Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

منازل المستقبل: عودة إلى 1984

$
0
0
منازل المستقبلفي مدينة "سياتل"على الساحل الغربي للولايات المتحدة، ثمة ضاحية يعرفها الأهلون جيداً. إنها ضاحية "ريدموند"التي تستضيف المقر الأساسي لشركة "مايكروسوفت"العملاقة. لا يدخل المُجمّع الضخم لتلك الشركة إلا العاملون فيه، أو من يملكون إذناً للزيارة. وتنطوي جنباته على الأسرار التكنولوجية المعقّدة التي صَنَعَتْ (ولا تزال) قصة نجاح مذهل. تروي القصة ظهور نظام "ويندوز"على يد طالب يعمل في الكاراج الخلفي لمنزل أسرته، ثم هيمنته على ما يزيد على تسعين بالمئة من كومبيوترات العالم.
 
وتُنظّم الشركة زيارات صحافيّة إلى ذلك المقر، في مناسبات تكاد لا تنقطع. وهناك، يُنظر إلى قسم "البحوث والتطوير" Research & Development في الشركة باعتباره تجمعاً لأصحاب الأدمغة "المشتعلة"التي لا تطيق أن تفكر بالطرق التقليدية. وفي ذلك القسم، يغدو الحديث عن التكنولوجيا الرقميّة غرائبياً. وفي جنباته، تضحي حتى أشد الأفكار غرائبية شيئاً "مبتذلاً"وعادياً وشائعاً. ولعل كثيرون من غير المعتادين على النيران المتّقدة في عقول المُبدعين، ربما ظنّوا "قسم البحوث والتطوير"في "مايكروسوفت"، موئلاً لمن انفلت خيالهم ولم يعودوا بقادرين على السيطرة عليه. لنقل أن أحداً خرج بفكرة "ضخمة"تقول أنه يمكن للكومبيوتر المحمول باليد أن يتطور إلى درجة يصبح فيها قادراً على صنع المؤثرات البصرية والصوتية المتطورة للأفلام، مثل تحويل صورة لمنزل ريفي إلى شريط عن الحياة اليومية في الشتاء، مع المطر المتهاطل والتماع البرق ودوي الرعد وتدفق الجداول. بعد هنيهة، تبدو تلك الفكرة مبتذلة لأن مختبر "مايكروسوفت"في العاصمة الصينية بكين، الذي يرتبط بالانترنت مع هذا القسم، أنجزها منذ بضع سنوات!
 
سيارة الشرطة "تقرأ"المنزل!
 
يحتوي قسم "البحوث والتطوير"في مجمع "ريدموند"على جناح لا يكف عن التبدّل ويقصده الكثير من الزوار: "البيت الذكي". وثمة منزل يشبهه على الطرف الآخر من الكرة الأرضية، في "سيول" (عاصمة كوريا الجنوبية) تُشرف عليه شركة "سامسونغ"للالكترونيات. وهناك ما يشبه تلك الأشياء في قسم متخصّص بما يشار إليه باسم "الحوسبة الشاملة  في "معهد ماساشوستس للتقنية"في الولايات المتحدة. وعبر تلك النماذج وغيرها، يقدم خبراء التكنولوجيا الرقمية ما يفترض أن يكون صورة لما ستصير إليه منازلنا مستقبلاً، وغالباً من منظور شركات الكومبيوتر والانترنت. وتشترك تلك "المنازل الذكية"في أشياء كثيرة. على الرغم من الحرص على أن يبدو أثاثها مألوفاً، وأحياناً مع لمسة كلاسيكية، إلا أن لا شيء فيه تنطبق عليه صفة المألوف. ومثلاً، فإن أجهزة المطبخ تدار بالكومبيوتر، الأصح القول أن كل منها يحتوي على كومبيوتر صغير "مدفون"في ثناياه. فعلى باب البرّاد (الثلاجة)، هناك شاشة للحاسوب الذي يديرها، كما أنه موصول إلى الانترنت. ويلتقط ذلك  الكومبيوتر معلومات عن محتويات البرّاد، بفضل أشرطة الكترونية مُشفّرة مثبتة في أشيائها. تسمى تلك الأشرطة بـ"لوح الشيفرة" ("بار كود" Bar Code)، التي هي علامات إلكترونية تبث أشعة راديو شديدة الضآلة. هل قابلت يوماً لوح "بار كود"؟ أنت تراه يومياً في أسفل السلع التي نشتريها من "السوبر ماركت" (وبعض المكتبات ومحال بيع الملابس) والتي تعطي السعر عن تقريبها من أداة تقرأها، غالباً من خلال مرور ضوء أحمر عليها.
 
لنعد إلى "المنزل الذكي". في ذلك المكان، تتميّز "ألواح الشيفرة"في البرّاد بأنها متقدّمة عن تلك التي نراها راهناً. إذ تحتوي على معلومات تفصيلية مثل السعر وتاريخ انتهاء الصلاحية ومكان الصُنع وغيرها. وثمة أنواع منها "تقيس"الكمية التي تنقص من المحتويات كزجاجة المشروبات الغازية وأو قطعة اللحم أو الخضر والفواكه. إذا شارفت على الانتهاء، يرسل "لوح الشيفرة"رسالة قصيرة إلى كومبيوتر البرّاد، وهو متصل بالانترنت، ما يتيح لصاحب الدار الاتصال بالسوبرماركت لتجديد محتويات البرّاد.
 
ويمكن برمجة ذلك الكومبيوتر عينه، بحيث يتصل بالسوبرماركت مباشرة (بعبارة أدق، يتصل بكومبيوتر آخر في السوبر ماركت) ويُعدّ طلبية بالمشتريات المطلوبة. هناك أنواع متطورة من تلك الألواح، بحيث يمكن الكتابة عليها أيضاً. فمثلاً، إذا اشتريت مقعداً "ذكياً"، يُرسل إليه جهاز متخصص معلومات عنك تتضمن اسمك وعنوانك ورقم هاتفك، لتُضاف إلى المعلومات التي يحتويها "اللوح الذكي"أصلاً مثل السعر ونوعية الخشب والمصنع والمصدر والمستورد وغيرها.
 
أشباح قاتمة
 
على رغم مظهرها البريء، فإن كل محتويات "المنزل الذكي"تضم أنواعاً متنوعة من تلك الأشرطة الالكترونية المُشفّرة. وتنام تلك الألواح التي يرى فيها البعض تحدّ ضخمم لخصوصية الأفراد ولحقهم في الحفاظ على الحرية الشخصية، في خزانة الملابس والثياب والبرادي والتلفزيون والراديو وجهاز "هاي فاي"والكراسي والأسرة والمقاعد وغيرها. ومثلاً، تفتح خزانة الملابس، وتقرأ على الشاشة ما تحتويه من ثياب لكي تختار منها ما يناسبك. وعندما تُخرج قميصاً لتلبسه، تنتقل المعلومات عنه في كومبيوتر الخزانة من ملف "الموجودات"إلى ملف "قيد الاستخدام". وإذا وضعت القميص عينه في السلة المخصصة للملابس التي يجب إرسالها للكوي، تنقل المعلومات عنه إلى ملف آخر؛ وكذلك الأمر إذا وضعته في سلة الغسيل وهكذا دواليك. وينطبق الأمر على الساعة وزجاجة العطر والعقد والاسوارة والحلق والبروش وغيرها.
 
 وثمة أنواع من الحواسيب متخصّصة في الالتقاط موجات الراديو الواهية التي تصدر من تلك الألواح، وبالتالي قراءة ما تحمله من معلومات وتفاصيل. لنفترض أن لصّاً دخل المنزل، فسيرشده ذلك النوع من الكومبيوتر إلى "ما خفّ حمله وغلا ثمنه".
 
وكذلك يستطيع ضابط الشرطة أن يتعرف إلى محتويات المنزل كلها، مع تفاصيل تامة عنها تتضمن عمليات بيعها وشرائها ونقلها من مشتر إلى آخر، بمجرد دخوله إلى المنزل، ومن دون الحاجة إلى إذن صاحب المنزل! وأكثر من ذلك، تستطيع سيارة الشرطة، في زمن لم يعد بعيداً، التعرّف إلى محتويات المنازل بمجرد مرورها في الشارع. ويعني ذلك أن الدولة ترى أفرادها وتفاصيل حياتهم ودواخل بيوتهم، ومن دون إذن منهم، وعلى مدار الساعة. وبديهي القول أن ذلك يعطي أجهزة الدولة سلطات وسطوات أكثر هولاً مما تحوزه راهناً، ما يعني تضاؤلاً مستمراً للحريات الشخصية والفردية والعامة. إنها صورة أشد هولاً (بما لا يُقاس) مما تخيّله الروائي الانكليزي الراحل جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984"، حيث "الأخ الأكبر" (وهو كنية الحاكم المطلق المستبد في تلك الرواية) يُطل على الناس عبر شاشات مثبته في منازلهم ولا يجرؤن على إطفائها. إنه "الأخ الأكبر"وقد بات قادراً على مشاهدة ما يدور في دواخل البيوت وخلف الجدران وفي خبايا الخزانات وأسرة النوم وحتى الملابس والمأكولات والأثاث. هل تثق بالدولة إلى هذا الحدّ، حتى بعد فضيحة سنودن، وانكشافات "فايسبوك"و"واتس آب"، واختراقات الهاكرز، والحروب المعلوماتية بين الدول وغيرها؟ يحتاج الأمر إلى نقاشات أكثر اتساعاً.

Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

Trending Articles