الحرب العالمية الأولي
يحتفل العالم هذا العام وبالذات هذا الصيف بالذكرى المئوية الأولي لاندلاع الحرب العالمية الأولي التي غيرت وجه العالم إلى غير رجعة وجاءت بنظم لم يكن العالم يعرفها وأجهزت على نظم كان العالم قد ألفها لمئات السنين من قبل..
ما هي قصة هذه الحرب ولماذا إندلعت بهذه الطريقة المتسارعة بحيث لم يكن فى مقدور أي جهة فى أى من الدول المتحاربة أن توقفها؟
انظر الي جيدا، فأنت ربما تشاهد آخر واحد من جيل أبناء المدرسة الأوروبية القديمة في السياسة والحكم.
الإمبراطور فرانس جوزيف إمبراطور النمسا في حديثه لأحد الصحفيين قبل اندلاع الحرب بعدة سنوات.
ان ما تفعلونه انتم هنا هو نفس ما أقوم به انا وتحت نفس المعاناة، والفرق فقط هو أنكم في المصانع وانا في القصر!!
من خطاب للقيصر فيلهلم الثاني قيصر ألمانيا في حديثه الي عمال أحد مصانع السلاح في منطقة الرور غرب ألمانيا.
هذا هو قدرنا نحن من اختارنا الله لكي نحكم باسمه ونحمل مسئولية التوجيه والتقرير للآخرين ممن لا يحملون صفاتنا المتميزة..
من أقوال القيصر فيلهلم إمبراطور ألمانيا (ويللي) في حديثه مع (نيكي) ابن خالته القيصر نيكولا الثاني قيصر روسيا.
هأنذا أبرئكم من إلتزامكم تجاهي كملك شرعي عليكم، ولكن ماذا ستفعلون فى إلتزامكم أمام الله بالدفاع عن أرضنا المقدسة؟ هو إلتزام لا أملك أن أبرئكم منه.!!
من أقوال الملك بيتر الأول ملك صربيا فى خطابه للجنود على الجبهة..
DECADENCE
هي كلمة لم أستطع أن أجد لها مقابلا دقيقا في اللغة العربية. فهو ليس بالضبط انحطاط كما يقول القاموس، ولكنه أيضا نوع من الانعزال عن الحقيقة وإنكار الواقع بسبب التعالي والغرور.. وبالتالي فقدان الارتباط بادراك وقع الزمان، أي أنه "من فات زمنه"أو قل من أصابه العفن، لو صح هذا التعبير..
أنه اللفظ الذي يستعمله اليسار العربي منذ عقود حين يتحدث عن القيادات من التيارات الأخري، حيث يسميها العفنة، وأظن أن هذه هي الترجمة الادق
لقد قامت الحرب العالمية الأولى بسبب تعفن وتعافن الصفوة في كل من ألمانيا وروسيا والنمسا وفرنسا وطبعا إنجلترا والدولة العثمانية..
وتعفن الصفوة هو ظاهرة خطيرة جدا جدا وهي كالوباء المبيد، ان ظهرت لابد من التطهير الشامل الكامل..لا. بل هو سرطان ويعالج بحقن الكيماوي الذي يهاجم خلايا الجسم نفسه حتي السليم منها..
فعدد ضحايا الحروب من أحاد الناس يفوق بآلاف المرات عدد ضحاياها من أفراد الصفوة العفنة، رغم أن هؤلاء هم سبب قيام الحرب.
والمعلومة العامة التي يعرفها الجميع هي أن هذه الحرب العظمي قد بدأت بحادثة إغتيال فى مدينة سراييفو عاصمة إقليم البوسنة والهرسك فى نهاية شهر يونيو عام 1914 وراح ضحيتها الأمير فرانس فرديناند ولي عهد إمبراطورية النمسا وزوجته. ولكن هذا الحادث على هوله لا يبرر هذه الحرب التي ضلعت فيها جميع الدول الأوروبية وانتهت بمأساة إنسانية مروعة قتل فيها ملا لا يقل عن 12 مليون شخص وأجهزت على حياة 4 إمبراطوريات كبيرة وتسببت فى ثورة شيوعية. فالحادث فى سراييفو لم يكن إلا شرارة صغيرة اشعلت برميل كبير من البارود كانت أوروبا تقف على فوهته منذ ما يقرب من 30 عاما قبل وقوعه بحيث أن الأحداث كانت تتصاعد تراكميا حتي لحظة الإغتيال.
يتعلق الأمر كما هو الحال دائما بالمصالح الإقتصادية وأنصبة الدول المختلفة من سوق التجارة العالمية. وقد أدي ظهور دولة ألمانية كبيرة فى عام 1871 تضم أكبر تعداد سكاني فى وسط أوروبا وتربط بين ساحل بحر الشمال وجبال الألب، أدي ظهور هذا الكائن الإقتصادي الصناعي العسكري الجديد إلى إختلال الموازين التي إعتاد الأوروبيون على وجودها. فقد كانت المسألة الألمانية دائما أمرا يتم التلاعب عليه بين كل من روسيا وفرنسا وإنجلترا وفى بعض الأحيان النمسا. أما عقب قيام الدولة الألمانية الجديدة فقد أصبحت النمسا دولة صغيرة تتواري خجلا أمام المارد الجديد وأصبحت فرنسا تشعر بوطأة جيرة هذا المارد الذى لم ينشأ كدولة كبري إلا على أنقاض الكرامة العسكرية الفرنسية فى معركة كانت مهينة لفرنسا عام 1870. بل وإمعانا فى إذلال فرنسا إختار المستشار الحديدي بسمارك أن يتم الإعلان الرسمي عن قيام الدولة الألمانية الجديدة من داخل قصر فرساي وأن ينادي بالقيصر فيلهلم الأول قيصرا على ألمانيا من هذا القصر وسط مجاعة تفتك بالشعب الفرنسي خارج القصر..
وكانت إيطاليا أسبق من ألمانيا إلي تحقيق وحدتها السياسية بعقد كامل من الزمان وذلك عقب هزيمة ساحقة مهينة للدولة النمساوية فى معركة سولفرينو عام 1859.
وهذان الإنتصاران القوميان لابد وأنهما كانا ذا أثر عظيم فى إذكاء الروح القومية في عديد من أركان الأرض. والحركة القومية عاشت أزهي عصورها فى القرن التاسع عشر عندما بدأت الشعوب تدرك أن هناك ما يربط بين أفرادها أكثر من المصالح الإقتصادية، اللغة والدين والثقافة المشتركة.
وكانت الحياة السياسية والفكرية فى أوروبا قد تأثرت بشدة قبل ذلك بفعل حرب الإستقلال اليونانية عن تركيا فى عشرينات القرن التاسع عشر وهي الحرب التي كان الأوروبيون يرون في خوضها واجبا مقدسا حتي أن كثيرا من الأدباء والكتاب كانوا متحمسين للغاية لتأييد اليونان ضد الدولة العثمانية التي كانت تستخدم أيضا الجيش المصري الذى أرسله محمد على لمساندة تركيا ولكنه لاقي نفس مصير الجيش التركي وهزم الإثنان وخرجت اليونان منتصرة عسكريا وفازت باستقلالها سياسيا وجاءوا لها بأمير أوروبي من الدنمارك لكي يحكمها كملك. وهذه الحركة الإستقلالية التي كان أساسها قوميا ساهمت بالتأكيد فى رفع الروح القومية بين جميع شعوب أوروبا وخصوصا أن لليونان مركز ممتاز فى الفكر الأوروبي بسبب الحضارة الإغريقية القديمة وتأثيرها الهائل على الحضارة الأوروبية الحديثة.
وقد حارب الشاعر البريطاني اللورد بايرون فى هذه الحرب ضد الأتراك وفقد فيها حياته وهو أمر يظهر أهمية الشعور القومي فى تلك الفترة فى الفكر الأوروبي، بل والسياسي عموما فى كل العالم فلبقرن التاسع عشر يمكن بحق أن يطلق عليه المرء قرن الفكرة القومية.