لا كرة برازيلية في "مونديال البرازيل 2014"! حتى لو فازت بلاد منتخب "السامبا"بالكأس الذهب لكرة القدم، فإن منتخبها لم يرقص على العشب الأخضر، بمعنى أن منتخبها لم يلعب تلك الكرة الساحرة التي كانت تُشبّه برقصة السامبا الفوّارة، أيام بيليه وزاغالو وديدي وجيرزينهو وتستاو وزيكو وسقراط. بتلك الكرة الممتلئة بسحر البراعة الفردية واللعب الجماعي المنسق بتلقائية وانسيابية، امتلأ خيال العالم بالبرازيل وكرتها. صنعت البرازيل صورتها الأخّاذة كمركز لا يضارع، عبر كرة يتناقلها لاعبون يتراقصون بمنافسيهم عبر التمرير بالكعوب وأنصاف الأقواس وبالالتفاف بالجسد مع الكرة، وبقفز الكرة فوق الرأس وملاقتها التفافيّاً بالصدر. في ذلك الزمان كسبت البرازيل الكأس الذهبية خمس مرات، وخسرتها مرات أكثر، لكنها كانت دوماً المدرسة التي لا تبارى في ألعاب تشبه السيرك والمهرجان والبهلوانات، بلاعبين يؤدون ركلات حرّة فتصبح كأنها ضربات جزاء، لأنها تطير في الهواء وتلتف كأنها توجّه بيد ساحر، وترسم في الهواء شكل أنشوطة ترتفع فوق حائط الصدّ وتسير مخادعة عين حارس المرمى، لتتقوّس صوب الزاوية الاخرى. تلك ضربة الأنشوطة كانت اختراعاً برازيلياً. وعلى غراره، كان غارينشيا المقوّس القدم يركض من زاوية الملعب ليشوط كرة ترسم قوساً ارتدادياً إلى أعلى الزاوية المقابلة، بل الزاوية الأقرب لجهته من الملعب، وهي أكثر صعوبة وأكثر ضيقاً، لكن ضربات غارينشيا كانت تنفذ إلى الشباك والمخيلات وتصنع صورة البرازيل. في زمن تكفّلت فيه البرازيل بصنع مجد سوف لن يتكرّر أبداً، وهو احتفاظها إلى الأبد بكأس "جول ريميه"لكرة القدم بعد أن فازت بثلاث مونديالات في 1958 و1962 و1970، كان لاعبوها يتناقلون الكرة بينهم في مثلثات تتحرّك ضمن دوائر مستمرة، كأنهم يؤدون رقصة لشطحات الصوفيّة. لم يكن ممكناً توقع ممرات الكرة البرازيلية، ولا تحرّكات أجساد لاعبيها الذين كانوا في حال رقص لا تهدأ، وابتكار لا ينتهي لكرة عبقرية.
أين ذلك الوصف من الطريقة التي تلعب فيها البرازيل في المونديال الذي أنفقت مليارات لاستضافته على أرضها؟ المفارقة الكبرى أن كرة اللعب البرازيلي الساحر والجميل، ضاعت كليّاً في مونديال البرازيل. ثمة مفارقة أشد عمقاً. تصدر البرازيل لاعبيها إلى أوروبا في صفقات ماليّة خيالية (ما زال برشلونة يهتزّ بتأثير صفقة انتقال نيمار دا سيلفا)، بالضبط لأنهم يلعبون كرة برازيلية. وعندما جمعت البرازيل منتخبها لمونديال 2014 من لاعبيها الذين صدّرتهم إلى أوروبا، عادوا إلى البرازيل بكرة... أوروبيّة تماماً.
لا يلعب المنتخب البرازيلي كرة "سحرة السامبا"، لكنه يؤدي كرة أوروبيّة تماماً. يمتلأ لعب المنتخب البرازيلي بالانضباط واللياقة والتركيز الذهني العالي والثقافة الكروية المتقدّمة، لكنه لا يلعب بمهارات كرة "السامبا"ولا انسيابيتها ولا ابتكاراتها ولا رقصاتها ولا موسيقى المثلثات القصيرة والكرة المتقافزة بين ظاهر الأقدام وخارج الصدور وأعلى جبهات الرأس. يلعب منتخب البرازيل بانضباط كروي، وبخطط تتراوح بين 4-4-2 (التي تسير بسرعة نحو الدفاع، وهو غير مألوف في البرازيل وأميركا اللاتينية)، و3-4-3 التي تميل بسرعة إلى 3-5-2، فتقتل اللعبة في منتصف الملعب. صحيح أن البرازيل فازت للمرة الأولى بكأس الذهب القديمة، عندما اكتشفت خطة 4-2-4 (وهي أعطت لكرة القدم أوصاف مراكز لاعبيها المتداولة لحد الآن)، لكن الصحيح أن لاعبيها دأبوا دوماً على "التلاعب"بالخطط على غرار تلاعبهم بالكرة. كانت الخطط تتحرّك مع تحرك الابتكار الفردي، خصوصاً للاعبين الأكثر مهارة، وبانسجامه مع لعب جماعي متحرّك وفوّار.
حتى أجساد لاعبي منتخب البرازيل 2014، تبدو منحوتة على النسق الأوروبي في التنظيم والأموال أيضاً. تبدو أجساداً قويّة متينة من صنع الـ"جيم"والرياضة المدروسة التي تنحت العضلات والعظام كي تكون قويّة ورشيقة، كأنها مستوحاة من تمثال ديفيد الشهير لمايكل أنجلو. لا يوجد أجساد تبوح بمعاناتها للفقر في البرازيل، وهي التي صنعت أسطورة سحرة السامبا الذين يركضون أطفالاً فقراء في مدن البرازيل وقراها، كي يسحروا العالَم كباراً ومشاهير. كان غارينشيا يركض بقدمين مقوّستين من شظف العيش وقلّة الحليب في الصغر. لكنه صنع صورة الجناح الهدّاف الذي يسدّد من ومن خارج منطقة الجزاء، إلى أضيق زاوية أو أبعدها، في المرمى.
لم تكن أجساد جيرزينهو وتوستاو وديدي تشي بأنها تلعب رياضة مدروسة، وأن منهجية عاليّة في علوم الرياضة تستخدم الآلات على مدار السنة، كي تصقل شكلها وترفع قوّتها وتزيد أنفاس لياقتها.
هل يحمل الأمر ظلالاً تفسر ما يحصل في البرازيل 2014، بمعنى احتجاج فقراء البرازيل على "إبعادهم"، بالمعنى الرمزي لتجاهل معاناتهم بانفاق أموال طائلة (ومجبولة بالفساد) على كرة قدم لم تعد لهم؟
يشكّل فقراء البرازيل الجزء الأضخم من الجمهور عددياً، وهم أيضاً مرتكز الأسطورة القائلة بأن نجوم كرة القدم تولد في أزقتهم وبين ظهرانيهم. واستبعدت أجسادهم وكرتهم في مونديال البرازيل حاضراً!
ولا يقتصر البعد الاجتماعي (والتخيّلي أيضاً، بمعنى أن لكل مجتمع بنيّة تخيّليّة ترسم علاقاته ورموزها) لمونديال 2014، على البرازيل وحدها.
حضر منتخب الـ"لاروخا"إلى المنتخب حاملاً همّ انفصال مقاطعة كاتالونيا، الذي يشتعل كلما تزايدت انتصارات برشلونة، لكنه تفجّر التهاباً بالسقوط المريع لذلك النادي. بمعنى تخيّلي، بدت هزيمة برشلونة كأنها ضربة لحلم استقلال كاتالونيا. وفي البرازيل، ترتسم صورة هزيمة منتخب "لاروخا"، كأنها رمز لعجز العرش الإسباني في الحفاظ على وحدة البلاد، خصوصاً أن فضائح الفساد أحاطت بالعرش، على غرار إحاطة شبهات الفساد بالفيفا وصفقات انتقال اللاعبين وأموال استضافة قطر لمونديال 2022، وأموال البنية التحتية لمونديال البرازيل 2014 وغيرها.
في السياق عينه، من الصعب عدم التفكير في الآثار التي تتولّد عن الهزائم المرّة لمنتخب "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" (نعم، كانت في ماضٍ أصبح كأنه أساطير الأولين)، في مونديال البرازيل. تحدث تلك الهزائم في وقت تتجه فيه المملكة المتحدة لمساحة رمادية، انتظاراً لاستفتاء اسكتلندا على استقلالها. في العام 1986، كانت هزيمة بريطانيا أمام الأرجنتين هزّة ارتدادية لحرب جزر الفوكلاند. هل تكون هزائم منتخب المملكة المتحدة، مقدّمة لاستقلال اسكتلندة، أم لعلها تكون مقدّمة لحرب اخرى في الفوكلاند، خصوصاً أن منتخب ليونيل ميسي لم يتوقف عن رفع شعار "الجزر أرجنتينية"منذ وطأت قدماه أرض مونديال البرازيل 2014؟ لننتظر ولنر.