فيما يغرق كثيرون من محلّلي العرب في استعادة الحرب الباردة ومفاهيمها، ويثيرون جدالاً شبه فقهي عن "سايكس بيكو"، عند الحديث عن الحرب على "داعش"، تفوتهم ملاحظة ما يولد تحت الأعين الآن وهنا: إنها حرب أولى في تطبيق مفهوم "الشبكة"على مستوى الردع الاستراتيجي. والحال إن من يغرق في الماضي بلا رجعة، ليس عليه أن يلوم غيره عندما يفوته فهم متغيّرات الزمن.
انتهت الحرب الباردة. يبدو الأمر واضحاً. انتهى زمن تفرّد القطب الأميركي الأحادي. يرى كثيرون الأمر كذلك. ولا جدوى من القول أن اللحظة هي انتقال من مرحلة إلى مرحلة، لأن الأمور هي دوماً انتقال من ذلك النوع.
"الثقب"التركي ليس أسود!
حتى لا نغرق في التنظير "الجاف"، لندقّق في بعض الوقائع، تحديداً لندقق في شبكة التحالف الذي تنسجه أميركا في حربها الجديدة في الشرق الأوسط.
لنبدأ من تركيا. ألا تبدو كأنها نقطة غامضة (ليس تماماً ثقباً أسود)، في التحالف؟ تخرج دولة أطلسيّة أساسيّة وهي الأقرب جغرافيّاً وسياسيّاً إلى منطقة الصراع الإقليمي ومعطياته، لترفض التوقيع على بيان تولت أمره أميركا، وهي القائد الفعلي لحلف الأطلسي. يزيد في غموض الأمر أن تركيا كانت نقطة ارتكاز استراتيجية في حربين لأميركا في الشرق الأوسط: تحرير الكويت وغزو العراق. في ذلك السياق، يبدو الحديث عن رهائن أتراك عند "داعش"في الموصل، أقل كثيراً من أن يبرر ذلك التموضع استراتيجيّاً. استطراداً، هناك قيود كثيرة على الحركة التركيّة، كضعف قوة "الاخوان المسلمين"ظاهريّاً فيه، على الأقل كما ظهر في الأثر الضعيف حتى الآن الذي تركه انتخاب سليم الجبوري على مجمل المعادلة العراقيّة الداخلية (تحّفظ الجبوري أيضاً على الضربات الأميركيّة، ولو بطريقة مواربة).
ليس مجدياً أيضاً إغماض العين عن العلاقات الوثيقة بين "داعش"وتركيا. يذكّر ذلك أيضاً بمقولة أن هناك من يطلق مجنوناً ثم يشرع في المطالبة بأن يأخذ ثمن مستشفى لضبط المجنون المنفلت. بقول أكثر جديّة، هناك في المنطقة من يقول بأن "الإخوان المسلمين"هم إسلام معتدل وبديل للسلفيّات المتطرفة كـ"داعش".
يجدر التذكّر أيضاً أن المسألة الكرديّة لم تعد مؤرّقة للرئيس رجب طيّب أردوغان، بل أن تحرّك "داعش"في حزيران الماضي عزّز علاقات أنقرة مع أكراد العراق بطريقة واضحة، وهو أمر يضاف إلى أخبار متواترة عن صيغ للتسوية مع "حزب العمال الكردستاني"لعبد الله أوجلان. في هذا التشابك، ماذا تريد تركيا كمقابل استراتيجي لمشاركتها (معلنة أو مضمرة) ضد "داعش"؟
على رغم أن موقفاً تركيّاً غامضاً إلى ذلك الحدّ من شأنه أن يكون خرقاً أساسيّاً في شبكة التحالف ضد "داعش"، لم يؤثّر ذلك في العلاقات الأميركيّة- التركية، أقلّه ظاهراً. لماذا؟ ما الذي يدور فعليّاً بين واشنطن وأنقرة؟ أين نضع الموقف التركي من مصر- السيسي؟ هل يمتد الأمر إلى ليبيا؟ هل تحاول أميركا أن تصل إلى تسويّة ما في العلاقة بين السعودية وتركيا؟ المفارقة أن متانة العلاقة بين طهران وأنقرة ربما تعيق تلك التسوية بأكثر مما تفعله متانة العلاقة بين أردوغان و"الاخوان المسلمين"!
خيوط رخوة في الخليج
يفيد الغموض التركي في صوغ تصوّر عن الفارق بين التحالف المرتكز إلى مفهوم الشبكة الاستراتيجية. إذ تتيح الشبكة مرونة لامتصاص التفاوتات بين الدول ونماذجها ومواقفها ومعطياتها، ما يميّزها عن التحالف الاستراتيجي على طريقة الحرب الباردة أو حتى بالشكل الذي ظهر في حروب البلقان مثلاً، في زمن الأحاديّة الأميركيّة المكينة. استطراداً، هل كان ممكناً حتى زمن قريب، تصوّر أن تكون دولة كروسيا منخرطة في حرب أوكرانيا، وتشارك في مؤتمر لتحالف تقوده أميركا في باريس؟ الأمر جدير بتأمل منفصل.
وفي اجتماع جدّة، كانت هناك "نقاط مرنة"اخرى. ليست العلاقات بين الدول الخليجية في أحسن أوقاتها، بل أنها تمرّ في أزمة لم تعان نظيرها منذ تأسيس الاتحاد قبل ما يزيد على عقود ثلاثة. من السهل القول بأن الموقف من "الاخوان المسلمين"هو في قلب تلك الأزمة (مع تذكر تركيا أيضاً)، لكن هل يفسّر ذلك الأزمة بأسرها؟ لا بد من المسارعة للقول بأن هناك مساحة واسعة من التقاطع في مواقف تلك الدول حيال الثورة ضد نظام الأسد في سوريا، لكن هل يكفي ذلك في حرب ضد "داعش"ربما تحوّلت بطريقة أو اخرى إلى حرب ضد السنّة؟
في المقابل، لا تقبل تلك الدول (وكذلك مصر والأزهر) الوصول إلى تبني موقف فقهي من "داعش"، على رغم أن أمراً كذلك يجنّب تحوّل صورة الحرب إلى معركة ضد السنّة والإسلام، بل أنه ربما مثّل مطلباً أميركيّاً أيضاً. لا داعي للحديث عن متانة العلاقة بين أميركا ومجمل تلك الدول، لكن هناك أيضاً "رخاوة"في الخيوط، تتمثّل في انتقال مشهد الطاقة إلى الغاز، والأهم كثيراً هو وصول أميركا إلى الاستقلال عن نفط الشرق الأوسط، وهو تحوّل استراتيجي عالمي. لماذا أصر معظم الإعلام الغربي على ربط "الربيع العربي"بالغاز، خصوصاً غاز المتوسّط؟ ما العلاقة بين مآل "ثورة 25 يناير"و"حقل دلتا النيل"في المتوسط الذي لم تطالب به مصر أبداً؟
من المثير ملاحظة الانخفاض المستمر في سعر النفط والغاز رغم تصاعد الحروب في الشرق الأوسط، وهو أمر لم يكن ممكناً تصوّره لا في الحرب الباردة ولا في الأحاديّة الأميركيّة.
تناغم واشنطن وطهران
في سياق متّصل تماماً، يبدو غياب إيران عن جدّة (وبعدها فرنسا)، أقرب إلى التناغم مع الحركة الأميركيّة، ولننس كلمات الشيطنة من الاتجاهات كافة. ربما يفسّر ذلك "تناقضاً"آخر هو إعلان أميركا أنها تحاور إيران على هامش المباحاثات النووية بشأن "داعش"، لكنها لا تراها طرفاً في التحالف الذي تنسجه أميركا! إذا أخرجت الكلمات من رنينها وطنينها، ماذا يعني ذلك؟ ألا يمكن القول بأنه بين الحوار والتحالف، هنالك "التناغم"؟ ألم تكن أميركا هي التي تكرّر نفي أن يكون الحوار النووي يشمل شيئاً آخر غيره، حتى أثناء الاتفاق المؤقت في أيلول 2013؟
إذا وُضِعَت تلك التناقضات في مسار التفكير في لحظة حرب أميركا على "داعش"، يبدو الحديث عن الحرب الباردة كأنها نكتة...باردة. ومع ذلك، لا يتمالك بعض مفكري العرب نفسه في مطالبة أميركا (بل الغرب)، بأن "تفرض نموذجها"، ما يشير إلى الغرق في ماضي الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية وحروبها.
هناك منهم أيضاً من لا يملّ النقاش عن "سايكس- بيكو"، كأنما يريد أن يعطي فتوى في نصٍ ديني. كانت "سايكس- بيكو"اتفاقية بين قوى خارجيّة مسيطرة على الشرق الأوسط، بشأن الخرائط الجغرافية السياسية للمنطقة. بمعنى ما، ما زال ذلك السياق حاضراً وبقوة. إذا نُظِر إلى "سايكس- بيكو"من حرفيّة الخرائط وممرات الحدود، يصعب القول بأنها مستمرة كما هي، على رغم أن معظمها ما زال متماسكاً.
بقول آخر، لا جدوى من نقاش حرب "داعش"انطلاقاً من "سايكس- بيكو"لأن الأهم هو التغيّر الذي حصل في علاقات القوى الخارجية المسيطرة على الشرق الأوسط. إذاً، لماذا الحديث عن "سايكس- بيكو"؟ ربما لأن سياق الحوادث يعطي انطباعاً بأن المنطقة تعيش زلزالاً هائلاً، ربما ليس أقل من انهيار الامبراطورية الاسلامية وخلافتها في زمن "سايكس- بيكو"، ولا التوزّع السياسي- الجغرافي في زمن الحرب الباردة!
وللحديث بقيّة.
المصدر:
http://www.almodon.com/opinion/a7be2cfb-35af-4017-b467-c37452907cc4