هذه الحوارات جرت فى داكار وليست فى " أديس أبابا" ! رغم أن موضوع الاتحاد الأفريقى وموقفه – فى أديس – من مصر كان هو الحدث الغالب – فى مناقشاتي على الأقل - بسبب قرب اتخاذ مجلس السلم والأمن الأفريقى لقراره بشأن رفع "الحظر على "أنشطة "مصر فى الاتحاد ...! وهو الموضوع الذى جر عديدا من الموضوعات الأخرى العالم-ثالثية للحوار.
كنت أعجب أصلا من قلق الإعلام المصرى ، ثم"فرحته"الشديدة لدرجة تبشيره "بالعودة "قبل مناقشة الاتحاد للموضوع ! حيث اني افترض أن الاتحاد هو المحتاج لمصر ، بأكثر من حاجتها له ! لكن ظروف الأزمة السياسية فى مصر حكمت أشياء كثيرة ، ومنها حوارات داكار حول الموضوع ....
وكان طبيعيا أن توحى داكار باتجاهات مختلفة للحوار . وعندما حضرت رئيسة وزرائها القاضية الفاضلة "أميناتا تورى"، لتحية مؤتمر المجلس الأفريقى ( كوديسريا ) ، شعرنا أن كل شيئ هادئ على شاطئ الأطلنطى الجنوبى .... رغم تفجره على بعد كيلومترات منها فى مالى ، ونيجيريا، بل وبقية الصحراء الغربية ...! .ومن حق الرئيسة أن تبدو هادئة هكذا طالما تعتمد على شعبية ديمقراطية تعتبر مثالا الآن على المستوى الأفريقى كله ..وليس عندها مشاكل العنف أو الإرهاب أو التدخل الأجنبى المباشر ....اللهم إلا استقرار علاقتها مع الفرنسيين ، و اليقظة لنشاط الإيرانيين ، حفاظا على القوة الاقتصادية للبنانيين الشيعة فى السنغال .
كان طبيعيا أن نجد فى السنغال قلقا من أى نظم غير ديمقراطية ، ولكنهم يتفهمون طبيعة التطورات المصرية ، كما يخشون مما يجرى فى ليبيا ، بسبب تسرب الأسلحة الليبية لأنحاء القارة
التعليقات على الاتحاد الأفريقى وموقفه كانت مثيرة أحيانا ، فرئيس الاتحاد الحالى (الموريتانى ) ينطبق عليه قواعد أخطر أحيانا مما ينطبق على مصر ، بحكم مأزق الانقلاب العسكرى الفعلى الذى قاده عام 2008 خلافا للحركة الشعبية المصرية، التى غيرت الحكم فى مصر...لذلك اندهش البعض من الضغط المصرى "للعودة "بينما الاتحاد هو المحتاج ...
فالاتحاد ودول القارة تبدو محتاجة للقوة المصرية للعون فى مواجهة الارهاب فى مالى ونيجيرياوالصومال ، والدول السابق تطرفها ضد مصر وفى مقدمتها نيجيريا وجنوب أفريقيا ، أصبحت طرفا فى معركة مواجهة الإرهاب ( يستعيد الحكم أيضا فى نيجيريا نفوذ الجنرالات "أوباسانجو "و "بوهارى"، و ( تقوم جنوب أفريقيا فى معظم الحالات بدور الشرطى الدولى! وحضر وزير الامن الي مصر مبكرا !) كما ان اثيوبيا وكينيا موجودتان فى الصومال بشكل غير قانونى تقريبا ، والموقف فى ليبيا فى أسوأ حالاته , ويمتد أثره عبر الصحراء ، وهذا ما يجعل الموقف الجزائرى بالضرورة أيضا مع التفاهم مع مصر بعد جفاء معروف ! . وأظن أن الأمريكيين والفرنسيين فى الأطلنطى ، أو الاتحاد الأوربى سيكونون أميل , مع أصدقائهم , إلى ترضية مصر فى هذه المرحلة طمعا في دورها الشرطي , مالم تتيقظ مصر وشعبها لتجنب ذلك !. وفوق هذا وذاك فإن حرمان الاتحاد من نصيب مصر فى ميزانيته خاصة مع مضاعفة العجز بغياب المساهمة الليبية يصيب نشاط الاتحاد الأفريقى بمقتل ! ، وهو يعانى ذلك من قبل .
بعد ذلك انتقل الباحثون بسرعة لجدول أعمال آخر أكثر تحديدا فى المجلس الأفريقى للبحوث الاجتماعية بداكار خاصا بقضية تمويل مثل هذه الهيئات الافريقية العلمية أو الشعبية من غير الممولين الأوربيين .والطريف أنهم توقعوا منى أخبارا عن إمكانيات مساعدة الخليجيين المالية للمجلس الأفريقى لسببين امتد إليهما الحوار : أولا أن مصر تقترب من الخليج أكثر من أية كتلة فى العالم ...! ثانيا : أن إحدى دول الخليج ترأس القمة العربية الأفريقية لثلاث سنوات قادمة وهى الكويت ، وطبيعى أن تمتد أنشطتها إلى التعاون مع مثل هذا المجلس فى داكار ، وغيره ... !
وابتسمت من هذا التفكير الأفريقى المتفائل .. !لعدم توفر معرفتى بهذا الكرم الخليجى تجاه أفريقيا منذ نهاية السبعينيات ( وأول ندوة دولية عن التعاون العربى الأفريقى كانت فى الشارقة 1976وكنت حاضرا لتسمية قاعة كبرى هناك باسم قاعة أفريقيا !)
المسألة الأخرى التى استحوذت على الحوارات الأفريقية فى داكار كانت تلك الظاهرة التى تجعل من "الأصوليين الإسلاميين " - وهذا أفضل تعبير موضوعى بدلا من السلفيين والإرهابييين والمتطرفين ...الخ - يمثلون الظاهرة ( الإسلامية ) بهذه الكثافة فى وقت واحد ، وبآليات عسكرية بهذا التقدم ليزحفوا بسهولة فى نيجيرياومالى والصومال وليبيا وسوريا والعراق ، وكأنهم جيوش متكاملة ، متقاربة ، وليسوا هؤلاء الأبرياء ممن يحرمون التعليم الأجنبى (بوكو حرام) أو الشباب الطيب الرافض للاحتلال فى الصومال ، أو شذرات التنظيمات المعارضة فى سوريا ممن يتمددون فجأة من تركيا لسوريا للعراق ، فى كفاءة نادرة أمام جيوش الأشاوس أو حماتها من الكتل الدولية !
ويدهش الأفارقة من سمتهم "الاسلامية "جميعا ، مع أنه منذ فترة قريبة ، كان ثمة ميل لدى عدد من المثقفين الأفارقة – مثل غيرهم فى أنحاء العالم – لاعتبار القوى الاسلامية صاحبة حق فى الوجود كقوى مدنية فى النهاية يمكن الحوار معها بدل التشدد المثير للإنقسام الاجتماعى ، لكن هذه الصورة "الإسلامية "فى أنحاء مختلفة من العالم الأفريقى والعربى ، باتت تضع التيارات الإسلامية- فى رأى الكثيرين- موضع التساؤل ...لأنها تثبت بهذا العنف صعوبة تحول "الدينى "إلى سياسى مدنى ، كما يتمثل الأمر فى بعض المناطق الهادئة ...بل وكانت السنغال نفسها التى بدأنا بها الحوار مثالا على تغلب السياسى على الدينى ، إزاء ما عرفناه عن طبيعة المعركة السياسية الرئاسية والبرلمانية مؤخرا ، وكيف حجبت القوى السياسية قوى دينية راسخة مثل المريدية والتيجانية والقادرية ..وحين حاول الرئيس السابق "عبد الله واد "الاستعانة بهذه القوى المحافظة خسر الانتخابات بجدارة !
لاحظ البعض أن موقع السنغال غير جاذب للتصارع الخارجى مثل الحالات الأخرى ، إلى جانب أو ضد هذه التيارات الأصولية ، ولذا بدأت جلسات المجلس تتجه لضرورة الوعى فى الفترة القادمة بمشكلة التدخل الأجنبى الذى يبدو مستفيدا من وجود هذه التوترات لتبرير وجوده ، على النحو الذى يبدو واضحا فى كل الحالات تقريبا ، بأفريقيا والشرق الأوسط .
قد يكون الحكم الديمقراطى الجديد فى السنغال بقيادة الرئيسان "سال"و"تورى"قد رأيا التحرك أيضا على الجبهة الشعبية لضمان سند "إنسانى"أفضل من تلك التدخلات العسكرية ! ولذا يجرى فى داكار الإعداد لانعقاد المنتدى الاجتماعى (أفريقيا)- وهو غير العالمي في جنوب افريقيا في ديسمب 2014 ايضا - فى دورة جديدة فى أكتوبر القادم لعام 2014 بما يفرض على مختلف "الشعوب القلقة"، أن تدفع بتمثيلها هناك بشكل مناسب ! وقد رأيت سمير أمين من موقعه فى داكار متحفزا معى للربط بين إحياء روح المنتدى الاجتماعى ، والاستعداد للذكرى الستين لمؤتمر "باندونج" (1955) ، وإزاء انطلاق المؤتمر الوزارى لعدم الانحياز تمهيدا لقمته فى فنزويلا عام 2015 ، فإن الحركة الشعبية على مستوى القارات الثلاث ، وفى تمثلات مختلفة لحضورها يمكن أن تجد منافذ للتحرك الحقيقى .
لكن على القوى الديمقراطية فى هذا "العالم الجنوبى"، أن تكون أكثر استعدادا على المستوى المحلى بقدر ما تسعى للحضور الخارجى أو الدولى .
فرضت هذه العلاقة المتداخلة بين التيارات الأصولية والتدخل الأجنبى ، ضرورة اتجاه المجلس الأفريقى للبحوث الاجتماعية – وغيره من الهيئات البحثية – العودة لدراسة موضوع الأصولية ، ومخاطر التدخل الأجنبى على حيوات الشعوب وثقافتها فى القارة .
واقتضى ذلك بالطبع التفكير فى العودة لمقولات تحرير العلوم الاجتماعية أو الدراسة المعمقة للثقافة الشعبية باعتبارها تعبيرا حقيقيا عن الثقافة الأصيلة وليست التيارات المصطنعة حديثا باسم الدين أو غيره ، ومن هنا انتزعنا الموافقة على اعتبار "العربية "لغة بحث وعمل فى المجلس لتشجيع الباحثين العرب على المساهمة فى هذه الدراسات .
ولم يكن لينسى المجتمعون أهمية التيارات الحديثة فى التجمعات الاقليمية ، ومدى تمثيلها لتوجهات العولمة ، أو قل الصراع بين الاستقلالية والتبعية ، فى الاقاليم السياسية المختلفة .
كل هذه الهموم التى عشناها فى داكار فاقت مجرد الفرحة الساذجة فى مصر"بالعودة "لنشاط الاتحاد الأفريقى فى جو من افتقاد الحوار حول دور مصر الأكبر فى قضايا العالم المختلفة مشرقا ومغربا ...