Metro, Boulot, Dodo
Au déboulé garçon pointe ton numéro
Pour gagner ainsi le salaire
D’un morne jour utilitaire
Métro, boulot, bistro, mégots, dodo, zero
أصل هذا الإصطلاح باللغة الفرنسية يعود إلى قصيدة كتبها شاعر فرنسى إسمه بيير بييارن ينتقد رتابة الحياة فى عام 1951 ويخاطب فيها أحد العمال قائلا
هيا إصطف يا ولدى لكى تحصل على رقم
تقبض به أجرك عن يوم حزين يستغلونك فيه
وحياتك أصبحت المترو، العمل، الأكل فى الكشك الصغير، وسيجارة ثم نوم وهى فى النهاية صفر..
هذا هو أحد شعارات ثورة الطلبة فى فرنسا عام 1968 والمقصود به هو إظهار التمرد على الحياة التى كان يعيشها الناس قبل وقوع هذه الثورة حيث يركبون المترو (وتنطق الكلمة باللغة الفرنسية بمد الواو فى آخرها ) فى الصباح ثم يقضون اليوم بأكمله فى العمل وهو ما يرمز إليه لفظ boulot الذى يعنى صوت الماكينات فى المصانع وبعد ذلك لا يتبقى من اليوم سوى النوم وهو ما يرمز إليه لفظ dodoالمشتق من فعل dormir الذى يعنى النوم..
أى أن المقصود بهذا الشعار هو أن الطبقة العاملة لا تعيش إلا لكى تخدم مصلحة الطبقة التى تملك رأس المال من مصانع وبنوك وخلافه ثم عليها أن تنام بعد ذلك لأن دورها قد إنتهى إلى الصباح ليبدأ من جديد..
والواقع أن هذه الثورة لم تقتصر على فرنسا فقط بل كانت قد بدأت قبل ذلك فى عام 1967 فى برلين بمناسبة زيارة شاه إيران للجزء الغربى من المدينة المنقسمة فى تقليد كان كثير من قادة الغرب يحرصون عليه إظهارا للتضامن مع تلك المدينة التى غدت رمزا لصمود العالم الحر فى وجه الشمولية السوفيتية..
ولو نظر المرء إلى كل من ألمانيا وفرنسا وكل دول أوروبا فى ذلك الوقت لأدرك سبب الثورة على الفور.. فالتوزيعة الديموجرافية لتلك الدول كانت تشى بوجود جيل من الشباب الذى لا أمل له فى الوصول إلى المناصب المتوسطة فى الدولة ناهيك عن المناصب العليا، ففرنسا مثلا كان فرانسوا ميتران الذى بلغ فى ذلك الوقت 50 عاما لا يزال يعد من القيادات الشابة !!! وألمانيا كانت لا تزال تحكم بصفة أساسية من جيل ولد معظمه فى القرن التاسع عشر وشهد حربين كبيرتين فكانت قيمة النظام لديهم مبالغا فيها حيث أن المحال كانت تغلق فى السادسة مساءا على ما أظن وبعدها لم يكن هناك ما يمكن عمله.. حتى أننى عندما جئت إلى ألمانيا بعد تلك الأحداث بعشرين عاما كانت المحال تغلق أبوابها فى السادسة والنصف مساءا واستغرق نقاش البرلمان حوالى 3 سنوات لكى يمدوا الموعد حتى الثامنة!!
أما الإقتصاد فقد كان واقعا بأكمله فى يد الجيل الذى ساعد على صعود هتلر وأيد دكتاتوريته القاهرة ورآه يسقط ومع ذلك ظل ممسكا بتلابيب السلطة غير عابىء بالتغيرات التى كانت تقع فى المجتمع..
والحقيقة أن المرء لا يمكنه إغفال عاملين رئيسيين فى هذا السياق، أولهما وصول الرئيس جون كيندى البالغ من العمر 43 عاما إلى البيت الأبيض فى عام 1960، مما أوجد أملا فى نفوس الشباب، والثانى هو التهديد بوقوع حرب نووية فى أعقاب أزمة صواريخ كوبا عام 1962 والتى كادت أن تعصف بالإنسانية كلها لولا تعقل جون كيندى (الذى كان مستشار ألمانيا آديناور يراه رئيسا ضعيفا متخاذلا) والذى كان يواجه مؤسسة عسكرية وصناعية لم تكن تتورع عن الدخول فى حرب نووية ضد الإتحاد السوفيتى..
ولما اغتيل كيندى فى ظروف غير مفهومة ولا هى واضحة إلى اليوم وجاء جونسون بعقلية الكاوبوى أشعل حربا ضارية فى فيتنام بلا مبرر واضح وبذريعة واهية مصطنعة وتواردت الصور من تلك البقعة البعيدة لتشهد على وحشية ودموية نظام فيتنام الجنوبية فى قمع المعارضة مدعوما بالكامل من العم سام وقواته المتمركزة هناك بدأ الشباب الأوروبى يدرك حقيقة الدعاية الأمريكية عن العالم الحر وقيمه، وكيف أنها لا تفرق فى كثير عن الدعاية النازية التى كان يقوم بها جوبلز فى أثتاء فترة حكم النازى..
أضف إلى ذلك أن برامج التعليم فى ألمانيا كانت قد دأبت فى تلك الفترة ومنذ نهاية الحرب على إستزراع قيم حب السلام ونبذ الحروب واستهجان العنف بكافة صوره، بينما كان نفس الشباب يشاهد كل مساء على الشاشة صورا وأفلاما تسجل عنفا خالصا يمارسه الغرب فى آسيا وفى أفريقيا ضد كل من يعتقد أنه يشكل، أو قد يشكل خطرا شيوعيا.. وجاء هذا التناقض صارخا لدرجة أن الشباب لم يتحمل ذلك البون الشاسع بين النظرية والتطبيق..
وفى تلك الفترة تغير وجه المجتمع بطريقة سريعة وغير متوقعة فقد صدر فى أمريكا إعلان حقوق السود ومساواتهم بالبيض فى كل شىء (فى عهد جونسون وليس فى عهد كيندى) ..وكانت القوى الإستعمارية تتخلى يوميا عن مستعمراتها القديمة بالذات فى أفريقيا وظهرت دعوات إلى حرية اللقاءات الجنسية وحرية العلاقات خارج الزواج وظهر نوع جديد من الموسيقى والأغانى لم يكن له وجود قبل ذلك.. كما أن أزمة المبانى التى أعقبت الحرب جعلت من التوسع الرأسى طريقا لا مهرب منه مما أدى إلى تراكم عدد كبير من السكان على مساحة ضيقة بكل ما يعنيه ذلك من تدافع ومضايقات ومشاحنات..
والواقع أنه من العسير أن يعثر المرء على أحد المتحمسين لهذه الثورة أوالمساهمين فيها ممن ولد قبل عام 1940 وهو نفس العام الذى ولد فيه من دخلوا المدرسة فى أول عام دراسى بعد نهاية الحرب وتغير المناهج الدراسية..
ويمكن القول أن هذا الضغط المجتمعى هو الذى أنهى حرب فيتنام وهو الذى دفع إلى سياسة الوفاق التى بدأها نيكسون بعد ذلك عام 1971 سواء مع الإتحاد السوفيتى أو مع الصين..
وبالطبع لا يمكن إغفال الدور الذى قامت به فى ألمانيا المخابرات الألمانية الشرقية فى التأجيج على هذه الثورة وإشعال الأفكار المتمردة فى رؤوس الشباب فى الجامعات حيث أن القيادة فى موسكو وبرلين الشرقية رأت فى تلك الثورة فرصة ذهبية لتقويض أركان المجتمع الرأسمالى إعمالا لنظرية الثورة الماركسية التى تبدأ دائما بالغضب والتمرد الداخلى بسبب عدم تحقيق العدالة..
صحيح أن الأمر قد خرج فى كثير من الأحيان عن السيطرة ونتج عن تلك الثورة وبسببها جماعات يسارية دموية وصل بها الأمر إلى حد إرهاب وترويع المدنيين بلا مبرر، ولكن النتيجة النهائية لتلك الثورة كانت إيجابية.. فقد تبدل بالفعل وجه المجتمع سواء الأوروبى أو الأمريكى وتغيرت طبيعة العلاقات الإجتماعية وشحب دور الكنيسة التى وقع عليها جزء كبير من اللوم بسبب إنحيازها للفاشية فى الثلاثينات لكى لا تنتصر الشيوعية المعادية للكنيسة أو على الأقل كانت محل لوم على صمتها إن لم يكن على مساهمتها..
وهكذا بدأت كل هياكل السلطة القديمة فى الإهتزاز تمهيدا للسقوط أمام غضب الشباب.. ولعل أفضل حادثة تعبر عن ذلك الغضب هو ما وقع فى ذلك العام الفاصل 1968 أثناء المؤتمر العام للحزب المسيحى الديموقراطى الذى كان الشريك الأكبر فى التحالف الكبير الذى ضم الحزب الإشتراكى وكان يحكم ألمانيا منذ عام 1966 بحكومة تحت رئاسة المستشار كورت كيسنجر. فقد صعدت خلال المؤتمر إلى المنصة شابة لم تتعد الثلاثين من عمرها كانت متزوجة من مواطن فرنسى قضى والده أثناء الحرب على يد قوات الإحتلال الألمانى، صعدت إلى كيسنجر وعنفته بشدة على ماضيه النازى، حيث أنه كان عضوا فى الحزب اإشتراكى القومى للعمال الألمان (الإسم الرسمى للحزب الذى أنشأه هتلر) ثم خدم أثناء الحرب فى وزارة الخارجية فى قسم الإعلام والدعاية، وهو ما جعله فى إحتكاك مهنى وتنازع الإختصاصات مع وزارة الدعاية التى كان يرأسها الخطيب المفوه يوزف جوبلز الذى كان أكبر أعمدة الدعاية النازية، فقامت السيدة بتوبيخ المستشار الألمانى علانية ثم صفعته على وجهه بطريقة مستفزة عقابا له على مشاركته للمجرمين النازيين فى فعلتهم الشنعاء!!وبالطبع لم يحر المستشار جوابا على هذه الإهانة بل ظل واقفا بلا حراك!! وقد قبض عليها وقدمت للمحاكمة وحكم عليها بالحبس ولكن الحكم لم ينفذ لتمتعها بالجنسية الفرنسية!!
وكيسنجر رغم ثقافته العالية ومنصبه الأكاديمى المرموق (أستاذ فى الحقوق ودارس للفلسفة) فقد كان يمثل خضوع الطبقة المثقفة الألمانية أو ألجزء الأكبر منها لديماجوجية الحزب النازى بل والإستفادة من حكم ذلك الحزب.. فقد دخل العمل فى وزارة الخارجية حتى يتجنب التجنيد فى القوات المسلحة وكان دخله محترما بمقاييس تلك الأيام..
أما فى فرنسا فقد تقدم الرئيس ديجول بمشروع إعادة تنظيم البلديات والحكم المحلى كان محلا لكثير من الجدل حتى قرر ديجول طرحه فى إستفتاء شعبى حصل فيه المشروع على موافقة الفرنسيين ولكن بأغلبية ضئيلة للغاية مما جعل ديجول يعتبره صفعة معنوية لرئاسته ورفض شعبى لوجوده فاستقال من منصب الرئاسة بدوره..