..
في سيراليون اضرب الحانوتية للمطالبة برفع الأجور. خبر شبه عادي.
لكن عندما نعلم أن تلك المنطقة هي من أشد المناطق تأثرا بوباء الايبولا، لا يصبح الأمر عاديا.
فترك جثث المرضي بلا دفن يضاعف من انتشار الوباء عدة مرات.
وشيء شبيه بذلك كان يحدث في القرون الوسطى في أوروبا عندما أصابها بلاء الطاعون في القرن الرابع عشر، إذ أن الخوف من ملامسة جثث المرضي عند دفنهم جعل المغامرين وشذاذ الآفاق يعملون بهذه المهنة ويطلبون اجورا عالية جدا لأن الحانوتية يخشون العمل. وهو سبب أقل دناءة من سبب سيراليون، أو لعل حانوتية سيراليون يدارون خوفهم وراء حجة الإضراب.
علي كل الأحوال، أرجو مقارنة هذا التصرف بتصرف الأمريكيين مثلا أثناء زلزال سان فرانسيسكو أو الألمان أثناء الحرب عقب الغارات الجوية المكثفة.. أو اليابانيين عقب ضرب ناجازاكي وهيروشيما..
للموضوع خلفية قانونية لابد من تناولها..
الأصل فى الأمور هو أن العمل حرية وليس فيه إكراه. والأصل فى الأمور أيضا أن حق الإضراب مكفول للعمال دون تخريب ودون تدمير ممتلكات الغير.
ولكن للدولة حقوق إستثنائية بمقتضي أحوال الطوارئ تبطل هذه الأصول الفانونية وتتعدي عليها كما رأينا فى سان فرانسيسكو.
http://blog.marefa.org/node/870
فقد كان بمقتضى التفويض الصادر لعمدتها شميتس ولكونه منتخبا من قبل الشعب، كان له أن يصدر أمرا إداريا يعلن فيه عن أن كل من يضبط بالسرقة أو النهب أو محاولة السرقة أو النهب سوف يطلق عليه الرصاص فورا بدون إنتظار لتحقيق محاكمة وشهود وتثبت من التهمة. وبالفعل تم قتل ما يقرب من 500 شخص بهذه الطريقة بل ولم يتحقق أحد ولا جهة من شخصياتهم، فقد أحرقت جثثهم بعد مراكمتها على هيئة كوم كبير أشعلت فيه النيران ولم يسأل أحد عنهم بعد ذلك أبدا.
كما أن الدولة قامت بإجبار القادرين من الذكور على العمل فى مجال الإنقاذ والإخلاء والإطفاء وإزالة الركام إلخ.. وكان الخيار بين العمل أو الموت برصاص الجيش الذى دخل المدينة لكي ينقذ الموقف.
وكذلك قام الجيش بدون أي رجوع إلى سلطة إدارية أو تشريعية بتفجير عدد كبير من المنازل بالديناميت لكي يقطع على النيران مسيرتها المنتقلة من منزل لمنزل. وفي ذلك ما فيه من تعدي على حق الملكية لأصحاب هذه العقارات.
فى عام 1962 وقع إعصار كبير فى شمال المحيط الأطلنطي فى أعالي البحار نتج عنه فيضان هائل من مياه البحر كسر الحاجز الذى يقي مدينة هامبورج بحيث أن المياه قد زحفت وهدمت كثيرا من المنازل بالليل والناس نائمون وكان ذلك فى الشتاء.
وكان وزير الداخلية فى حكومة هامبورج فى ذلك الوقت سياسيا لامعا واعدا متحدثا لبقا فى البرلمان خبيرا فى شئون الدفاع يدعي هلموت شميدت.
والجيش الألماني هو مؤسسة إتحادية ليس لحكومات الولايات الألمانية أن تتعامل معها إلا من خلال الحكومة الإتحادية..
كان السيد هلموت شميدت بحكم كونه ضابطا سابقا، كمعظم أبناء جيله، قد اتجه منذ البداية الي دراسة شئون التسليح والدفاع والستراتيجيات فكان عضوا هاما في لجنة القوات المسلحة والدفاع والتسليح في البرلمان فكان مطلعا علي أنواع الأسلحة وقدراتها إلخ..، كما أن خبرته السابقة كضابط سابق كانت حية وحاضرة.
وبدراسة الموقف المتدهور في هامبورج عرف أن إخلاء الجزء الغربي من المدينة هو أمر حتمي حتي لا يرتفع عدد ضحايا الغرق والتدافع والبرد الي أرقام عالية.
وقد فكر بسرعة ورأي أن أفضل وسيلة إخلاء هي الطائرات الهليكوبتر التي لم يكن يحوز عليها سوي سلاح الطيران.
ولكن لم يكن الوزير المحلي لولاية هامبورج يملك سلطة تحريك أي وحدات من الجيش ناهيك عن حظر استعمال الجيش في حفظ الأمن الداخلي حظرا دستوريا، والاعصار المركزي يتقدم بسرعة في اتجاه المدينة حيث ماكان قد وصل إليها هو مجرد المقدمة. وكانت الساعة تقارب منتصف الليل. فماذا يفعل؟
كانت أول عقبة تقف فى طريق هلموت شميدت هي كونه ليس رئيس حكومة ولاية هامبورج بل هو وزير داخليتها فقط. ومن حسن حظه وحظ البلاد أن رئيس الحكومة كان رجلا من نفس الحزب بحيث لم يكن هناك نزاع حزبي بينهما، ولكنه كان رلائيسا للحكومة ينبغي مشاورته قبل اي تحرك. وقد حاول أن يسأل شميدت عما يفعله من حركات سريعة فى تلك الليلة فرد عليه شميدت بحزم قائلا له ما معناه إطلع أنت منها فهذه الأمور أنا أدري منك بها. ومن حسن الحظ أيضا أن رئيس حكومة ولاية هامبورج لم يكن من النوع العنيد الذى يتمسك بكل شىء لمجرد إثبات وجوده فأخلي الطريق بالفعل لشميدت لكي يتصرف.
وأصبح شميدت منذ تلك اللحظة مسئولا أمام الناس عن إدارة الأزمة.
إتصل فورا بالوحدات البريطانية المرابطة فى مدينة هامبورج وما حولها وطلب منهم بطريقة حازمة ولكن مؤدبة التدخل بصفة إنسانية لإنقاذ أهالي هامبورج وجاءت الموافقة سريعة من القيادة البريطانية حيث أن مدينة هامبورج وما حولها كانت تقع فى نطاق القطاع البريطاني من قطاعات الإحتلال التابعة للحلفاء الثلاثة.
ثم جاءت بعد ذلك الخطوة الأكثر جدية فى الموضوع .
كانت الخطوة الأكثر جدية فى الموضوع هي التصرف السريع لاستعمال طائرات الجيش الألماني فى عمليات الإنقاذ الليلي بينما الإتصالات مقطوعة بسبب السيل ولا يمكن الوصول إلى الحكومة الفيدرالية فى بون، بل يقال أن شميدت لم ينتظر حتي أن يحاول الإتصال بالحكومة الفيدرالية، إنما إستعمل معرفته بكثير من الضباط فى أن يكلفهم بالأمر المباشر وعلى مسئوليته الشخصية أن يخرجوا طائرات الهليكوبتر من الهناجر ويصدروا إليها الأوامر لكي تشرع فى الإنقاذ، كل ذلك والحكومة الفيدرالية برئاسة المستشار آديناور فى واد آخر. وبالطبع فإن الحظر الدستوري على إستعمال الجيش فى أعمال حفظ الأمن كان عقبة ليست سهلة. (فيما بعد برر شميدت ذلك بأن ذلك لم يكن حفظ أمن) كما أن تحرك قوات الجيش الألماني بالذات كانت مقيدة بسبب وضع البلاد تحت الهيمنة العسكرية المتحالفة، وقد حصل مقدما على تصريح من المنطقة العسكرية البريطانية التي كانت لها خطوط تليفون مستقلة عن الشبكة العمومية. وبالطبع فإن ضباط القوات المسلحة لم ينتظروا بل اصدروا الأوامر وتدفقت الطائرات وتمت عملية الإنقاذ بنجاح ولم تسفر الكارثة إلا عن موت حوالي 300 شخص فقط، بينما كانت الخسائر المتوقعة فى حالة عدم مشاركة القوات الجوية تقدر بالآلاف.
وفيما بعد قال شميدت أنه عندما فعل ذلك كان يعرف أنه يتعدي علي سلطات غيره سواء كان رئيس حكومة هامبورج أو وزير الدفاع أو المستشار ولكن للضرورة أحكام وقال كلمته الشهيرة "لم أنظر لا للدستور ولا للقانون، ولكني نظرت إلى الكارثة".
وهذه هي دول ديموقراطية حديثة لا شك فى دستوريتها ولا قانونيتها ولا ديموقراطيتها ولا عدالة قوانينها ولكنها عند الطوارئ بدّت مصلحة الناس على هذه النصوص التي توضع عادة موضع الإحترام بل والتقديس إنما فى الأحوال العادية..
نعود الآن إلى قصة سيراليون وإضراب الحانوتية
الحانوتية هم أصحاب مهنة مثل كل المهن الأخري والتي يحق لها الإضراب بالطبع. ولكن نظرية أحوال الضرورة تقف عائقا قويا فى وجه ممارسة هذا الحق، إذ أن الإضراب عن دفن الأموات من شأنه أن يتسبب فى كارثة هائلة الحجم ليس فقط فى هذه المنطقة ولكن فى القطر بأسره وقد تكون بؤرة لنشر الطاعون عن طريق الجرذان إضافة إلي إنتشار الإيبولا نفسها. وهذا الأمر قد يهدد سلامة إستقلال البلاد ذاته حيث أن الجيران من الدول الأخرى لهم مصلحة أكيدة فى دفع هذا الخطر وهي مصلحة مشروعة وجديرة بالحماية. وقد قررت أمريكا بالفعل إرسال قوات عسكرية لكي تتولي الأمور التي فشلت فيها حكومات تلك الدول. ولكن القرار الأمريكي هو قرار صحيح حيث أن الأمن الصحي للعالم لا يمكن تركه لدولة ضعيفة السيطرة على مواطنيها. ولا يمكن التذرع بالسيادة حيث أن تلك السيادة قد ثبت إخفاقها.
وهكذا فإن إضرابا كهذا يجعل من حق الدولة فى إستعمال القوة شأنا لا مناص منه، ولا عليها إن هي لجأت إلي القوة فى إجبار هؤلاء "المضربين"علي أن يقوموا بعملهم دون إبطاء وبلا صوت معارض. وهذا بالضبط ما قامت به قوات الجيش الأمريكي فى سان فرانسيسكو. أما إبتزاز الدولة فى محاولة للحصول علي مكاسب فئوية فى حالة من حالات الضرورة فهو عودة بالأمور إلي ظروف القرون الوسطي كما أسلفت عندما كان المغامرون والافاقون يعرضون خدمات الدفن أثناء إنتشار الطاعون لقاء أجور مبالغ فيها وكانت القري أو الأهالي ترضخ حتي لا يتفشي البلاء.
صحيح أن الدول الحديثة تقوم على الحرية والديموقراطية والإختيار بلا إجبار، لكن كل هذه القيم الطيبة لا محل لها فى أحوال الكوارث والطوارئ والأوبئة وطبعا الحروب، وذلك فى أعتي الديموقراطيات.
بقي أن أقول لكم أنه فى كلتي الحالتين سواء فى سان فرانسيسكو أو فى هامبورج فإنه لم يفتح أي تحقيق مع أي شخص لا بتهمة مخالفة الدستور ولا بتهمة التعدي على إختصاصات الغير ولا بتهم قتل بالرصاص أو هدم منازل (إلا مع بعض العاملين فى الإدارة الهندسية لمدينة سان فرانسيسكو بسبب إكتشاف أعمدة رخامية تم حسابها فى المستخلص قبل الزلزال وهي ليست أعمدة حقيقة وكشفت عنها المعاينة فيما بعد الزلزال ولكن هذا أمر فساد لا علاقة له بالتعدي على الإختصاصات). بل علي العكس فى حالة هلموت شميدت فقد عرف الرجل أكثر على مستوي الحزب وعلي مستوي البلاد كلها وأصبح يلقب بمدير الأزمات حتي أنه بعد 10 سنوات أصبح مستشار ألمانيا فى ظل الأزمتين المتزامنتين، أزمة المستشار فيللي براندت مع الجاسوس الشرقي وأزمة البترول.
أما فى بلد آخر فقد قيل أن القوات البحرية لم تخرج لإنقاذ العبارة الغارقة لأن من يصدر الأوامر نائم ولا يمكن إيقاظه !!
كما أن هجوما عاتيا بأكبر قوة عسكرية فى التاريخ كان من الممكن صده بكفاءة بل وربما منعه لولا نوم الزعيم الذى كان يحتفظ لنفسه بحق تحريك الدبابات مما أضاع على البلاد فرصة الدفاع الفعال.. إنه هجوم النورماندي عام 1944.
وأعتقد أنه لا يختلف إثنان على أن الإجراءات التي إتخذت فى حالتي سان فرانسيسكو وهامبورج تتفق والفهم الأعمق للديموقراطية، إذ أن هذه الإمكانيات المتاحة للجيوش هي من أموال دافعي الضرائب، فلا أقل من أن تساهم بقدر الإمكان فى تخفيف البلاء عن هؤلاء الممولين فى حالات الضرورة، رغم عدم وجود عدو خارجي. وغير ذلك هو كما أسلفت من أحوال القرون الوسطي التي لا ينبغي العودة إليها..فالدولة الديموقراطية الحديثة لها حقوق عليا تسمو على كل شىء آخر فى أحوال الضرورة.
كلمة نهائية
تتراوح التقديرات حول عدد ضحايا الطاعون في أوروبا في منتصف القرن الرابع عشر بين 20 و25 مليون شخص، فقط لاعطائكم صورة عن هول الكارثة التي حلت بكل مناطق القارة عام 1347 واستمرت لمدة 4 سنوات تحصد الأرواح بدون أي معرفة طبية أو حتي شبه طبية متوارثة، بل كان كل ما يفعله الناس هو الدعاء ومحاولة الإسراع بدفن الموتي، ولهذا نشأ بيزنس الدفن عالي التكاليف.
هم دفعوا فعلا ثمنا باهظا لتقدمهم وذلك في مناسبات عديدة جدا..
|