لا يألو اعضاء الحزب الجمهورى فىأمريكا جهدا لكى يظهروا إيمانهم العميق بالمسيحية الاصولية ويؤكدوا تشبثهم الشديد بالقيم الروحية التى غرسها الكتاب المقدس فىصدور من يؤمنوا به.. وهذا الإتجاه قد إنتشر فىكثير من بقاع العالم من أفريقيا إلى آسيا (الهند وإندونيسيا وباكستان) وأوروبا الشرقية إلى حد ما.. ولا تقف فىوجه هذا الإتجاه إلا أوروبا الغربية.. أما الصين فموقفها غير واضح، فلا هى تتبنى التشدد الدينى ولا هى تصرح بمناهضتها لهذا الإتجاه، والصين على كل حال ليس لها دين فمن أين يأتيها التشدد؟
منذ أكثر من عام صرح السيد آتكن المرشح الجمهورى للكونجرس الأمريكى فىإنتخابات ذلك العام 2012 عن ولاية ميسورى أنه ضد كل أنواع الإجهاض (وهو موقف جل أعضاء الحزب) ولكنه أضاف أنه أيضا ضد الإجهاض فىحالات الإغتصاب !!! وقد علل سيادته ذلك بالقول أنه "من المعروف أن المرأة لا تحمل فىحالات الإغتصاب حيث أن الجسم يقوم برفض الحمل عن طريق إغلاق كل الطرق المؤدية إليه"... وهذا النهج من التفكير كان منتشرا قبل عصور التنوير فىأوروبا حيث أن من كانت تحمل سفاحا كانت دائما متهمة لأن الإغتصاب لا ينتج حملا !!! وهو رأى يمكن القول عنه أنه وردفىالأثر، أى قول مرسل لا صاحب له ولكن جهل الناس يجعلهم يتلقفونه ويضمونه إلى منظومة التعاليم الدينية بدون أن يسأل أحدهم ما هو هذا الأثر؟
وفىإندونيسيا الشقيقة لجأ مطرب معروف إلى فكرة القيام بحملة سياسية مبناها أن إنتخاب غير المسلمين هو حرام وتبعه كثير من الناس، رغم أن إندونيسيا مجتمع متعدد الأعراق والأديان منذ القدم، والظاهر أن هذا النظر للأمور قد وردأيضا فىالأثر
وفىنيجيريا الحبيبة تعلن جماعة بوكو حرام يوميا عن نيتها إخلاء كل شمال البلاد من غير المسلمين دون أن تذكر السبب وبدأت بالفعل فىترهيبهم بتفجيرات الكنائس والمحال وأخيرا خطف الفتيات لبيعهن إماءا ويجري كل ذلك على أرضية إسلامية.
وفى الهند الباسلة يتشدد الهندوس يوما بعد يوم فى مواجهة كل من المسلمين والسيخ على السواء، بالرغم من أن المسلمين هم من أضعف الطوائف الهندية إجتماعيا وإقتصاديا فهم يحتلون المركز الأخير فى التعليم والوظائف وكسب المال. وقد كانت الهند حتى نهاية الحرب الباردة نموذجا طيبا للتعايش بين الطوائف المختلفة، إلا أن صعود الهند إقتصاديا عقب نهاية تلك الحرب أوجد نوعا من العزة الهندوسية والنعرة القومية المبنية عليها مما جعلهم ينظرون إلى غيرهم نظرة لم يكن لها فى السابق وجود سياسى حقيقى..
وفى الولايات المتحدة أثناء الحملة الإنتخابية الأخيرة عام 2012 وجهت مجلة Cathedral Age التى تصدر فى واشنطن عن الكاتدرائية القومية ثمانية أسئلة إلى كل من مرشحى الرئاسة رومنى وأوباما تتعلق بمعتقداتهم الدينية وقام الإثنان بالرد مدافعين عن مسيحيتهما حيث أن أوباما متهم بكونه مسلما ورومنى هو بالفعل من طائفة المورمون..
لقد إرتكب المرشح الجمهورى للكونجرس خطأ موجعا عندما إستعمل إصطلاح "الإغتصاب المشروع"legitimate rape والذى يعنى ببساطة أن جريمة إغتصاب المرأة التى ينتج عنها حمل تنطوى على جانب من الشرعية بسبب موافقة المرأة الضمنية على ما يحدث بدليل أنها قد حملت !!! وهو منطق لا يتجاهل فقط الحقائق الطبية ولكن أيضا وقائع التاريخ.. فالتاريخ ملىء بحالات الحمل الناتجة عن إغتصاب صريح ليس به أية موافقة ضمنية أو غير ضمنية.
والمشكلة أن هذا المستوى الثقافى المضمحل مرشح لكى يحكم علاقات الولايات المتحدة مع العالم الخارجى حيث أن الكونجرس صاحب حول وطول فى صياغة تلك العلاقات..
ما هو هذا الذى حدث؟ وكيف حدث؟ ولماذ؟
أولالابد من ملاحظة هامة فى البداية وهى أن كل تلك الأديان، المسيحية والإسلام والهندوسية وديانة السيخ فى أصلها ليست متشددة ولا تدعو لمحاكم الضمير التى تمارس الآن.. صحيح أن هناك آيات ونصوص يمكن تفسيرها على عدة وجوه، وذلك فى الديانات جميعا، ولكن الديانات جميعا متفقة فى نفس الوقت على أن التفسير لابد أن يكون سلميا يفترض حسن النية لا عدائيا يفترض فى الآخرين سوء النية..
ثانيالابد من ملاحظة أن حوالى 70% من سكان الولايات المتحدة هم من أهل القرى والنجوع وليسوا من سكان المدن.. والقرى والنجوع الأمريكية لا يمكن بحال مقارنتها بالقرى والنجوع فى أوروبا الغربية الصناعية..
ثالثايجب معرفة أن المهاجرين الأوائل إلى الولايات المتحدة لم يغادروا أوروبا على أساس دينى أو طائفى وإنما على أساس إقتصادى بحثا عن حياة أفضل من تلك المتاحة فى أوروبا التى عانت من المجاعات والأمراض والحروب المستمرة.. ولهذا فقد أراد هؤلاء التعبير عن إمتنانهم للرب وعرفانهم للنعمة التى أسبغها عليهم متمثلة فى الأرض الواسعة والسلام النسبى والحرية التى لا حدود لها فابتدعوا عيد الشكر وهو عيد لا يعرفه الدين المسيحى وليس له سوابق فى أى مكان..
فالإنجليز مثلا والفرنسيون حكموا مساحات شاسعة من كوكب الأرض، أوسع كثيرا من الولايات المتحدة، وخضعت لهم شعوب كثيرة وكانت لهم مستعمرات غير محدودة ولكننا لم نسمع أبدا أن مسيحييى إنجلترا أو فرنسا أرادوا تقديم الشكر للرب فابتدعوا عيدا دينيا..
وقد جاء ذلك خلافا للمستعمرين اللاتين من البرتغال وإسبانيا الذين لم يخرجوا من بلادهم إلا على أساس كنسى دينى تبشيرى لنشر كلمة الرب، مما أوجد فى النهاية كنيسة كاثوليكية قوية فى بلاد جنوب أمريكا من المكسيك وكوبا شمالا إلى أرض النار جنوبا.. وقد أوجد الشعور بالحرية المطلقة لدى مهاجرى شمال أمريكا تصور القدرة على تعديل مسارات الدين والتاريخ معا، فبدأت التفاسير المتعددة للإنجيل حيث قام كل عرق أو طائفة أو حتى جماعة ليس بين أفرادها رابط واضح، قاموا بتفسير والإنجيل على ما يحلو لهم، فالسود تصوروا يسوع رجلا زنجيا مثلهم والهيسبانيك فعلوا نفس الشىء بينما بقى يسوع فى عيون الأوروبيين الشماليين من أصل إيرلندى أو إنجليزى أو ألمانى، رجلا ابيضا بالطبع !!
ولأن الولايات المتحدة قامت على أساس إقتصادى بحت فقد تطورت فيها إستراتيجيات التسويق والبيع كما لم يحدث كيفا وكما فى أى مكان على الأرض من قبل.. وتنبه النابهون من المهاجرين الجدد لأهمية الإعلان والدعاية فأصبحت المعلومات قوة لمن يريد أن يعرف وقوة أكبر كثيرا لمن يعطى المعلومة.. ونشأت صناعات الدعاية الإعلام والسينما والنشر وكل ما شابه ذلك..
وهكذا تلاقى مبدأ الحرية المطلقة مع مفهوم قوة المعلومات وأصبح عدد الديانات المسيحية فقط فى الولايات المتحدة يتجاوز المئات ناهيك عن جماعات اليهود المتفرقة والمسلمين أيضا والبوذيين والهندوس والسيخ والزرادشت وكل شىء.. بل نشأت أديان جديدة مثل الديانيتيك والساينتولوجى ومعبد الشعب بل وقد تزاوجت ديانات قديمة لتنتج المسيحية الصهيونية وأصبح الأمر غير محدد المعالم..
كما أنه لما كانت الولايات المتحدة قد نشأت على أساس إقتصادى بحت، فقد رأت النخبة الأمريكية فى الدين أنه مجرد سلعة تجارية يمكن إستثمارها لكسب مزيد من المال !!! وهنا وقعت الواقعة..