٤٨ م) أحببت أن أثبتهما للدلالة على أن القانون المدني الجديد بعيد عن الشريعة الإسلامية، وليعلم المسلمون أن رجال مصر لم يكونوا موافقين على هذا القانون، وإنما أقر ظلمًا عدوانًا.
المناقشة الأولى: للمستشار حسن الهضيبي:
وقد كان فارسها حسن الهضيبي بك المستشار بمحكمة النقض آنذاك رحمه الله. ."حسن الهضيبي بك: أود أن أقول: إن لي رأيًّا معينًا في المسألة برمتها، وليس في القانون المدني فقط، وهذا الرأي بمثابة اعتقاد لدي لا يتغير وأرجو أن ألقى الله عليه، إنني لم أتعرض للقانون المدني باعتراض أو بنشر وأنا لم أقل شيئًا يتعلق بمضمونه؛ لأن من رأيي ألا أناقشه.
وقد جئت اليوم بناء على دعوتي؛ لأن، زميلي صادق فهمي بك صحح المسألة بالنسبة إلي، فقد ألحق بالحاضرة التي كان مزمعًا أن يلقيها، كلمة تبين مركزي في هذا المقام.
الذي قلته أنا في تصحيح الرأي الذي نشره صادق بك هو اعتقادي أن التشريع في بلادنا كلها وفي حياتنا جميعا يجب أن يكون قائمًا على أحكام القرآن، وإذا قلت القرآن فإني أعني كذلك بطبيعة الحال سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن طاعته من طاعة الله.
حضرة الشيخ المحترم جمال الدين أباظة بك: يقصد سعادة حسن الهضيبي بك القرآن والحديث؟
حسن الهضيبي بك: نعم، يجب أن يكون هذان المصدران هما المصدران لكل تشريع فإذا ما أردنا أن نأخذ شيئَّا من التشريعات أو النظم الأجنبية فيجب أن نردها أولا إلاً هذين المصدرين.
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: ٥٩].
فإذا كان هذا التقنين صادرًا عن أحكام القرآن والسنة كان بها وإلا فيجب أن نرفضه رفضًا باتًا، ونرد أنفسنا إلى الحدود التي أمر الله بها.
حضرة الشيخ المحترم جمال الدين أباظة بك: وإن سكت عنه؟
حسن الهضيبي بك: الأمور في الشريعة، أمر ونهي وعفو.
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧].
أما العفو فهو من الأمور المباحة التي يمكن لولي الأمر أن يصرفها كما يشاء على ما تقتضي به المصلحة.
من أجل هذا لم أشترك في مناقشة مشروع القانون المدني موضوعًا، ومن رأيي أن يصدر كيفما يكون؛ لأني شخصيًّا أعتقد أنه ما دام غير مبني على الأساس الذي ذكرته والذي أدين به فخطئوه وصوابه عندي سيان.
لقد تفضل زميلي صادق بك فهمي وصحح الموقف بالنسبة إلي في مذكرة ألحقها بمحاضرته وكانت بإملائي. ولقد جئت اليوم لأبين لحضراتكم وجهة نظري وإني أعلم تمام العلم أنكم غير مستعدين لقبول هذا الرأي (١).
الرئيس: لا شك أن كل تشريع يمكن أن يوجه إليه كثير من النقد غير المحدد ونحن هنا هيئة تشريعية قدم إلينا مشروع قانون فاجتهدنا في بحثه، ونريد الآن أن نسمع الانتقادات التي وجهت إلى تقرير اللجنة كي تجتمع اللجنة بعد ذلك لاقرار ما تراه، ولقد بدأت الآن بعرض الأمر بالطريقة المنطقية فقد قدمت انتقادات موضوعية، وتريد اللجنة أن تناقش أصحابها.
حسن الهضيبي بك: لقد ذكرت منذ لحظة أن خطأ هذا المشروع وصوابه عندي سيان (٢).
رحم الله الهضيبي لقد قال كلمة الحق التي ينبغي أن يقولها المسلم، فهذا القانون لا يستحق أن يناقش؛ لأنه غير مأخوذ من الكتاب والسنة، وصوابه وخطؤه عنده سيان ما دام كذلك، ولم يطل الكلام، فهو يعلم أن القائفين على إعداد القانون غير مستعدين لقبول رأيه؛ لأن الأمر مفروض. على الأمة فرضًا، ولم يستطع السنهوري أن يناقش الهضيبي - رحمه الله؛ لأن الهضيبي كان حازمًا وصريحًا.
المناقشة الثانية: للشيخ عبد الوهاب طلعت:
كان فارسها المرحوم الشيخ عبد الوهاب طلعت باشا:
حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا: هل رجعتم إلى الشريعة الإسلامية؟
المقرر: لقد ذكرت ذلك فيما سبق وأقرر أن المشروع اتبع الوضع الذي اختارته البلاد منذ إدخال التقنينات الحالية بل وزاد عليه كما أبنت الآن.
حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق أحمد السنهوري باشا (وزير المعارف العمومية): أؤكد لك أننا ما تركنا حكمًا صالحًا في الشريعة الإسلامية يمكن أن يوضع في هذا التقنين إلا وضعناه (١) والدليل على ذلك أن أحد حضرات المستشارين أراد أن يضع نموذجًا مأخوذًا من الشريعة الإسلامية فأتى بنفس نصوص القانون ونسبها للشريعة الإسلامية.
حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا: وهل استعنتم بالفقهاء الشرعيين لعله يمكنهم أن يساعدوا في هذا السبيل.
حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق أحمد السنهوري باشا (وزير المعارف العمومية):
لقد قمنا بكل ما يمكن عمله في هذا السبيل، وأخذنا كل ما يمكن أخذه عن الشريعة الإسلامية مع مراعاة الأصول الصحيحة في التقنين الحديث ولم نقصر في ذلك (٢).
.حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت باشا: إني كرجل يؤمن بالكتاب المنزل وكرجل درس الشريعة الإسلامية كما درس المعاملات فيها أرى أن فيها ما يتسع لكل شيء.
حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق السنهوري باشا (وزير المعارف العمومية):
أرجو أن تجد سعة من وقتك لزيارتي وأنا على أتم استعداد لأن أبحث معك الموضوع وأنا واثق أنك ستقتنع (١، ٢).
الناقشة الثالثة: لسيد عبد الله علي حسين:
سيد عبد الله من علماء الأزهر الذين درسوا الحقوق وحصل على درجة الليسانس في الحقوق من فرنسا، وقد كتب كتاب المقارنات التشريعية في مجلدين ردًا على الدكتور السنهوري وعلماء القانون الذين يزعمون أن رجال القانون الأوربيين لم يعتمدوا في قوانينهم على الفقه الإسلامي، وقد أثبت في كتابه أن كثيرًا من قانون نابليون مأخوذ من الفقه المالكي، ومع ذلك فقد أغفل واضعوه هذا المصدر، وقد ناقش المؤلف في مقدمة كتابه الدكتور عبد الرزاق السنهوري في دعواه أن الفقه الإسلامي لا يصلح لأن يجعل قانونًا في الوقت الذي وضع فيه السنهوري القانون المدني مستمدًا من القوانين الأوربية الصالحة لذلك بزعمه.
وقد أورد سيد عبد الله نصوص أقواله ورد عليها، وسأكتفي بإيراد جزء من مناقشته للدكتور السنهوري (٣).
السنهوري: قد دار الزمن دورته والفقه الإسلامي واقف، العالم يمشي وهو جامد، والحضارة تتطور وهو ساكن، فبعد عن الحاجات المتجددة.
سيد عبد الله: أنت أدرى يا سيدي الأستاذ لم وقف؟ لأن من تنطق بحجتهم ومن اعتنقت مذهبهم طاردوه في كل مكان، ولكن أصوله باقية وخالدة على الدهر لا تطفأ.
السنهوري: فأصبح من العسير على الأمم العربية في العصر الحاضر أن تستقي منه قوانينها الحاضرة.
سيد عبد الله: قواكم الله في الإتيان بالبديل، فأنتم وأمثالكم داعون للقوانين الوضعية، وهذا هدم للتشريع الإسلامي، إن بقي فيه شيء لم يهدم من أعدائه ومن احتلوا بلاد المسلمين.
السنهوري: فأخذت تهجره واحدة بعد الأخرى ولجأت إلى القوانين الغربية الحية لتماشي مدنية العصر ومن هنا نشأت أزمة الفقه الإسلامي.
سيد عبد الله: لا يا أستاذ لم تهجر الأمم العربية التشريع الإسلامي كراهية فيه، أو لعدم صلاحيته للزمن، ولكنها أُكرهت من عدوها الذي احتلها على تركه واستبداله بقوانينه، وأظن الأستاذ يشاهد البلاد العربية التي لم يحتلها أجنبي تحكم بالتشريع الإسلامي (اليمن والحجاز).
السنهوري: نحتاج إلى جهود جبارة ووقت طويل حتى يعود الفقه إلى مجده الأول، وينفض عنه غبار الجمود الذي تراكم عليه، فيسترد قوته ورونقه، ويعود جديدًا وفقهًا خصبًا قويًّا.
سيد عبد الله: أدركنا يا رب العالمين من عبادك والطف بنا وبهم في هذا الدنيا، إنك أنت اللطيف الخبير، هذا الذي يمهد السبيل لإصلاح الفقه لو أنه تبنى بحثًا منه ودافع عنه لظن الناس خيرًا، وقبلوا هذه الدعوى، ولكن رجلاً تبنى نظرية لامبير، ونقل لنا أسمالاً بالية من عدة تشاريع وضعية وخاطها لنا. قانونًا مدنيًّا، وقال في مادته الثانية ما يأتي: "فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون .. "لا يصح أن يكون حكمًا، ولا يؤخذ قوله حجة.
والواجب أن يقول الأستاذ بلغة العرب الفصيحة: إنني أدعو العرب لهجر التشريع الإسلامي في بلاد الإسلام حتى تعود إليه الحياة، ويعود فقهًا خصبًا قويًّا؛ لأن رجلاً يلزم القاضي بقانونه أن يحكم العادة قبل أن يحكم التشريع الإسلامي لا يصح أن يتكلم في التشريع الإسلامي؛ لأنه يجهله أو يعاديه، إن أعداء الإسلام أخذوا منه ما لذ وطاب، ولم يقل أحد منهم هذه الأقوال؛ لأنهم درسوه وعرفوا قيمته، أصوله وقواعده، ولكنهم سكتوا عن ذكره سكوت أهل القبور، وعملوا على محوه وتعطيله في كل قطر دخلوا فيه، وتركوا من أبناء هذه الأقطار داعية لتشريعهم الوضعي فيها، وهي حقيقة مرة يعرفها من ألقى السمع وهو شهيد.
أيها الأستاذ: إن التشريع الإسلامي حي حياة إلهية، ولو لم يرق في نظرك، فلست أكثر حولاً ولا طولاً ممن محوه من بلاد الإسلام، وأدخلوا قوانينهم، وحكموا بها، وألزموها المسلمين قهرًا، وبلا ذنب إلا احتلالهم، إن علماء التشريع الإسلامي قد أصبحوا والحمد لله يضارعون في تفكيرهم وفهمهم أكبر عالم من علماء القوانين الوضعية، ولو سألتموهم عن أي قاعدة لبهركم وأخذ عليكم مجامع تفكيركم الوضعي ما يجيبون به، ولكن ما تدعون من علم ومعرفة قد جعلكم في نظركم على الأقل أعلم مخلوق وأعظم مشروع، والله يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: ٨٥].
ونصيحتي إليكم أن ترجعوا إلى التشريع الإسلامي، وفيه ما فوق الكفاية، فتعلموه، وابحثوا، وبشروا به في كل مكان يعظم شأنكم، ويرضى. عنكم ربكم، فلستم بمعجزين الله في الأرض، ولو شاء لسلبكم ما تدعون، وليس ذلك على الله بعزيز.
* خلاصة القول في القانون المدني المصري الذي وضعه السنهوري ويبوء بإِثمه أمام الله:
خلاصة القول في هذا القانون الذي زعم واضعوه أنه قانون مصري خالص - أنه قانون بعيد عن الشريعة الإسلامية، وأنه قد أقر أعين الكافرين، وأدمى قلوب المؤمنين، لقد خدعنا أعداء الإسلام عندما سمحوا لنا أن نغير القانون الفرنسي، وقالوا لنا: خذوا قانونكم من أي قانون شئتم، إلا أن يكون القانون المحكم هو الشريعة الإسلامية، فظننا أننا بذلك نلنا استقلالنا.
- يقول الدكتور السنهوري: "لقد ظفر التشريع المصري بالاستقلال في سنة ١٩٣٧، وكانت معاهدة مونتريه هي صك استقلاله، وظفر القضاء المصري بالتوحيد بعد انقضاء فترة الانتقال، وزوال المحاكم المختلطة" (١).
لقد سمح الكفار لنا بصياغة قونينا بعد أن وجدوا رجالاً رضعوا ثقافته وأعجبوا بقوانينه، وبعد أن أخذوا علينا العهود بأن نتجه نحو تلك القوانين، وبعد أن رضينا بإقصاء شريعة الله.
لقد كان رجال القانون الذين لا يفقهون الشريعة يريدون أن يمصروا الفقه.
- يقول الدكتور السنهوري واضع القانون في كتاب "نظرية العقد"قبل وضعه للقانون بعشرين سنة: "علينا أولا أن نمصر الفقه، فنجعله فقهًا مصريًا خالصًا، نرى فيه طابع قوميتنا، ونحس فيه أثر عقليتنا"ثم يتألم ويتوجع من. حال الفقه في ذلك الوقت: "فقهنا حتى اليوم لا يزال -هو أيضًا- يحتله الأجنبي، والاحتلال هنا فرنسي، وهو احتلال ليس بأخف وطأة، ولا بأقل عنتًا من أي احتلال آخر"وهو يأسى لرجال القانون في بلده حيث يقول: "لا يزال الفقيه المصري يتلمس في الفقه الفرنسي الهادي المرشد، لا يكاد يتزحزح عن أفقه أو ينحرف عن مسراه، فهو في ظله اللاصق، وتابعه الأمين، ثم ينادي مطالبًا: "باستقلال الفقه المصري وتفريغه في جو مصري يشب فيه على قدم مصرية وينمو بمقومات ذاتية" (١). وعندما أتيحت له الفرصة بادر بوضع هذا القانون على النحو الذي وصفه.
- يقول الدكتور السنهوري في القانون بعد وضعه: "إن النصوص التشريعية الواردة في هذا المشروع لها من الكيان الذاتي ما يجعلها مستقلة كل الاستقلال عن المصادر التي أخذت منها، ولم يكن الغرض من الرجوع إلى التقنينات الحديثة أن يتصل المشروع بهذه التقنينات المختلفة اتصال تبعية في التفسير والتطبيق والتطور؛ فإن هذا حتى لو كان ممكنًا، لا يكون مرغوبًا فيه، فمن المقطوع به أن كل نص تشريعي ينبغي أن يعيش في البيئة التي يطبق فيها، ويحيا حياة قومية توثق صلته بما يحيط به من ملابسات، وما يخضع له من مقتضيات، فينفصل انفصالاً تامًا عن المصدر التاريخي الذي أخذ منه، أيًا كان هذا المصدر، وقد حان الوقت الذي يكون لمصر فيه قضاء ذاتي وفقه مستقل، ولكل من القضاء والفقه، بل على كل منهما عند تطبيق النص أو تفسيره، أن يعتبر هذا النص قائمًا بذاته منفصلاً عن مصدره، فيطبقه أو يفسره تبعًا لما تقتضيه المصلحة، ولما يتسع له التفسير من حلول تفي بحاجات البلد، وتساير مقتضيات العدالة، وبذلك تتطور هذه النصوص في صميم. الحياة القومية، وتثبت ذاتيتها، ويتأكد استقلالها، ويتحقق ما قصد إليه واضعو المشروع من أن يكون لمصر قانون قومي، يستند إلى قضاء وفقه لهما من الطابع الذاتي مما يجعل أثرهما ملحوظًا في التطور العالمي للقانون" (١).
إن ما قرره واضع القانون المدني ليس صوابًا، كل الذي فعله أن حكم في رقاب المسلمين قانونًا وضعه هو واستمده من أكثر من عشرين قانونًا بعد أن كان يحكم في رقابنا قانون مترجم هو قانون نابليون، والقوانين الوضعية عندنا سواء الذي يضعه نابليون، أو أبو جهل العربي، أو السنهوري فكل القوانين الوضعية تحاد شريعة الله، ونحن نريد أن نتحاكم إلى ما أنزله الله لا إلى ما وضعه البشر.
قد يكون في القوانين الوضعية قانون أفضل من قانون، ولكنها جميعًا مرفوضة عند المسلم الصادق؛ لأنها اعتداء على ألوهية الله وحكمه" (٢) اهـ.
ونختم بما قال السنهوري: "السيادة في القانون الإسلامي لله وحده، ولكنه يفوضها للأمة، كل الأمة وليس لشخص ولا لأي مجموعة من الناس أيًّا كانت".
- قال الدكتور عمر الأشقر بعد أن رد شبه السنهوري وأمثاله: لا يخفى على المسلم ما في هذه الأقوال من كفر وضلال" (٣).
- ولله در القائل.
عجّتْ فروج الناس ثم حقوقهم ... لله بالبكرات والآصال
كم تستباح بكل شرع باطل ... لا يرتضيه ربنا المتعالي
.والكل في قعر الجحيم سوى الذي ... يقضي بحكم الله لا لنوالِ
أَوَمَا سمعت بأن ثلثيْهم غدًا ... في النار في ذاك الزمان الخالي
وزماننا هذا وربك أعلمُ ... هل فيه ذاك الثلثُ أم هو خالي؟
* الشاعر العراقي معروف الرصافي يسقط في وحل الخيانة ويناصر اليهود:
كثيرون مهدوا لضياع فلسطين وامتدحوا الصهاينة .. امتدحوا اليهود، ووصفوا احتفالاتهم في القدس، في ليال هي عندهم بمستوى ليلة القدر في القُدسية!!! ولكنك قارئي الكريم لعلك تصعق حين تعلم أن من هؤلاء الكثيرين الشاعر العراقي معروف الرصافي .. استمع إليه في غيبوبته الفكرية .. في قصيدته التي يمتدح بها الصهيونيين يهودا وهربرت صموئيل المندوب السامي البريطاني في فلسطين في محفل في القدس حضرة عام ١٩٢٠ م منشدًا:
خطاب يهودا قد دعانا إِلى الفكر ... وذكّرنا ما نحن فيه على ذكر
لدى محفل في القدس بالقوم حافل ... تبوّأه هربرت صموئيل في الصدر
دعاهم رئيس القدس ذو الفضل راغب ... إِليه، فلبوا دعوة من فتى حُرِّ
فأمسوا وفي ليل المحاق اجتماعهم ... يحفول من هربر صموئيل بالبدر
فيا ليلة كادت وقد جلَّ قدرها ... تكون على علاتها ليلة القدر
ولما تناهى من يهودا خطابه ... وقد سرّنا من حيث تدري ولا ندري
تصدّى له هربر صموئيل ناطقًا ... بسحر مقال جلّ عن وصمة السحر
وعدت فأمسى القوم بين مشكل ... ومنتظر الإِنجاز منشرح الصدر
فكذِّبْ وأنت الحر من ساء ظنه ... فقد قيل: إِن الوعد دين على الحر
ولسنا كما قال الألى يتهموننا ... نعادى بني إِسرائيل في السرَّ والجهر
وكيف وهم أعمامنا وإليهم ... يمتّ بإٍسماعيل قدمًا بنو فهر
هما من ذوي القربى، وفي لغتيهما ... دليل على صدق القرابة في النجر
ولكننا نخشى الجلا، ونتقي ... سياسة حكم يأخذ القوم بالقهر
وهل تثبت الأيام أركان دولة ... إِذا لم تكن بالعدل مشدودة الأزر
وها أنا قبل القوم جئتك معلنًا ... لك الشكر حتى أملأ الأرض بالشكر
وعلى أثر هذه القصيدة طرد الشعب الفلسطيني "الرصافي "بعد رجمه بالحجارة! وقد غادر القدس فجرًا، ولسان حاله يردد:
إِذا أنكرتني بلدة أو أنكرتها ... خرجت مع البازي عليّ ظلام
وماذا ننتظر من الشعب الفلسطيني غير هذا التوديع بالطرد والحجارة وهو يكيل المديح إلى الصهيوني "هربرت صموئيل"أو موضى سام أرسلته بريطانيا إلى فلسطين لتهويدها" (١).
* محمد أحمد خلف الله يزعم أن القرآن يحوى الأساطير؟!!
محمد أحمد خلف الله هو القائل: "ما عدا القرآن -يقصد السنة المشرفة- فكر بشري نتعامل معه بعقولنا، وتفسير رسول الله للقرآن قول بشر" (٢).
.محمد أحمد خلف الله هو القائل: "إن النص القرآني إن لم يكن قادرًا على تحقيق المصلحة تركناه، ولجأنا إلى الفكر البشري؛ فإن مدار النصوص على المصالح، فهي أصل والنصوص فرع" (١).
وقد مرّت بنا قصة الدكتور خلف الله الذي كتب عن "الفن القصصي في القرآن الكريم"فوصف قصص القرآن بالخرافة، وزعم أن القرآن نفسه لا ينفي أنه يحوي أساطير؟!! وهذا البحث لقي اتفاق وإجماع أهل العلم في مصر وغيرها على ضلال وجرأة صاحبه، "كما لقي دعم وإعجاب كثير من المشبوهين ومن المستشرقين الذين انبروا للدفاع عنه وتقريظه، حتى إن ج. بالجون، وج. جومييه -من القساوسة الدومينيكان- وصفاه بأنه البحث الوحيد الذي يمثل الاستنارة الحقيقية في الفكر الإسلامي عن حركة المجتمع العربي المعاصر، وقصر القرآن على العبادات والمساجد، كضرورة حتمية لتقدم المجتمع العربي" (٢).
- يقول الأستاذ أنور الجندي: "امتدت دعوة أمين الخولي في تلامذته، فظهر عمل خطير هو "الفن القصصي في القرآن "لمحمد أحمد خلف الله، وكان بتوجيه الشيخ (٣).
- يقول الأستاذ محمد مصطفى رمضان: "كان الشيخ الخولي وراء كثير من الحملات على القرآن الكريم، ومنها "القصص الفني في القرآن"، فقد أعلن الشيخ أنه متضامن معه فيها وشريكه في التبعية، وذلك جريًا على. خطته في الحملة على علوم البلاغة ومسخه لبلاغة القرآن، وكفره بتنزيه الله، ودعوته إلى العامية السوقية المبتذلة (عرضنا لهذه الرسالة في كتابنا "المساجلات والمعارك الأدبية").
- يقول الأستاذ محمد أحمد الغمراوي: هذه الرسالة تقيس القصص القرآني بمقاييس ليست وثيقة ولا مقررة؛ فإن خالف القرآن تلك المقاييس كان عند أصحابها كذبًا وافتراءً على التاريخ، أو كان نوعًا من ذلك الفن الأدبي الذي لا يلتزم الواقع التاريخي، ولا الصدق العقلي، وإنما يخضع في تآليفه لهذه الحرية الفنية التي يخضع لها كل فنان موهوب، وتطبيقًا لهذه القاعدة صار القرآن -في رأي صاحب الرسالة- "يتقوّل على اليهود وينطقهم بما لم ينطقوا به، ويتقوّل أمورًا لن تحدث ويقرر أمرًا خرافيًا أو أسطوريًا ثم يعود فيقرر نقيضه ويغيرّ الواقع ويبدل ويزيد وينقص بحكم هذه الحرية الفنية".
ومن مفاسد هذه الرسالة اعتبارها أن مصادر القصص القرآني هي التوراة والإنجيل والأقاصيص الشعبية، وما امتزج بها من عناصر فارسية وإسرائيلية، وأنه جرى في ذلك خلف قساوسة المستشرقين أمثال ردويل ومرجليوث حتى بلغ به الأمر أنه لم يدرك ما هنالك من تناقض بين نسبة القرآن إلى الحق سبحانه، والحكم على قصص القرآن بأن أكثره غير صحيح.
"ومما يذكر أن محمد أحمد خلف الله قد خاض بعد ذلك في ميدان آخر يهاجم فيه الإسلام، وهو موضوع الشريعة الإسلامية" (١) اهـ.