تأليف : محمد السويسي
لايمكن فصل مسيرة الإقتصاد التركي عن المسيرة السياسية لتركيا ؛ لأن نجاحه وإزدهاره الذي بدأ نموه مع وصول "حزب العدالة والتنمية " الى الحكم برئاسة رجب طيب أردوغان إثر نجاحه في الإنتخابات النيابية التي جرت في العام 2002 يدعو الى التساؤل والحيرة لدى البعض وكأنه فورة عارضة غير مخطط له .
إذن لنعد قليلاً إلى الوراء لفهم مايجري حالياً ، فتركيا كانت مركزاً للخلافة الإسلامية التي آلت اليها من آخر خليفة عباسي هو "محمد الثالث المتوكل على الله "الذي كان مقيماً في القاهرة برعاية المماليك ، وانتزعها منه السلطان العثماني سليم الأول عند احتلاله لمصر في العام 1517م ، ليصبح كل سلطان عثماني منذ ذلك التاريخ خليفة للمسلمين ويحمل لقب "أمير المؤمنين"و"خليفة رسول رب العالمين". وكان قد سبق لشريف مكة أن سلم السلطان سليم مفاتيح الحرمين الشريفين اعترافاً بخضوع الأراضي المقدسة الإسلامية للعثمانيين ، إلى أن زالت دولتهم نهائياً في 29 تشرين الأول / أكتوبر من العام 1929 مع قيام الجمهورية التركية، التي تعتبر حالياً الوريث الشرعي للدولة العثمانية.
ومن هنا فإن مجىء حزب "الرفاه "الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان الى السلطة في العام 1996 لم يكن صدفة في مواجهة خلفاء أتاتورك من العسكر الذين يدينون بالوفاء لعقيدته ونهجه العلماني المتشدد ، إلا أنهم اضطروا إلى القبول بأربكان في تولي السلطة بناء لضغط أمريكي وفقاً لشروطهم التي لم يحفل أربكان أو حزبه بالتقيد بها لتوسعه في نشر المنهج الإسلامي على كل صعد ، في التعليم والإدارة والشرطة ، بما اعتبره العسكر خرقاً للإتفاق مع امريكا لمحاولة اربكان اجتثات فكر أتاتورك ونهجه الذي يتمسكون به . ومن هنا وقع الصدام الذي أدى الى حل حزب الرفاه في العام 1997 ، ليخلفه أردوغان بعد سنوات عدة باصرار من الأمريكان والبريطانيين على التوجه الإسلامي لتركيا .
ولابد أن نتساءل هنا عن الهدف من إصرار الأمريكان على استلام حزب إسلامي للسلطة في تركيا العلمانية ، وماهي مشكلتها مع العسكر ؟!
هذا السؤال دائما مايتردد وهو جدير بالطرح إلا أن أجوبته متعددة ومعقدة سأقتصر على الأهم منها وأترك الباقي لتحليل القارىء وخياله بعد قراءة المقال .
أعود الى السلطنة العثمانية في بداياتها التي تمددت في معظم انحاء اوروبا فتركت بعد زوالها جاليات تركية كبيرة في معظم المدن الأوروبية والقرى تنشط في كل القطاعات بعد أن أصبحت جزءاً من هذه البلدان وقد حملت جنسياتها إلا أنها احتفظت بحنينها لأصولها التركية بعاداتها فيما بينها إجتماعياً وعائلياً مع تمسكها بعقيدتها الدينية بمظهر علماني متسامح .
هذه الوجود التركي الراسخ في العمق الأوروبي في ممارساته التجارية أنجب قطاعات تجارية وصناعية مهمة متماسكة فيما بينها في جميع بلاد الغرب ، من أوروبا حتى أمريكا من خلال مجموعة رجال أعمال أرستقراطيين عرفوا بحركة "خدمة "الممثلة بالداعية فتح الله غولن . وهي حركة اسلامية في ممارساتها فيما بينها ولكن منفتحة على كل الأديان بحيث تجد عند المدخل في مراكزها الرئيسية نسخ من القرأن والإنجيل والتوراة كرسالة يرسلونها للمجتمع الغربي عن تسامحهم الديني وعدم تعصبهم ، وللتأكيد ايضاً على اعتراف الإسلام بالديانتين المسيحية واليهودية بما يتيح لهم التحرك بحرية في بلاد الغرب الذي كان يراقب كل تصرفاتهم وممارساتهم التي ارتاح إليها لبعدها عن العمل الدعوي الديني التبشيري والسياسي . وبذلك استطاعت هذه الحركة تشكيل مايمكن تسميته بلوبي إقتصادي متعاون ، إن صح تسميته ، مندمج في المجتمع الأوروبي ، والأمريكي بخاصة في علاقات تجارية وإمكانيات مادية هائلة تدعو إلى الإعجاب والتقدير .
هذه الإمكانيات الإقتصادية المالية والعلاقات مع الغرب وظفها "غولن "وأنصاره في خدمة الشعب التركي بما يشبه التسلل في بداية سبعينات القرن الماضي ومن ثم التغلغل معتمداً على علاقاته الجيدة مع أمريكا في مواجهة تسلط العسكر الذين كانوا ليعارضون مخططه في إنشاء مدارس عدة تدرس المواد العلمية وفق برنامج وزارة التربية التركية إلا انه ادخل في مناهجها تعليم القرأن ومبادئه فيما عرف ب"إتحاد المدراس الخاصة " . و بذلك استطاع من خلال هذه المدراس ان يتسلل إلى جميع الإدارات الرسمية وقوى الأمن والجيش دون أي إنتساب حزبي سوى الإعتراف بفضل هذا الإتحاد عليهم بتأمين تعليمهم وتقديم خدمات إجتماعية متعددة لهم ، وكان كل هذا الإنفاق يقع من مدخول الزكاة الذي يأتيه من أتراك الغرب وبعض التبرعات من بعض رجال الأعمال الأتراك في اوروبا ، إلى جانب مساهمات المنتسبين لحركته ، ومن ثم من أتراك الداخل دون اي طموح منه أو من حركته في الوصول الى السلطة ، إذ أن هذا يتنافى مع توجهاتهم التي تقوم على اسس ثلاث : محاربة الجهل بالتعليم ومنح فرص العمل بمد يد المساعدة لمواجهة الفقر كما تشجيع الحوار داخل المجتمع تلافياً للصراع في داخله ليكون صورة مشرقة تجاه الغرب . إذ كان غولن يخطط لاندماج تركيا في المجتمع الغربي ومن ثم للإنضواء في الإتحاد الأوروبي وبالتالي لمنطقة اليورو .
قبل أن اخوض في اتصال الأمريكان بفتح الله غولن لاستلام السلطة باقتراح من بريطانيا في العام 1995 ،لابد أن اشير الى أن الروس كانوا قد احتلوا أفغانستان في 7تموز/ يوليو 1979 بعد استعدادات محمومة لم ينفع معها كل محاولات أمريكا المسبقة لمنع ذلك ، فلجأت الى خيار خلع الشاه واستبداله بنظام إسلامي في إيران لمواجهة الإحتلال الروسي لأفغانستان مستغلة تحرك المعارضة ضده لتتبناه ولتجتمع مع الإمام الخميني في باريس الذي وافق على استلام السلطة وفق شروط أمريكية لم يطبقها ولم يرفضها وفق سياسة مراوغة حيرّت الغرب إلا أن أمريكا لم تقطع التواصل مع نظامه الذي كان يُحضًر لمهمات خطيرة أهمها التكفل بتمويل الحركات والأحزاب والجميعات والأندية من علمانية ويسارية وثقافية واجتماعية في البلدان العربية ، خاصة الدينية منها ، التي كانت تمول من المخابرات الغربية ، إلا أن الحمل المالي أضحى ثقيلاً عليها مع تزايد أعدادها ، لذا سعت بريطانيا لدى امريكا للإتيان بنظام الملالي الإيراني الذي تعهد بتمويل كل هذه الحركات إن وصل الى السلطة بديلاً عن الشاه .
وبالفعل تقيد النظام الإيراني بهذا التعهد في تمويل الأحزاب والحركات العربية ، إلا أنه سعى لتجنيدهم لصالحه وليس لصالح الغرب ، إلا أن أمريكا تجاهلت ذلك إذ انها في النهاية هي المستفيدة الوحيدة ، لأن إيران الضعيفة ، إقتصادياً وصناعياً وعسكرياً ، تنشط في النهاية في حضنها لاستطاعتها إزالة نظامها متى شاءت إن انتفت الحاجة اليه .
كان الشاه قبل زوال نظامه قد أمد أواصر الصداقة مع الروس بحيث كان غير مستعد لتحريك الشيعة الأفغان ضدهم ؛ وكذلك كان العسكر الأتراك في غزل مع الروس ايضاً بحيث يرفضون إثارة أي مشاكل ضدهم في أفغانستان ،مما أثار غضب الأمريكان لذا اتجهوا نحو عبدالله غولن الذي يربطه بهم علاقات وثيقة من خلال حركته التي تدعو للسلام ويمتد نشاطها لأكثر من 160 بلداً في العالم لتولي السلطة في تركيا .
رحب غولن بهذا الإتصال ولكنه اقترح أن يولي أمر الحكم الى زعيم حزب "الرفاه"نجم الدين أربكان بضمانته ، إذ لاقبل لحركته بتولي السلطة لأنها ليست حزباً ، كما أنه يخاف عليها من استعداء معارضين ضدها وزوالها بما يتعارض ورسالته الإجتماعية السلمية العالمية ، إلا أنه ابدى تخوفه من غضب العسكر في حال عدم موافقتهم على حكومة إسلامية ، ولكن الأمريكان ضمنوا عدم تحرك العسكر مقابل إسلام سلمي كالذي يمارسه غولن في بلاد الغرب وداخل تركيا .
تولى نجم الدين أربكان السلطة في تركيا من العام 1996 إلا أنه اضطر إلى الإستقالة في صيف 1997تحت ضغط العسكر الذين اتهموه بمحاولة أسلمة المجتمع التركي رغم كل تنازلاته بالتوقيع على قرارات الطرد على عدد من الضباط المسلمين الذين ضبطوا يزاولون الصلاة سراً في مكاتبهم أوالذهاب الى المساجد للصلاة برفقة أربكان ؟!
ومن ثم اصدرت المحكمة الدستورية قراراً بمنع أربكان من ممارسة العمل السياسي وحل حزبه دون التشاور المسبق مع الأمريكان الذين اغضبهم هذا التصرف ، لذا سعوا الى إعادة ترميم الأمور بالضغط على العسكر مجدداً لإعادة الحكم الإسلامي الى تركيا ، إلا أن العسكر أصروا على إبعاد اربكان و حزبه من تولي السلطة نهائياً ،حفاظاً على هيبة المؤسسة العسكرية وعقيدتها ، فتم اقتراح وسط من البريطانيين بتأليف حزب جديد يضم منتسبي حزب الرفاه ، فكان حزب "العدالة والتنمية"بزعامة رجب طيب أدروغان أحد أهم تلاميذ أربكان كحل بديل .
قبل اردوغان كرئيس للحكومة أن يتولي السلطة في العام 2006 بصلاحيات حكومية واسعة بعد لقاءات عدة سبقت مع غولن ، تم الإتفاق فيها على البناء الإقتصادي بدعم سياسي إقتصادي من أمريكا وأوروبا ومجموعة حركة "خدمة "، وهم من كبار الرأسماليين الأتراك في أوروبا وأمريكا حيث يشاركون في قطاعات اقتصادية عدة كالمطاعم والفنادق والإعلام والمجوهرات والبورصة بشراكة مع رأسماليين غربيين الذين تعهدوا بتصريف فائض البضائع التركية بأكملها في بلاد الغرب وفق المواصفات الأوروبية .
إثر ذلك شهدت تركيا بداية نشاط صناعي وإقتصادي كبير على مختلف الأصعدة بعد رفع قيمة عملتها التي قاربت قيمة النقد الأمريكي ، بعد أن كانت في أسفل الحضيض ، لتسهيل تبادل النقد وعمليات التصدير والإستيراد . فتحسنت الأجور بشكل عال بحيث أضحى المواطن التركي قادراً على شراء مايحتاجه من بضائع غربية مع توفر السيولة المالية بين يديه ليتجدد المجتمع التركي بالإنتقال من مظاهر التخلف والفقر الى الحداثة والتجدد بما أذهل المراقبين .
وهنا يطرح السؤال ، لما سعت أمريكا وأوروبا بنهوض تركيا الإسلامية من خلال قوى إسلامية محلية بعد تمزيق إمبراطوريتها وعلمنتها وعسكرتها إثر الحرب العالمية الأولى ؟
ونجيب بأن النهوض بتركيا ورفع الحظر عن ممارسة الدين الإسلامي فيها بشكل علني يعود الفضل فيه للداعية فتح الله غولن ، ليس لاعتداله ودعوته السلمية فحسب ، بل لأن نشاطه الإقتصادي بدأ يشكل تنافساً مستقبلياً للمصالح الرأسمالية في الغرب وهيمنتها من خلال أتباعه من الإرستقراطية الإقتصادية التركية الثرية ، خاصة وأنهم أوروبيون وأمريكيون بالولادة .
لذا فضل أباطرة المال من يهود بريطانيا وول ستريت وآل روتشيلد الفرنسيين بخطتهم تلك توجيه استثمارات مجموعة غولن من أوروبا إلى تركيا للنهوض باقتصادها بشراكة مالية منهم ومساعدات تقنية صناعية وبالدعم المالي إن احتاج الأمر ، إلا ان القوة المالية لهذه المجموعة التركية الأوروبية التي تعمل في الظل ، تجعلها في استغناء عن أي مساعدة ، إلا بتصريف السلع التركية المنتجة لديهم بمواصفات غربية .
ولكن الهدف الأساسي الغربي الغير معلن لهذا الدعم والتحفيز ، هو إعطاء الثقة بالإقتصاد التركي عربياً ودولياً لحرف الإستثمار المالي الخليجي والسعودي من اوروبا وأمريكا وجذبه نحو تركيا ، للحد من الهجرة العربية الإسلامية نحو اوروبا التي ستؤدي في النهاية الى سيادة المؤسسات المالية والمصارف العربية والتوسع في الهجرة بما يشكل خطراً حقيقياً على المصالح اليهودية في بلاد الغرب ، لأن الإستثمارات والمدخرات والتحويلات العربية بمئات المليارات من الدولارات إن لم يكن بالآلآف ستتم من خلال هذه المؤسسات والمصارف مما قد يعني ولادة لوبي عربي يفرض إرادته على القرارات السياسية الغربية ، بما قد يعني فك تحالفه مع إسرائيل مستقبلاً وبالتالي زوالها بعد تقليص النفوذ المالي اليهودي أو تحجيمه .
من هنا لجأت وول ستريت الى استباق الأمور بالتفاوض مع قادة طهران - بعد تعكر علاقتهم مع أمريكا إثر نكثهم بالوعود التي أعطوها للغرب في التعاون معه وتنفيذ مخططاته مقابل استلامها السلطة بديلاً عن الشاه لاطمئنانهم الى عدم وجود خطر عليهم من قيام انقلاب عسكري ضدهم إذ أنهم حلوا الجيش الإيراني عقب رحيل الشاه وإعدموا قادته من كبار الضباط وسرحوا الباقين من ضباط وجنود لصالح إنشاء مليشيات متعددة بديلاً له ، أهمها الحرس الثوري لحماية نظامهم - من خلال وسطاء عراقيين وإيرانيين من جنسيات أمريكية بإشراف البيت الأبيض ، طلب فيه الأمريكان من الإيرانيين تدعيم علاقاتهم السياسية والتجارية مع تركيا مقابل ان يطلقوا يدهم في البلدان العربية لنشر الفوضى والإضطراب بما يلهي العرب ويثنيهم عن الإستثمار والتوسع به في البلدان الغربية لينفقوا أموالهم في التسلح للدفاع عن أنفسهم واستنزافهم في محاربة الإرهاب من خلال تنظيم القاعدة الذي اصبح مشكلة لامريكا بعد أن تخلت عنه إثر إنسحاب الروس من افغانستان في العام 1989 ، أي بعد عشر سنوات من الإحتلال ، إلا أن طهران سرعان ماأبدت عجزها عن تنفيذ هذا المخطط ضد الدول العربية مشترطة احتلال العراق بتحالف مع أمريكا لتنطلق منه نحو الخليج والعالم العربي لاسقاط انظمتها وتفتيت دولها بما يحقق رغبة الإقطاع المالي الأمريكي .
بعد مباحثات ، تمت الموافقة على شن حرب برئاسة أمريكا إثر تفجير برجي نيويورك ليتم غزو افغانستان والعراق ، كان بنتيجته تدمير العراق وإمكانياته الإقتصادية والصناعية والمالية بشكل مريع ، وتشريد ابنائه وتهجيرهم وهدم مدنهم وقراهم ونهب ممتلكاتهم وتقطيع أوصال وطنهم بشكل بربربي وحشي كما حال القرون الوسطى دون اي مبرر ، سوى لخطة مبيتة تعيقه عن النهوض والتمدد الإستثماري خارج البلاد لعقود عدة مع دوام التدخل الإيراني في شأنه وإثارة المشاكل في وجهه بدعم ومساندة أمريكية وبريطانية .
كان لتركيا مصلحة كبرى فيما جرى ، إذ تضاعفت وتصاعدت أرقام المستوردات العراقية من عندها خاصة الزراعية مع تراجع الإنتاج الزراعي في العراق ، كما تراجع الزراعة والصناعة في إيران لصالح الإستيراد من تركيا لانشغال طهران في الإنفاق على تصدير الثورة ، لذا كانت العلاقات بين إنقرة وطهران ممتازة لاتحتاج الى اي توسط من أمريكا او لندن لتدعيمها .
ولكن سرعان ماتم التباين في وجهات النظر بينهما بشأن تردي الوضع في سوريا ، إذ أن تركيا ترفض الهيمنة الإيرانية عليها ، إذ يجب ان تكتفي بالعراق لتكون سوريا من حصتها ، خاصة وأن شمال سوريا حتى حلب يعتبر المتنفس التجاري لتركيا . فتم الإتفاق بعد توسط بريطانيا على إرجاء الخلاف و نقل المصانع السورية لمختلف أنواع السلع من حلب الى داخل تركيا وإعادة تشغيلها من هناك من خلال اصحابها إن شاؤوا أو بيعها للأتراك ، وقد بيع معظمها بأبخس الأثمان .
رغم التسعير المذهبي وسياسة التبشير الذي تقودها إيران بروح استعمارية مغامرة رغم ضعفها الإقتصادي والعسكري ، فإن علاقتها مع النظام التركي السني قائمة على التعاون على أحسن مايرام بدفع وتشجيع من أمريكا ، زادت حرارتها مع وصول أوباما الى البيت الأبيض في العام 2008 ، الذي يراهن على طهران كحصان طروادة في تنفيذ المخططات الأمريكية في المنطقة العربية ، التي هي في النهاية توجهات وول ستريت ، لتطويق المملكة العربية السعودية والخليج بالتنظيمات والدول الشعوبية تمهيداً لإسقاطها ، مما يعني رفع الكابوس عن صدر اليهود في وقف التغلغل العربي للتوظيف في الصناعات والمؤسسات المالية الغربية والإقتصادية ، إن في اوروبا أو أمريكا أو الصين ، مقابل ان يعترف الغرب بإيران دولة عظمى بترافق مع السماح لها بالتمدد المذهبي .
إذ أن طهران تتبع خطى المرحلة التبشرية الغربية في افريقيا وبعض العالم ، خلال المرحلة الإستعمارية التي جعلت من شعوب هذه الدول ادوات لها مع دخولها في المسيحية . و رغم عدم دقة هذا التحليل الذي يستعمله معظم الكتاب في العالم ، فإن إيران تعتبر ان نشر التشيع في العالم العربي يسهل لها امر الهمينة عليه سياسياً واقتصادياً . ولكن إن تمعنا في الأمر فإنه لايؤيدها من الشيعة العرب إلا الذين يتلقون المال منها كما حال تأييد بعض المسيحيين و المسلمين السنة لها أو مهادنتها من أحزاب ودول وجماعات وقادة ، وأولهم تركيا المستفيد الأكبر من إيران وفق مصالح مشتركة .
لذا فإن حالات التشيع الحاصل في بعض الدول العربية ،على ندرتها ، هو تشيع للمال والمصلحة الشخصية وليس للمذهب الإيراني أو إيماناً او حباً به ، مع ضعف الوازع الديني وغلبة النفاق في المجتمع العربي .
وهكذا فإن إزدهار الإقتصاد التركي كان نتيجة معطيات دولية معقدة ، حيث أن الفضل يعود فيه لفتح الله غولن وجماعته لإعطاء النشاط التركي مظهراً اوروبياً لجذب الرساميل العربية وحصرها في تركيا بالشراكة معها لتفعيل الإستثمار في الخليج ومصر والسودان ، تعويقاً له وإلهاء عن الإنطلاق نحو الغرب .
إلا أن سؤ تصرف الإيرانيين حين وصل "الإخوان المسلمين "للسلطة في مصر وتسرعهم بما تناقلته الصحف العالمية في سعيهم لتشييع الشعب المصري وتشجيع النظام على حل الجيش المصري والإكتفاء بحرس ثوري على النمط الإيراني أخاف المجتمع المصري والجيش ، خاصة عندما أكد هذه المخاوف أحد أعضاء مجلس الشعب المصري في إحدى خطاباته في البرلمان بالقول انه لاحاجة للجيش المصري الذي هو سبب بلاء مصر ؟! ليطاح عقب ذلك بالمخطط الأمريكي مع الإنقلاب العسكري المصري المفاجىء ضد الرئيس مرسي والإطاحة به ، ليعقبه تحالف غير متوقع بين مصر والمملكة العربية السعودية ، كانت نتيجته تمويل تسليح الجيش المصري بما ادى الى تعديل الخطط الأمريكية برمتها في الشرق الأوسط لتعود أمريكا الى العراق وسوريا بتدخل عسكري دولي ضم دول الخليج ، في خطط جديدة لإنهاء الفوضى فيهما بمساعدة تركيا دون إيران التي اضحت مرفوضة في العالم العربي وبالتالي مثار إنتقاد من أمريكا والغرب وعدم الثقة بها ، عدا عن إنزعاجهم منها إثر توثيق العلاقات والتعاون بينها وبين روسيا في شأن الأزمة السورية الموكولة أصلاً لتركيا وليس لإيران ، إذ أن الأمريكان عندهم حساسية مفرطة من تمتين العلاقة مع الروس من اي دولة في العالم .
وهدف امريكا من هذا التدخل الجوي الحربي مؤخراً ضد قواعد التنظيمات التكفيرية في كل من سوريا والعراق ، إنما هو للسعي الى استقرار المنطقة التي اتعبتها الممارسات الإيرانية الفوضوية دون طائل التي أضرت بسمعة أمريكا كحليف لإيران في العراق، إذ كان القصد الأمريكي من تولية شأن العراق لإيران هو لجعله قاعدة إنطلاق للهمينة على العالم العربي وإسقاط الأنظمة السعودية والخليجية من الداخل ، وفق تحليلات الصحافة الأمريكية ، وليس شن حرب شعوبية مذهبية اشبه بالإبادة ضد العرب ، مما أحرج واشنطن لدعمها ممارسات النظام الإيراني في المنطقة .
لذا فإن المرحلة الجديدة في البناء الإقتصادي في المنطقة ستبدأ بعد استعادة الأمن والإستقرار في سوريا والعراق بإطلاق مشاريع البناء الضخمة بمئات المليارات من الدولارات بشراكة أمريكية تركية ، لتوفير السيولة المالية والقدرة الشرائية بين أيدي الناس حرصاً على تصريف البضائع الإستهلاكية الصينية – الأمريكية تحسباً لكسادها الذي بدأ يلوح بالأفق مع تنامي الفقر والبطالة في العالم .
لذا فأن أمريكا اشد تمسكاً بالشراكة مع تركيا اليوم أكثر من الأمس لأنها فقدت الأمل نهائياً من إيران التي هيمنت على العراق بدعم أمريكي إثر احتلاله لتمكينها من التغلغل في العالم العربي والشراكة معه لحصر الإسثمارات فيه بديلاً عن اوروبا ، إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن والسودان ، إذ غلب على سياساتها التعصب المذهبي على حساب مصلحتها ومصلحة شعبها ، كما تسببت بضياع مصر التي كانت تركيا بصدد الإستثمار فيها بشكل قوي واحتوائها إقتصادياً .
أمام هذا الفشل والعجز الإيراني ، أعتمدت أمريكا تركيا بديلا عن إيران لتنفيذ نفس المخطط المالي والإقتصادي الذي كانت قد اوكلته لها للتغلغل في العالم العربي وفي البلدان الإسلامية المجاورة لروسيا التي لإيران نفوذ فيها .
وانطلاقا من هذه المعطيات والتطورات لذا فإن حزب اردوغان سرّع في نشاطه الصناعي والتجاري الداخلي لحصر هذه الإستثمارات والشراكة مع الغرب به بديلاً عن مجموعة غولن اي عن حركة "خدمة "، وبدأ يتجه لنزع قبضة غولن عن المدارس والإدارات والقضاء والشرطة والجيش بإنشاء المدراس الدينية ومدارس تعليم القرآن لتحل محل مدراس غولن ، بترافق مع مواجهة إعلامية عنيفة لحزب أردوغان ضد إعلام صحيفة "زمان "، أقوى صحيفة في تركيا موالية لغولن كما مواجهة صحيفة "بوغون "المتعاطفة مع حركة غولن بدعم من بعض رجال الأعمال الأتراك المحليين ، وبالتالي مواجهة الإعلام المرئي للمجموعة التلفزيونية "سمانيولو"التي تدار من قبل مجموعة غولن وتمتلك الكثير من القنوات المتخصصة من اخبار وثقافة واقتصاد وبرامج اطفال وغيرها .
والرئيس أردوغان يقود المعركة شخصياً ضد غولن في محاولة لتحجيم نشاطه واقتلاع نفوذه من تركيا إذا أمكن ، لإثبات جدارته امام الغرب وشعبه كرجل تركيا القوي بديلاً عن أتاتورك ، ليكون أبا الأتراك الفعلي الجديد في قلوبهم من أجل شراكة قوية مع أمريكا خارج نطاق شراكة فتح الله غولن بحيث يحل محله في علاقاته مع الغرب وشراكته .