أمضيت الأسبوع الماضي في أبو ظبي عاصمة الإمارات العربية المتحدة للمشاركة في ندوتين هامتين: واحدة عن مصر وتحولاتها، وأخرى عن آثار التفاهم الإيراني - الأميركي على الخليج العربي. ويعكس تعاقب الندوتين اهتماماً إماراتياً وخليجياً بالتطورات الإقليمية المتسارعة، مثلما يشي بالدور المتعاظم لمراكز الأبحاث في تحليل واستشراف التطورات والمشاركة في صنع القرارات المتعلقة بها، وهي مسألة إيجابية تبعث على التفاؤل في مواجهة التحولات الجيو-سياسية المتسارعة التي تعصف بالمنطقة الآن.
مصر الواقع والتحولات
نظم مركز الإمارات للسياسات، الذي تديره الدكتورة ابتسام الكتبي خلال يومي 15-16 حزيران 2014 الندوة الأولى المعنونة «مصر الواقع الراهن واستشراف التحولات». توزعت الندوة على عشر جلسات، تناولت موضوعات مثل: تحولات المشهد السياسي قبل 25 يناير 2011 وحتى 30 حزيران 2013، أولويات النظام السياسي بعد الانتخابات الرئاسية 2014، المصالحة والعنف والعلاقات المدنية - العسكرية، الاقتصاد المصري ومقتضيات النهوض، اتجاهات السياسات التنموية، المجتمع المدني والسياسات الثقافية، السياسة الخارجية المصرية في الإطارين الإقليمي والدولي، السياسة الخارجية المصرية في الدائرة العربية، أفق العلاقات المصرية - الخليجية، الخلاصة والسيناريوهات. شاركت في الجلسات العشر كمتحدثين نخبة من الخبراء المصريين هم بحسب ترتيب الجلسات مع حفظ الألقاب: أسامة الغزالي حرب، جمال عبد الجواد، أحمد زايد، مازن حسن، صالح الشيخ، عمرو هاشم ربيع، حسن أبو طالب، مختار نوح، طه عبد العليم، سمير رضوان، أمنية حلمي، رشاد عبده، عبد الفتاح الجبالي، أحمد السيد النجار، أيمن عبد الوهاب، أحمد مجاهد، عمار علي حسن، مصطفى علوي، كاتب السطور، هاني رسلان، محمد أنيس سالم، محمد السعيد إدريس، معتز سلامة، مالك عوني. وبدا من مداخلات غير المتحدثين من الخبراء وأساتذة العلوم السياسية الخليجيين أن هناك اهتماماً خليجياً واسعاً بالتطورات في مصر، وأن بلورة تحالف ثلاثي مصري - إماراتي - سعودي للتعامل مع التطورات الإقليمية المتسارعة يطغى على المداخلات، سواء بالتلميح أو التصريح. وكما هو متوقع، فقد استقطبت موضوعات السياسة الخارجية المصرية دائرة أوسع نسبياً من المداخلات والتعقيبات، خصوصاً أن هذه الموضوعات تحمل لبساً ما في تصورات الأطراف عن بعضها البعض من ناحية، وعن أدوارها المرتقبة من ناحية أخرى. حرصت ورقة كاتب السطور التي تناولت العلاقات المصرية - الإيرانية والمصرية - التركية في مراحلهما التاريخية المختلفة على تحديد سيناريوهات ثلاثة لكل علاقة، واحد متفائل وثان عقلاني تعاوني وثالث تصادمي. وإذ شددت الورقة على أهمية مصر كلاعب أوحد في المنطقة يمكنه - نظرياً وعملياً - رأب الصدع السني - الشيعي، فإن ذلك يتطلب تعاوناً خليجياً في استعادة مصر الهوامش والأدوار التي تركتها مصر خلفها في العقود السابقة لاستكمال عودتها الإقليمية وعدم الخوف من رفع مستوى العلاقات بين القاهرة وطهران كما حدث في السنوات الأخيرة، لأنه لا يمثل خصماً بالضرورة من القوة العربية الشاملة، بل إضافة لها. كما أن إدارة المباريات السياسية والإعلامية في المنطقة على قاعدة عروبية يخدم المصالح العربية العليا، لأن الانخراط في مباريات السني - الشيعي يفقد العرب مكوناً أصيلاً من مجتمعاتهم وحضاراتهم وقوتهم الشاملة، أي العرب الأقحاح من المسلمين الشيعة. وإذ طرحت الورقة العروبة الثقافية كحد أدنى للعلاقات العربية - العربية، فإنها دعت إلى بلورة نمط جديد من العروبة السياسية بعد طول تغييب وغياب. ومرد ذلك الطرح ليس انحيازاً أيديولوجياً - لا يتبرأ منه كاتب السطور - بل ضرورة عملانية إن كان للرقم العربي قيامة في معادلات الشرق الأوسط. كان لافتاً أن هذا الطرح لاقى قبولاً واسعاً من الجمهور الخليجي، الذي بات مستشعراً فداحة الخسارة بتغليب مباريات خاسرة قبل أن تبدأ، بالتوازي مع استبعاد أهم مكوّن حضاري يميز العرب في المنطقة. بالمقابل، لا يبدو أن هناك مصلحة مصرية في ترك العلاقات مع تركيا تتردى إلى مستوى قطع العلاقات، لأن ذلك لا يلبي المصلحة الوطنية المصرية. صحيح أن سقوط «الإخوان المسلمين» في مصر قد وجه ضربة ماكنة لطموحات تركيا الإقليمية، إلا أن استمرار المبارزات الإعلامية بين الطرفين ليس له أفق حقيقي، فلا أنقرة تستطيع تعديل موازين القوى في مصر، ولا القاهرة يمكنها تغيير المشهد السياسي في تركيا. نجح المؤتمر في إعطاء نظرة بانورامية شاملة عن الأوضاع في مصر، وفي البدء بحوار عقلاني بين أطراف المثلث المرتقب المصري - الإماراتي - السعودي، كرافعة لرقم عربي في معادلات الشرق الأوسط.
التفاهم الأميركي ـ الإيراني وتأثيراته
بعد استراحة ليوم واحد بدأت الندوة الثانية الهامة عن «التفاهم الأميركي - الإيراني وتأثيراته على الخليج العربي»، التي نظمها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ويديره الدكتور جمال سند السويدي خلال يومي 18-19 حزيران 2014، وهو من أضخم مراكز الأبحاث العربية على الإطلاق. شاركت نخبة من الخبراء الخليجيين في الندوة مثل الدكاترة محمد بن هويدن وجاسم الحوسني وأحمد المطروشي من الإمارات، والدكاترة حسن جوهر وعبد الرضا أسيري وعبد الله الشايجي من الكويت، والدكاترة صالح المانع وسعود السرحان من السعودية، ونبيل الحمر من البحرين. وبالمقابل، كانت كوكبة لامعة من الخبراء الأجانب حاضرة في فعاليات الندوة مع حفظ الألقاب: كريم سجاد بور الباحث في «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي» في واشنطن، أنوشيروان احتشامي أستاذ العلاقات الدولية بجامعة دورهام الإنكليزية، أمين صيقل رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة أستراليا الوطنية، السفير الأميركي السابق في الشرق الأوسط والأستاذ في «الأكاديمية البحرية الأميركية» جون ليمبرت، وأفتاب كمال باشا رئيس «برنامج دراسات الخليج» في جامعة جواهر لال نهرو الهندية، ونخبة من الباحثين الخليجيين والعرب.
ركز معظم المداخلات من الباحثين الخليجيين على التراجع الأميركي في المنطقة، وما يُبنى عليه من حتمية الاتفاق المرتقب بين واشنطن وطهران. كان واضحاً بين الزملاء الخليجيين أن هناك تغليباً لفرضية نجاح الاتفاق الأميركي - الإيراني، واختلافاً في التعاطي مع الآثار المترتبة عليه. وإذ سار كاتب السطور عكس سير المتحدثين الخليجيين، معتبراً أنه لا معطيات فعلية تشير إلى إمكانية إنجاز الاتفاق النووي خلال الشهور القليلة المقبلة، مع توقع مرور موعد العشرين من تموز المقبل دون اتفاق. وتركت التطورات في العراق بصمتها على أجواء الندوة، بحيث أشار لها أكثر من متحدث في سياقات مختلفة. وكان القاسم المشترك بين المتحدثين العرب في التعليق على هذه التطورات متمثلاً في إبراز أهمية المحور الخليجي - المصري في إعادة التوازن إلى معادلات المنطقة. في هذا السياق، تبدو مهمة مراكز الأبحاث المعنية مضاعفة، لأن الحديث العاطفي عن تحالف شيء، وإرساء هذا التحالف المنشود على أسس ثابتة وراسخة شيء آخر. تنهمك في فترات الاستراحة في تصفح مئات العناوين من الإصدارات، التي نشرها «مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية»، وآخرها كتاب «آفاق العصر الأميركي: السيادة والنفوذ في النظام العالمي الجديد» لمؤلفه الدكتور جمال سند السويدي. تعرف أن وجبة القراءة في الأسبوعين المقبلين ستتضاعف، فتشعر بالتحدي والأمل.
الأحلام والخيال السياسي
في رحلة العودة من أبو ظبي إلى القاهرة بالطائرة تحلق بأحلامك بعيداً، فترى عالماً عربياً متناغماً يؤسس قراراته على قراءة موضوعية لموازين القوى الإقليمية والدولية، يفسح المجال لعقوله ومراكز أبحاثه لتتولى أدوارها المناطة بها والقادرة عليها بالفعل. عالم عربي يتضامن بين دوله وشعوبه على أسس عقلانية وعاطفية في آنٍ معاً، يحترم الحقوق الأساسية لمواطنيه وينفتح على جواره الحضاري والجغرافي في إطار من الندية والاحترام المتبادل. يأخذك الحلم بعيداً فتحلق فوق ربوع العرب واجداً إياهم رقماً صعباً في معادلات منطقتهم، متجاوزاً ركام الخراب الراهن وحرائق الفتن الطائفية المتنقلة إلى المستقبل الآتي بالعرق والعمل والمعرفة. حلمك ليس ترفاً فكرياً أو هروباً من واقع أليم، بل جزء لا يتجزأ من خيال سياسي مطلوب لتعقل وتصور الخطوات المقبلة؛ مهما بدت الصورة كئيبة وباعثة على التشاؤم الآن. في الختام حقيقة لا بد من تذكير المتشائمين بها: ما زال العرب يشكلون الشطر الأعظم من سكان الشرق الأوسط، والقسم الأكبر من جغرافيا المنطقة، والنصيب الأوفر من مواردها الهيدروكربونية والغالبية الساحقة من ممراتها البحرية!
↧
أسبوع في الإمارات العربية المتحدة
↧