يتعجب المرء لدي مطالعة تاريخ مصر تعجبا شديدا. فهذا التاريخ ملىء بحالات من الهبوط الحاد ثم عودة الصعود البطيء بعد أن يكون اليأس قد تملك النفوس وأصبح كل شىء ملفوفا في ظلام الفوضى وعتمة المجهول.
وهذه الظاهرة ليس لها تفسير عقلاني يمكن الإمساك به، فالمجتمعات تتغير وتتبدل باستمرار وتصعد وتهبط مع مرور الزمان، إلا أن المجتمع المصري كان دائما يدور حول نفس النقطة تقريبا يتحرك حولها ولا يراوحها. فما هو السبب؟
أولا لابد من تحديد المقصود بمصطلح المجتمع المصري حيث أن هناك عدة مجتمعات. فهناك المجتمع الزراعي وهناك مجتعات لا زراعية ولكنها تقيم فى قرى كالصيادين، وهناك بالطبع مجتمع المدن الكبري القاهرة والأسكندرية وأسيوط ثم أن هناك البدو وقاطني الصحراء.
والمجتمع المؤثر فعلا فى الحياة الإقتصادية من بين كل تلك المجتمعات هو المجتمع الزراعي، إذ أن مصر التي درج على تسميتها أم الدنيا فى ذلك الزمان كانت لا تعرف للطعام إلا مصدرا واحدا هو الإنتاج الزراعي المحلي. قد تستورد الحرير من الهند أو المنسوجات القطنية أو الآلات من أوروبا ولكن الطعام كان حكرا على الأداء الزراعي المحلي.
وهذا الإحتكار الزراعي لمصر كان واقعا في يد نفس الشخصية التي لم تتغير فعلا عبر الزمان، شخصية الفلاح المصري.
ولهذا فلابد من فحص أغوار هذه الشخصية لكي نفهم دوافعها وبواعثها على التصرف خلال كل هذا التاريخ الطويل الذي لم يغير فيها شيئا لحوالي 55 قرنا من الزمان..
في ألمانيا يقولون ما لا يعرفه الفلاح من طعام لا يضعه فى فمه.
Was der Bauer nicht kennt, frisst der Bauer nicht.
وهذا المثل عن الفلاح الألماني يطلق من قبيل السخرية ممن لا يريدون تجربة أي شىء جديد ويتخوفون من المجازفة، ولكنه واقعي للغاية وهو أيضا منطبق على الفلاح المصري الذى هو فى حقيقته عاشق للمكسب والربح، إلا أنه لا يري مجالا للربح فى أي نشاط غير النشاط الزراعي، إذ أن هذا هو ما يفهم فيه وفيما يتعلق به يثق فى نفسه وفى خبراته الشخصية التي تضمن نجاح مشروعه.
فالزراعة وكل ما يتعلق بها من شئون مثل تربية الحيوانات المنزلية النافعة والتصنيع البسيط للمنتجات الغذائية هي المجال الوحيد الذى لا يتخوف الفلاح من الدخول فيه، إذ أنه بطبعه حريص ومتمسك بالمدخرات والأصول لا يفرط فيها ابدا.
ونتيجة لهذه الصفة التي تقصر نشاط الفلاح على الزراعة فإن حب الأرض يكاد يكون حب العاشقين.
وليس المقصود هنا هو الأحاديث الرومانسية عن إرتباط الفلاح بالأرض وأنه يعاملها كالمحبوبة وهذا الهراء الذى يتشدق به مثقفو القاهرة والمدن، لكن المقصود هو عدم التفريط بأي شكل من الاشكال فى الأرض.
فالفلاح قد يرهن الأرض، لكنه أبدا لا يبيعها، وهو يحرص دائما على أن يكون أحد أبنائه فلاحا حتي يرث الأرض من بعده ولا يدخل إليها غريب. وإن لم يكن له ولد ذكر فإن زوج إبنته يتم إختياره من خلال معيار نفعه أو ضرره للأرض.
وهذا الإرتباط بين الفلاح والأرض هو ما ينبغي أن نقف أمامه بالتأمل.
فالفلاح المصري مهووس بامتلاك الأرض كلما اذن له الزمان بذلك. وهو لا يمتلكها أبدا بغرض التجارة أو إعادة البيع بعد أن ترتفع قيمتها، أبدا، بل هو إن تملكها ففي ذهنه أنه إمتلاك إلى الأبد لا تنفصم عراه إلا يوم القيامة، إن كان ليوم القيامة وجود. فيوم القيامة فى علم الغيب أما الأرض فهي فى علم الحاضر المعلوم.
وفى الموجة العاتية لبناء عنابر الدواجن فى السبعينات كان الفلاحون من الجيل الجديد يحاربون آباءهم من الحرس القديم حتي يسمح الأب لإبنه باستقطاع مساحة لن تزيد على قيراطا أو قيراط ونصف من الحيازة لكي يبني عليها عنبرا "بالطوب الأحمر والأسمنت"لإيواء الكتاكيت وتربيتها بهدف البيع المربح إقتصاديا. وكان كل هم الأب هو أن الأرض لو دخلها الأسمنت فسوف تفسد ولن تصلح فيما بعد للزراعة.
أى أن الهدف من إمتلاك الأرض هو الزراعة بصفة اساسية وتربية الحيوان بصفة ثانوية ولا شىء غير ذلك. ولو أن تربية الحيوان (هنا الدواجن) سوف تتسبب فى إفساد الصفة الزراعية للأرض (بالاسمنت) فلا مجال للمناقشة، المشروع مرفوض.!!
ويبدو والله أعلم أن عملية الزراعة ومعاشرة النبات ينمو يوميا هي عملية تسبب نوعا من الإدمان لدي الفلاحين حيث أنهم يصبحوا بعد عدة مواسم زراعية غير قادرين على تصور أى عمل آخر سواء داخل الأرض، وبالطبع ومن باب أولي خارجها.
وأظن أن هذا الإدمان - الذى هو فى حقيقته إدمان جيد جدا ومفيد للغاية - كان هو الذى قام بمهمة تثبيت السفينة المصرية قرونا عديدة في وجه كل هذه العواصف والأعاصير التي هبت علي البلاد خلال 55 قرنا هي كل تاريخها المكتوب. فالإكتفاء الذاتي من المواد الغذائية هو عامل حاسم وجوهرى فى السلام الإجتماعي حتي ولو كان هناك قدر هائل من سوء توزيع الثروة، ولكنلا أحد يموت من الجوع، كما يقول الفلاحون حتي يومنا هذا.. وهو نموذج مصري متميز..
ففى الصين مثلا خرج ماوتسي تونج بفكرة مشروع القفزة الهائلة إلى الأمام فى نهاية الخمسينات والتي كان محتواها أن تتغير التركيبة الإقتصادية للريف الصيني من الزراعة إلى الوحدات الصناعية المنتجة فأنشئ فى كل قرية فرن عالي بدائى لصهر الحديد وإستخراج الصلب وقام الحزب بتوجيه الفلاحين إلى التخلص من الأدوات الزراعية المعدنية بإلقائها فى هذا الفرن العالي لأن المستقبل هو فى التصنيع.!!
وبالطبع عندما أهملت الزراعة وبارت الأرض وقعت مجاعة هائلة هي أكبر مجاعة فى التاريخ الإنساني راح ضحيتها ما لا يقل عن 40 مليون شخص إضطر فيها الناس إلى أكل الفئران ولحاء الشجر وبيع أطفالهم وكان حجم الكارثة غير مسبوق.
ونهجا كهذا لا يمكن له أن ينجح فى مصر، ذلك أن الفلاح المصري الذى يطيب للبعض أن يسميه الفلاح الفصيح يعلم أهمية الزراعة وجدوى الأرض ولا يفرط فى معداته الزراعية التي تعينه على نوازل الدهر.
وكنت قد كتبت لكم من قبل عن التقرير الذى بعث به أغاخان عقب زيارته لمصر فى بداية الحرب العالمية الأولي (كان يكتب تقريره لإنجلترا التي أرسلته) إذ كتب يقول أن سر قوة مصر الحقيقية هم الفلاحون الذين يعملون على إنتاج الطعام، وأن هؤلاء هم من نريدأن نكسبهم إلى صفنا لكي يقتنعوا بدخول الحرب إلى جانب الإمبراطورية..
أى أن المركز الحقيقي للثقل المصري لا يقع إلا فى الزراعة التي يقوم بها الفلاح.
وجميع الثروات التي بناها المصريون فى الأوقات التقليدية كانت من الزراعة وما يرتبط بها من الأنشطة.
وأهل الريف هم من كانوا يتملكون العقارات الغالية فى القاهرة والأسكندرية من عوائد ممارسة الزراعة، وكانوا يأتون بأهل المدن للعمل فى هذه المنازل كخدم ومحاسيب وتابعين وشماشرجية.
فجميع زعماء مصر قبل الحركة المباركة عام 52 كانوا من ملاك الأراضي الزراعية الذين إستثمروا جانبا من الثروة لكي ينتقلوا إلى القاهرة أو الاسكندرية عن طريق شراء عقار يسكنونه بعض الوقت ويسكنون الريف البعض الآخر من الوقت. ولكن هذه الطائفة ليست هي محل الحديث هنا..
لو جاز للمرء إستعمال مصطلح الأصلي والفرعي فى مجال الأديان لصح القول أن الدين الأصلي للفلاح هو الأرض وخدمتها والعمل لصالحها. ثم بعد الإيمان بهذا الدين الاصلي والتسليم به وممارسة طقوسه على الوجه الأكمل قد يأتي الدين الفرعي وهو الإسلام مثلا أو المسيحية أو قبلهما الديانات التي كانت سائدة فى مصر القديمة.
أعلم أن هذا التقسيم سوف يثير غضب البعض ولكنني كما أسلفت أعبر عن رؤيتي الخاصة التي لا تلزم أحدا.
وبيان ذلك إن الفلاحين فى مصر ليسوا موغلين فى التدين كما تصورهم الروايات السينمائية والقصص المكتوبة فى نوادي القاهرة أو على بلاجات الاسكندرية. فالفلاح لا يزكي مثلا ولا يذهب للحج إلا كل أربعة أو خمسة أجيال، إن ذهب. والصلاة ليست هامة جدا بالنسبة إليه كما نراها فى الأفلام. وكما أن الإفطار فى رمضان ليس سببا فى الإستهزاء منه، كذلك فإن الصوم ليس باعثا على مزيد من الإحترام.
فالباعث على الإستهزاء مثلا هو إرتكاب كبري الجرائم مثل بيع الارض، وهنا يستخدم كثيرا لفظ "خايب"حيث أن بيع الأرض هو "خيابة".. أو يمكن أن يكون الباعث على الإستهزاء هو الفشل فى الأمور الاصغر مثل التعرض للخداع فى صفقة بيع حمار أو عدم توخي الحرص فى شراء جاموسة يتضح فيما بعد أنها مريضة. وهذه أيضا تقع فى باب "الخيابة".. أو حتي التعرض للغش البسيط عند الحداد لدي شراء فأس أو جاروف لخدمة الأرض، وهي أيضا "خيابة"!! و هذه الدرجات من "الخيابة"فى القضايا الدنيوية هي التي تجلب الإستهزاء، أما أمور الدين فهي جد ثانوية لا تلفت النظر.
أما علي جانب المعاملات فالفلاح لا يعترف مثلا بالنظام الإسلامي للمواريث إذ أن له نظاما خاصا به لا يحيد عنه،الأرض للذكور..
وفى ذلك ما فيه من مخالفة صريحة للشريعة الإسلامية، ولكن من الذي يهتم بذلك من الفلاحين؟ إذ أن الدين الأصلي ينص على ذلك بينما لا ينص على التوزيع بين الذكور والإناث سوي ذلك الدينالآخر صاحب الإختصاصالفرعي، وبالتالي لا تطبق إلا أحكام الدين الأصلي،دين الأرض !!!
وقد كتب كثيرون جدا عن لؤم الفلاحين وكيف أنهم لا يقولون الصدق إلا إضطرارا وأنهم أصحاب إبتسامة صفراء تخفي ما تخفيه. وهذا الكلام هو إلى حد بعيد صحيح، ولكن أسبابه تتعلق كما هو واضح بالقهر السياسي الذى رأي الفلاح أن مقاومته غير مجدية وبالتالي قرر أن يلتف من حوله بهذه الطريقة الملتوية حتي لا يصطدم به، وبالطبع فإن كل ما يهمه من أمر هذا القهر هو ألا يتعدي الحاكم القهري على قرة عين الفلاح: الأرض.. وهذا اللؤم الذي ينسب عن حق إلى الفلاح هو ليس صفة قاصرة عليه وحده، بل هو يتشارك فيها مع كل أفراد المجتمع المصري ممن يتعرضون للظلم البين ولا يريدون لحياتهم أن تنتهي فى السجن أو على عود المشنقة، أضف إلى ذلك أن للفلاح هم إضافى هو هم المحافظة على الأرض، حيث أنه لو دخل السجن، وهو أمر لا يعبأ به الفلاح كثيرا، إما سوف تبور الأرض أو أنها ستصبح محلا لاستيلاء الآخرين عليها، وهذه هي الكارثة المحققة وليس فقدان الحرية فى ذاته كما نتصور نحن أبناء المدن.
وهذه الظاهرة هي سبب تفضيل كثير من الفلاحين الحبس لمدة بسيطة قد تصل إلى عام بسبب التهرب من الخدمة العسكرية مثلا على دفع الغرامة المالية، ليس فقط بسبب الفقر وعدم القدرة، بل بسبب الإطمئنان إلى أن الأرض سوف تكون محل عناية أخيه أو أبيه أو إبن عمه أثناء وجوده لتلك الفترة البسيطة فى الحبس.
والآن وقد تعرفنا على طبيعة تلك العلاقة العضوية بين الفلاح والأرض، علينا أن نبحث عن آثارها فى الحياة المصرية الحاضرة..
وهنا نبدأ حديث الكوارث..