Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

عولمات (1)

$
0
0

فى مارس من عام 1994 أسعدنى الحظ لكى أقضى إجازة رائعة لمدة 3 أسابيع فى تايلاند. وقد كنت وقتها موظفا فى إحدى شركات المقاولات الألمانية فى مدينة ميونيخ. وإلى جانب المعالم السياحية فى العاصمة بانجكوك كانت الخطة التى وضعتها زوجتى فى ذلك الوقت تقضى بأن نذهب إلى جنوب البلاد حيث الشواطىء الساحرة والمياه الدافئة والشمس المشرقة. وسافرنا بالفعل فى قطار تايلاندى إلى الجنوب فى رحلة إستغرقت المساء والليل بطوله لكى نصل إلى محطة النهاية فى الصباح الباكر ثم نستقل قارب إلى الجزيرة التى قامت زوجتى باختيارها. وقد قابلتنا على الميناء فتاة تايلاندية فى منتصف العشرينات تعمل فى الفندق الذى حجزنا فيه والذى يديره رجل سويسرى مقيم هناك منذ أكثر من عشر سنوات. وهذه الفتاة جاءت إلينا فى الخامسة صباحا لكى تقلنا بسيارة الفندق إلى حيث نقيم..
وبالطبع بمجرد وصولنا إستغرقنا فى النوم حيث أن القطار كان سيئا للغاية ولم نستطع النوم فيه على الإطلاق.
وهذه الفتاة كانت تعمل منذ السادسة صباحا وحتى الحادية عشر مساءا بلا إنقطاع، تنظف وتشترى إحتياجات الفندق وتوصل الضيوف من وإلى الميناء وتطبخ وترتب الموائد وكل ما يخطر ببال أى منا من أعمال الفنادق كانت هى داخلة فيه.
وبالإقامة فى ذلك المكان كان أن تحادثنا معها وتعرفنا على ظروف حياتها.. فهى من أهل شمال تايلاند. وهى تعمل بالجنوب لأن فرص العمل بالجنوب أفضل بسبب النشاط السياحى. وقد أنفقت على نفسها من عملها فى البداية فى الشمال لكى تتعلم الإنجليزية. والحقيقة أننى لا أتذكر إن كانت قد ذكرت لى أجرها ولكننى لا أعرف كم كان يبلغ.
ورصيدها من الإجازات كان أسبوعا كل عام. وهذا الأسبوع كانت تقضيه كالتالى: يوم كامل ونصف يوم سفر فى إتجاه الشمال لزيارة أسرتها. أربعة أيام مدة الإقامة فى قريتها بشمال البلاد. يوم كامل ونصف يوم فى القطار لكى تعود إلى محل عملها.
لا يوجد تأمين صحى.. لا يوجد تأمين معاشات.. لا توجد ساعات محددة للعمل كما أسلفت..

وكموظف فى شركة ألمانية فى ذلك الوقت كان من حقى السنوى 30 يوم عمل أى 6 أسابيع كاملة حيث أن أسبوع العمل هو خمسة أيام فقط. وكان من حقى لو أننى مرضت أثناء الإجازة أن استحضر الطبيب لكى يكتب لى شهادة مرضية بعدد الأيام التى مرضت فيها حتى تخصم من عدد الأيام التى تغيبت فيها عن العمل أثناء الإجازة لكى أعوضها كإجازة فيما بعد. وكان من حقى أن أتقاضى مبلغ 50 مارك يوميا عن كل يوم إجازة رغم أن مرتبى يصرف بطريقة تلقائية أثناء الإجازة.
ويشاء القدر أن أسافر فى نفس ذلك العام 1994 إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وكنت أصاحب أخى المقيم هناك فى أحد المرات فتوقف عند محطة البنزين لكى يملأ سيارته ليكمل السفر.. وعندما نزلت معه من السيارة وتطلعت إلى ماكينة البنزين فذهلت من رخص سعر جالون البنزين الذى يدفعه الأمريكيون.. فقد كان تقريبا معادلا لسعر اللتر من البنزين فى أوروبا أو ألمانيا التى أعيش فيها مع أن الجالون يعادل تقريبا 4 لترات.
وكانت ذكريات حرب الكويت فى ذلك الوقت لا تزال حية فى ذاكرتى ووجدت نفسى لأول مرة واقفا وجها لوجه أمام السبب الحقيقى لشن تلك الحرب.. إن سبب الحرب لم يكن كما يعتقد الكثيرون البترول.. كلا.. إنه كان البترول الرخيص..
وتذكرت مقالا لهيكل كنت قد قرأته فى أيام الصبا يروى فيه أن كيسنجر لم يكن يحب وزير خارجية فرنسا ميشيل جوبير فى أوائل السبعينات فى إدارة الرئيس بومبيدو. وكان يتهكم عليه بسبب قصر قامته. وفى أحد المؤتمرات صاح فيه كيسنجر أمام جمع من وزراء الخارجية قائلا: "إنتهى عصر الطاقة الرخيصة.. من الآن فصاعدا على أوروبا أن تدفع الفاتورة الحقيقية لما تستهلكه من طاقة"..
إنتهت الروايات الشخصية..
وبعقد مقارنة بسيطة بين ما تحصل هذه الفتاة عليه وما كنت أنا أحصل عليه توصلت لنتيجة مفزعة لا تقبل الشك.. أننى كمواطن مقيم فى الغرب كنت أعيش على حساب تلك الفتاة المسكينة.

ثم بعقد مقارنة أيضا بسيطة بين ما يدفعه المواطن الأمريكى والمواطن الأوروبى فى سعر الطاقة توصلت للنتيجة الثانية التى لا تقبل الشك: أمريكا وحدها تحصل على طاقة رخيصة جدا خلافا لكل العالم..

وبالنظر للأوضاع التى كانت سائدة طوال السنوات ما بين 1946 و1990 يجد المرء أن كل مزايا العيش تقريبا كانت من نصيب المواطن الغربى سواء فى أوروبا أو أمريكا أو اليابان بينما كانت كل مثالب الحياة من نصيب المواطن الشرقى سواء فى أوروبا الشرقية أو الصين. فالمواطن الغربى كانت لديه أقوى عملات مقبولة عالميا، وكانت لديه أفضل شبكة مواصلات برية وجوية وكان يحصل على أعلى أجر فى الساعة فى العالم وكانت القدرة الشرائية لدخله هى الأفضل فى كل الدنيا وكان يتمتع بكل الحريات المعروفة والتى لم تكن قبل ذلك الزمان معروفة وبالطبع كان يحصل على كثير المواد الخام بسعر زهيد مقارنة بسعر المواد المصنعة. وفى الولايات المتحدة كانت المكافأة هى البترول الرخيص جدا بينما فى أوروبا كانت المكافأة متمثلة فى النظم الإجتماعية التى تحمى المواطن من الضيق المالى والمرض والبطالة.
أما المواطن الشرقى فقد كان من نصيبه أن وقع أسيرا للحكومات الشيوعية التى لا تعرف كيف تستغل الإمكانيات المتاحة أو تهدرها. وقد صاحب ذلك قهر سياسى وإجتماعى وتضييق على الحريات حتى لا تعلو أصوات النقد للفشل الإقتصادى الذى كانت الحكومات تتردى فيه من عام إلى عام. كذلك إنعكس العجز الإدارى والإقتصادى فى تلك المجتمعات على نوعية الخدمات والمنتجات التى كانت تقدم للمواطن فى تلك الدول. صحيح أنه كان متمتعا بتأمين صحى حكومى ولكن مع ذلك كان متوسط الأعمار فى الشرق أدنى منه فى الغرب. أما المنتجات فقد كانت فى الدرجة الدنيا على مقياس الجودة. ففى عام 1992 عقدت مجلة الإيكونوميست مقارنة ساخرة بين إقتصاد كل من ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية عبرت عنه بالجملة التالية: "إن الفرق بين الإقتصاد الألمانى فى الغرب وشقيقه فى الغرب هو نفس الفرق بين السيارة البورشه والسيارة الترابنت"..
والنتيجة التى يمكن الخروج بها من هذه المقارنة هى أنه بفضل الحكم الشيوعى فى الشرق خلت الساحة للغرب لكى يهيمن على العالم مواردا وأسواقا مما أسفر عن تراكم هائل للثروة فى الغرب فى نفس الوقت الذى تبدى فيه الفشل الإشتراكى على صورة إفلاس إقتصادى أنهى حياة تلك النظم الإشتراكية جميعا فى نفس الوقت تقريبا.
أى أن الغرب قد إستفاد من وجود الشيوعية ولم يخسر بسببها.
وفى كل تلك الفترة الممتدة لم يكن موقف العالم الثالث إلا محاولة اللعب على الغرب بالتلويح بالصداقة مع الشرق. وهو إتجاه سياسى كانت مصر من أهم القائمين عليه. ومن الجهة الأخرى كانت غالبية دول العام الثالث إن لم تتلاعب على الغرب بالتلويح بالصداقة مع الشرق فإنها خاضعة للغرب بطريقة إقتصادية كاملة.فمعظم الخزانات الطبيعية من الخامات كانت فى يد الغرب. بترول الخليج وبترول فنزويلا ونحاس الكونجو وماس وذهب جنوب أفريقيا وكاوتشوك شرق آسيا (الذى هرب مغامر بريطانى شتلاته من أمريكا الوسطى إلى إندونيسيا) بينما كان المعسكر الشرقى ضعيفا فى موارده الطبيعية التى لم يشأ القدر لها أن تتواجد إلا فى الإتحاد السوفيتى الغنى بموارده والفقير فى أسلوب إدارتها. مع إستثناء جاء متأخرا هو أنجولا التى دانت للسوفيت فى منتصف السبعينات بعد قرون من الإحتلال البرتغالى.
على أن أحد أقوى الأسلحة التى كان يملكها الغرب فى الحرب العقائدية ضد الشرق كان سلاح الإعلام. فالسينما والصحافة الأدب وكتابة التاريخ والأغانى والموسيقى السائدة كانت كلها منتجات غربية لا سهم فيها للمعسكر الشرقى.
ومن أفضل الأمثلة على السيطرة الغربية على مجال الإعلام هو أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. فقد إنتهت المحنة باتفاق بين الإتحاد السوفيتى والولايات المتحدة يقضى بأن يسحب السوفيت الصواريخ من أرض كوبا مقابل أن يسحب الأمريكيون القنابل النووية من أرض تركيا. إلا أن الولايات المتحدة أصرت على أن يبقى الإلتزام الأمريكى بسحب القنابل من تركيا فى طى الكتمان لا يعرف به أحد، حيث أنهم وضعوا ذلك شرطا يعلق عليه الإتفاق بأسره. وهكذا بدا أمام العالم أن السوفيت هم البادئين بالتحرش وهم الذين تراجعوا بينما الواقع يقول أن الأمريكيين هم من بادر بالتحرش على حدود السوفيت وأن كل ما وقع من الإتحاد السوفيتى لم يعد أن يكون رد فعل مشروع على الإستفزاز الأمريكى. وهكذا كان الفارق هائلا فى نظرة كل معسكر لدور الإعلام وتأثيره فى إدارة الصراع الذى بقى باردا بينهما وإن سخن أحيانا عن طريق وكالة الدول الأصغر.
ونفس هذا الشىء ينطبق على برلين الغربية التى كان الإعلام الغربى يصورها على أنها جزيرة معزولة ومهددة من السوفيت فى أى لحظة وأن سكانها من الرهائن المقبوض عليهم من جانب موسكو بينما يقول الواقع أن مساحة برلين الغربية كانت تفوق مساحة أى مدينة ألمانية غربية أخرى وكانت أكبر مدينة صناعية فى ألمانيا وكان فى مقدرة سكانها مغادرتها عن طريق الجو أولا ثم بعد عقد الإتفاقيات اللازمة أصبحت مرتبطة بثلاثة طرق ترانزيت تصلها بالغرب الألمانى. أضف إلى ذلك أن القمامة التى كانت تنتجها برلين الغربية كان يتم نقلها باستمرار إلى الشرق حيث تعالج وهذا وحده باب للحياة لم يحاول السوفيت إغلاقه أبدا. كما أن إتفاق برلين الذى عقد بعد الحرب مباشرة لم يمنع النقل النهرى بين القطاعين وهذا باب آخر للحياة لم يحاول السوفيت إغلاقه أبدا.
ولكن أحدا لم يكن يسمع بهذه الإستثناءات وبالتالى إعتقد المواطن العادى فى جميع أرجاء العالم أن أهل برلين هم رهائن الشرق. وكان الإعلام هو السلاح المستعمل فى خلق هذا الإعتقاد.
كذلك فإن الطيار الأمريكى جارى باورز الذى سقطت طائرته على أرض الإتحاد السوفيتى عام 1960 تم تصويره للعالم على أنه ضحية قرصنة سوفيتية وأن السوفيت يسيئون معاملته وقيل فى البداية أن طائرته قد ضلت طريقها من مطار إنجرليك فى تركيا داخل الاراضى السوفيتية فأسقطها الإتحاد السوفيتى مع أن الواقع هو أنه كان مكلفا بمهمة إستطلاعية لتصوير مواقع حربية سوفيتية لصالح وكالة المخابرات المركزية التى ضمته إلى صفوفها بعد ندبه من القوات الجوية للعمل بالوكالة. كما أنه لم يقلع من تركيا بل من مدينة بيشاور الباكستانية التى تبعد عن تركيا آلاف الأميال وكان الهدف من رحلته هو تصوير المواقع الحربية من الجنوب السوفيتى إلى الشمال المتاخم لفنلندا وهو نشاط تجسسى صرف كان يستحق عنه الإعدام.
ولئن كان السوفيت لم يقموا بإعدام الجاسوس الأمريكى (وهم فى الواقع لم يعدموا أى جاسوس أمريكى) فإن الأمريكيين هم من قاموا بإعدام الزوجين جوليوس وإيثيل روزنبرج عام 1953 بعد أن إنكشف أنهما مررا تفاصيل صناعة القنبلة النووية للإتحاد السوفيتى، مع الأخذ فى الإعتبار أن الهدف من ذلك كان على ما أعلن كلاهما عنه هدفا مثاليا نبيلا !!! فهما كانا يريان أن إستئثار دولة واحدة بالمعارف النووية يجعل منها قوة متسلطة على مقادير العالم فأرادا كسر الإحتكار الأمريكى رغم أنهما كانا أمريكيين. وهى فكرة فى الواقع جديرة بعظيم الإحترام إنسانيا رغم كونها مرتبطة بعمل إجرامى من وجهة النظر القانونية. ولكن الإعلام كان يصور الإتحاد السوفيتى دائما على أنه الطرف المعتدى والمتحفز للإنقضاض رغم أنه لم ينقض ولا مرة واحدة.
ولعل ماوتسى تونج هو أول من رصد تلك الظاهرة حيث أنه فى آخر لقاء بينه وبين الزعيم السوفيتى خروشوف فى عام 1958 عاب الأول على الثانى تكرار مواقفه المتخاذلة أمام الغرب وقال له أنكم فى كل مرة تتذرعون بالوضع الدولى والسلام العالمى إلى درجة أن أصبح وضعكم كوضع الفلاح الذى يدخل منزله ويرى زوجته فى أحضان رجل غريب ولكنه لا يقوم بأى شىء حفاظا على السلام العالمى. وعندئذ غضب خروتشوف وقال له ماذا عساكم فاعلون لو أننى جئت غدا بالجيش الأحمر وحاصرت بكين؟ فرد عليه ماو سوف أهرب للجبال وأشن عليكم حرب عصابات أفنيكم فيها ونحن مدربون جيدا على هذا وسوف نهزمكم. وهنا إنتهى الحديث بين الزعيمين وعاد خروشوف إلى بلاده غاضبا ووقع شرخ هائل فى العلاقة بين الحزبين الشيوعيين الكبيرين لم يلتئم إلا بنهاية الإتحاد السوفيتى بعد ذلك اللقاء بأربعين عاما.
وبالإضافة إلى كل تلك المزايا التى كان الغرب يتمتع بها كانت هناك ميزة هامة للغاية هى ميزة الإتصالات. فالإتصالات عبر العالم كانت خلال كل فترة الحرب الباردة فى يد غربية. وأذكر أننى خلال فترة صباى فى السودان كنت أسمع من الكبار أن كل مكالمة تليفون بين الخرطوم والقاهرة كان لابد لها أولا من أن تمر عبر لندن. تماما كما أن تحويلات البنوك بين أى بلدين تمر عبر ذلك المركز الدولى المالى الهام.
وإلى جانب سلاح الإعلام كان للغرب سلاح آخر أشد وأمضى من كل الأسلحة فى حربه الصامتة الباردة على الشرق. إنه سلاح المال والبنوك.
كانت الدول الاوروبية أسبق من غيرها إلى معرفة أهمية البنوك حيث أنه يعتقد أن البنوك فى صورتها الحديثة كانت فكرة إيطالية نشأت فى عصور النهضة مع إزدهار التجارة بالمدن الساحلية مثل فينيسيا وفلورنسا. ومن خلال التجارة مع المستعمرات نشا قطاع هائل الحجم من التعاملات يقوم بتمويل هذه التجارة ويعتمد فى الأساس على جمع مدخرات التجار والعاملين بالدولة لكى يقوم بإعادة ضخها فى الإقتصاد على هيئة خدمات تمويلية للتجارة ومن بعد ذلك للصناعة. وقد قرأنا جميعا عن تمويل بنك قطاع خاص للحكومة البريطانية فى عام 1876 حين كانت بحاجة ماسة لمبلغ كبير نسبيا من المال السريع بدون إنتظار لموافقة البرلمان. وقد قام بنك البارون روتشيلد بهذه المهمة خير قيام إذ تم فتح البنك ليلا وتم تحميل المبلغ المطلوب لكى يسافر فورا إلى مصر لشراء أسهمها فى قناة السويس.
كذلك كانت البنوك الأوروبية هى التى تمول النشاط الإستعمارى لكل من هولندا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا والبرتغال وإسبانيا وألمانيا عقب توحيدها وبالطبع إنجلترا صاحبة مبدأ الربط الدائم بين التجارة والعلم.
وسلاح البنوك هو سلاح ماض يستطيع الممسك به أن يشل جميع حركات غريمه بطريقة سهلة وسريعة. فإلى جانب الإحتياج المستمر للتمويل فهناك العقود الممتدة فى الزمان والتى يصعب الخروج منها والتى ينتج عنها أن يتقاضى المقرض القدر الذى اقرضه للمقترض عدة مرات عن طريق الفوائد التراكمية وشروط السداد المشروط والمؤجل. وكلها تم تشخيصها على أفضل وجه فى رائعة وليام شكسبير تاجر البندقية.
وهذا السلاح يعد أقوى سلاح فى يد الدول الأوروبية الغربية ولعله أقوى فى تلك اليد عما هو عليه فى اليد الأمريكية.
ومن غير الواضح تماما أى الطرفين يحرك الآخر، هل الدول الأوروبية تحرك البنوك أم أن العكس هو الأصح والأوقع؟ وسلاح البنوك هذا هو الذى جعل من بعض الشعوب عبيدا لدى البعض الآخر. وهو سلاح أشد فتكا من السلاح الحربى المباشر والذى يستعمله الجنود فى معارك الدم. ولن يجد المرء كارثة حلت بأمة أو نازلة نزلت بشعب إلا وكان الواقف خلفها هو إحدى هذه المؤسسات المالية.
وهذا السلاح قد برع الغرب فى إستعماله وفى الإستحداث المستمر لطرق جديدة لاستعماله بينما كان الشرق الإشتراكى لا يفقه شيئا عن آلياته.
ومن قطاع البنوك والإقراض برز قطاع آخر ناتج عنه هو قطاع تقييم الأداء الإئتمانى. ووكالات التقييم الدولية التى تضع تقارير دورية عن جميع المؤسسات والشخصيات الإعتبارية فى العالم هى جميعها وكالات أمريكية (ستاندارد آند بور، مودى وفيتش). وقد تطورت الأمور إلى أن أصبح تقرير تصنيف الأداء الإئتمانى ركنا ركينا من مسوغات الحصول على قرض أو إصدار سند سواء كان ذلك لدولة أو لشركة تجارية. وأضحت هذه الوكالات التصنيفية مراكز قوة هائلة حيث أن كلمة منها قد تتسبب فى حرمان دولة بأسرها من قرض لازم.
وقد تبدى سوء غرضها وعدم كفاءتها فى الفضائح المالية التى تميز بها العقد الأخير منذ فضيحة أندرسون وفضيحة إنرون إلى فضائح بنك ليمان الأمريكى الذى كان يحظى بتصنيف ممتاز حتى قبيل إفلاسه بفترة قليلة جدا.
وإلى جانب إحتكار الغرب لأسواق التمويل عن طريق صناعة البنوك فإنه قد إحتكر أيضا أسواق الموارد الأساسية عن طريق بورصات المواد الخام. فالبترول والنحاس والألومنيوم والماس والبلاتين والذهب والفضة والقمح والقطن والسكر والقهوة والشاى والتبغ والمطاط كان سعرهم يتم تحديده عن طريق بورصات لندن وشيكاجو ونيويورك وكانت الدول المنتجة فى العالم الثالث ولا تزال ترتب ميزانيتها من واقع إملاءات هذه البورصات الكبرى الهامة.
وبعد كل تلك القوة الهائلة والسطوة الكاملة التى كان الغرب يتمتع بها خلال الحرب الباردة، فما هو المطلوب أكثر من ذلك؟


Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

Trending Articles