عندما كنا أطفالا فى المدرسة كنا دائما نسمع عبارة "تعال وإشكو لى وأنا أرد لك حقك"سواء من المدرسين أو من ناظرة أو ناظر المدرسة. وكانت هذه العبارة تتردد فى كل مناسبة يقع فيها خلاف بين طفلين أو حتى مراهقين ويحاول أحدهما رد إعتداء الآخر بنفسه وبيده أو حتى بلسانه.
وهذه العبارة على قدر كونها غير مقبولة لدينا جميعا فى تلك السن المبكرة إلا أنها تعبر عن شىء لم نتعلمه بوضوح ولم أتعرف عليه أنا شخصيا مجسدا أمامى إلا بعد الخروج من مصر، وهو دولة القانون.
فطوال معيشتى فى مصر كانت القاعدة المعروفة هى أن ما يستطيع المرء أن ينجزه بمفرده فى مجال الدفاع عن الحقوق فعليه إنجازه. ولا يبق إذن للدولة إلا القيام بالمهمات التى يعجز عنها المواطن بقوته الذاتية.
فاللص مثلا لو أنك أمسكته توسعه ضربا أولا ثم بعد ذلك لك أن تقرر هل تبلغ عنه أم تكتفي بذلك القصاص الفردى.
والجار المزعج كذلك ومن يوقف سيارته فى طريقك ويعطلك إلخ ...
ولو أنك أقوى من ذلك درجتين على السلم الإجتماعى قد تدافع عن أرضك برجال لك تستأجرهم ضد من يتعدى عليها ولا تلجأ للدولة إلا إن عجزت عن الدفاع.
ولو أنك شديد القوى فلا تلجأ للدولة إطلاقا لأنك تستطيع التصرف فى جميع الأحوال بمفردك مالا ورجالا وسلطة ولا تلق لنصوص القانون بالا.
ولكننى عندما خرجت من مصر لاحظت أن الأمر هنا جد مختلف.
فالقصاص الفردي مسموح به فى مجال الممتلكات فقط فى حالة التلبس من جانب المعتدي وليس بعد ذلك. فمن يسرق دراجة مثلا ويضبطه مالكها متلبسا بالسرقة له أن يحرر ملكه من اليد المعتدية ولو باستعمال القوة. وعند هذا الحد يتوقف مدي تلك الرخصة لكي يبدأ بعد ذلك الطريق القانوني..
أما فى المجال الجنائي فنفس القواعد الخاصة بحق الدفاع المشروع تسري فى كل من الثقافتين.
والفرق الواضح يقع فى مجال الحقوق العينية أو بمعني أصح المجال الخاص بالقانون المدني..
فأين يقع هذا الفرق؟
أظن أن الفرق بين الثقافتين يقع فى الخبرة المجتمعية التى إكتسبها المواطن فى كل من البلدين.
فالمواطن المصرى خلال الأعوام الطويلة التى تعامل فيها مع المواطنين الآخرين قد توصل إلى هذه المعادلة لأنها الحل المتاح فى ظل فساد الدولة وأنانية القائمين عليها.
بينما المواطن الألمانى أو الأوروبى أو الغربى عموما توصل إلى معادلة أخرى وجد أنها سارية فى معظم الأحوال وهى أن الدولة تتعامل بقدر الإمكان - وليس طبعا بطريقة مطلقة - مع المواطنين على قدم المساواة. وبالتالى فاللجوء إليها قد يكون هو الحل الأسهل وقد يكون هو الحل الأضمن ولكنه فى النهاية وفى كل الحالات الحل المقبول والذى لا يحمل فى طياته أى شبهة جريمة جديدة.
وأظن أن المواطن المصرى على إستعداد لتقبل الحل الأوروبى لو أنه شعر بأن الدولة تتعامل معه بأى قدر من الإنصاف أكثر قليلا مما تعود عليه خلال العقود الماضية. ولكن الثقة عادت مفقودة.
وأزمة الثقة هذه لها أسباب عديدة.
أولها وأهمها طريقة تعيين الموظفين العموميين فى الدولة المصرية. فهذا هو سبب البلاء ومكمن الداء..
فالدولة المصرية – التي هي غالبا نموذج لكثير من دول العالم الثالث – لا تعين موظفيها والقائمين على شئونها إلا عن طريق لعله أصبح الآن الطريق الوحيد للتعيين، وهو الواسطة.
والواسطة نظام قديم معمول به عبر التاريخ بأسره ولكنه قد توسع كثيرا جدا فى دول العالم الثالث فجاوز الحدود المقبولة وتحول من واسطة إلى توريث مباشر، أوعلى الأقل رغبة فى توريث مباشر.
والتوريث هذا يعبر عن نفسه فى كثير من الصور، فهناك نسبة أبناء العاملين، وهناك إستثناءات ممنوحة لرؤساء المصالح فى تعيين عن غير طريق المسابقة وهناك إستثناءات أعضاء المجالس النيابية والمحلية وهناك إستثناءات الوزراء وهناك طرق لا حصر لعددها لكي يحصل فى النهاية من لا يستحق على ما هو حق لسواه.
ومجالات التوريث طالت فى مصر كثيرا جدا من القطاعات.. وأظن أن الوضع فى كثير من دول العالم الثالث لا يختلف كثيرا.
ومحصلة جميع هذه الأوضاع الغير مقنعة هي ما تنشىء تلك الحالة المجتمعية الرافضة للحلول القانونية والتي تفضل على القانون اللجوء إلى القوة المباشرة، لو أنها متوفرة. وهذا النظر للأمور لا يفرق بين تيار سياسي وتيار آخرن فقد طال جميع التيارات والجماعات السياسية. وهو نظر يتلخص كما أسلفت فى فكرة قياس القدرة قبل الإقدام على العمل، مع عدم أخذ عنصر القانون فى الإعتبار.
وهو النهج الذى سار عليه حكم كل الإدارات المصرية منذ 1952 وحتي 2014. وأظن أن خيبة أمل المواطن المصري فى الديموقراطية كانت سببا مباشرا فى فقدان الإخوان المسلمين عند الإطاحة بهم بهذه الطريقة المهينة، فقدانهم لأي تعاطف من المواطنين، رغم أنهم جاءوا بطريقة ديموقراطية لا شك فيها.
ويرجع إنعدام التعاطف إلى أنهم لم يظهروا أي إختلاف عمن سبقهم من الحكام فى التعامل مع فكرة القصاص الفردي المنفصل.
والغريب أن الجميع لا يتذكرون لفظ القانون إلا عندما يشعرون أنهم الطرف الضعيف، بينما يتناسون وجوده كاملا عندما يتمتعون بالمركز القوي.
إن دولة القانون لا تبدأ إلا فى الرأس، عندما يعتنق الإنسان فكرة أن في القانون حماية له من تغول الآخرين عليه.فالقانون هو فكرة غير مادية وليس هناك وجود لشىء ملموس إسمه القانون، بل هو حالة إفتراضية يتوافق الناس على إنشائها للإستفادة من مزايا هذا الإفتراض. أى أنها حيلة Fiction .
وطالما أن هذه الفكرة الإفتراضية غائبة عن الرأس الشرق أوسطي أو العربي الذى أصبح لا يعترف إلا بالاشياء الملموسة المادية المحسوسة التي لها وجود، كالسلاح والمال، فلن ينصلح حال هذه الدول ولن تخرج من المستنقع الذى دخلت فيه بفعل الفاشيات العربية والشرق أوسطية سواء العسكرى منها أو الديني، فكلاهما سواء..
وإنشاء الفاشيات العربية والشرق أوسطية سواء العسكري منها أو الديني يصلح محلا لمقال منفصل حيث أنه موضوع طويل وقديم وشيق وشائك فى نفس الوقت..