في عصر « داعش» و«القاعدة»، تهتز نظم وشعوب من هول التهديد بمزيد من التفتيت في العالم العربي، مثلما تهتز أفريقيا من عنف «بوكو حرام» في غربها، وحركة شباب المجاهدين في شرقها، ويكاد العنصر الخارجي من تدخلات وأسلحة..الخ يبدو فاعلاً أولياً في الموقف بما يجعل التدويل حلاً دائماً بدوره، لكن الحالة السودانية، تعكس حتى الآن نموذجاً مختلفاً إلى حد ما.
فالعامل الداخلي، ممثلاً في التكوينات والتقسيمات المتراكمة تتفاعل بشكل جديد بين المركز والهامش في السودان، بل وثمة تجاهل ظاهر– في رأي عدد من الباحثين- من المركز تجاه الهوامش جميعاً، وتقليل المشروع المركزي، أو«مثلث العاصمة» من مخاطر التهميش، وقيام هويات خاصة، على مستقبل البلاد.
الباحثون السودانيون لا يكلون من البحث حول ظروف تعرض السودان لكل هذه الانقسامات في العقود الأخيرة، ثم ظروف استمراريتها بهذا الشكل، مع أنه كان نموذجاً لفترات طويلة، لنظرية الوحدة في التنوع.
هكذا يرى الموقف الدكتور عبد الغفار محمد أحمد، وهو واحد ممن صاغوا مثل محمد عمر بشير«بونا ملوال» بل و«فرانسيس دينج»، تعبير التنوع والوحدة، وصولاً إلى حالة الوحدة في التنوع بالسودان.
فلماذا وصل الآن، عبد الغفار محمد أحمد ونخبة من جيله إلى البحث في السودان المقسم أو الانقسام المستدام، وذلك في كتابه الأخير بعنوان: «السودان المنقسم Divided Sudan» من تحريره وزميله النرويجي ج».
سوربو«(بلجراف ماكميلان 2013)، وهو ما اقترح تسميته «السودان وتقسيم المقسم» لأن عنوانه الفرعي «الصراع المستمر في بلد متنازع عليه»، الدكتور عبد الغفار محمد أحمد وزملاؤه، يعرضون في كتاب «السودان المقسم» المادة الوفيرة عن مسيرة السودان الحديث والحوارات والانقسامات والاحتمالات من حوله! لينتهوا في الواقع إلى خلاصة تطرح عدة سيناريوهات أوقعهم هو أكثرهم مرارة !
فالكتاب يقدم مادة سوسيولوجية وسياسية تُعنى بالأوضاع الموروثة، والحديثة لتجعل استخلاص «تقسيم المقسم» حقيقة واقعة تتفق وعنوانه.
مؤلفو الكتاب يرون منذ البداية أن انتهاء الصراع الرئيسي بين الشمال والجنوب، بل وحتى أجواء «الربيع العربي»، لم تؤد إلى نهاية الصراعات، بل استمرت أقوى، بل وتكاد تصبح مستقلة عن مدى العلاقة بدولة جنوب السودان، بما نراه في قضية «آبيي» و«دارفور»، «وجنوب كردفان»، و«النيل الأزرق»، إذ يتعدد الصدام مجدداً مع «الحركة الشعبية» بشمال السودان – وتتعقد مشكلة البترول، وتتعدد الاتفاقات السياسية مع حركة أو أخرى في الأطراف دون إنجازها، ويقع الانقسام الداخلي في كافة الحركات السياسية والإسلامية، بين تقليديين وإصلاحيين.
ويظل جوهر المشكلة على ما يبدو عند أكثر من مساهم في الكتاب (عبد الوهاب الأفندي، محمد صالح، عطا البطحاني)، هو موقف الحكم الثابت وفق ما جاء في تصريح الرئيس السوداني بالقضارف -19 ديسمبر 2010، أنه إذا انفصل الجنوب لن يكون هناك حديث عن التنوع الثقافي أو العرقي، بل ستكون الشريعة والإسلام أساس الدستور كدين رسمي، والعربية لغة رسمية !
يرصد الكتاب هذا التحدي الدائم عند «الجبهة الإسلامية»، في معظم فصول الكتاب لأن ذلك ما يفسد أي اتفاق منذ اعتبرت الجبهة هويتها، هي المعبرة الفعلية عن مركزية النخبة الحاكمة في الخرطوم، والمستفيدة مما لم تكن المنشئة، لكل انقسامات المناطق المهمشة حتى لو اضطر الحكم إلى تشجيع انقسامات «الفولبي» أو«الفلاتة»، أمام عناصر عربية في شرق السودان أو «دارفور الشرقية». والكتاب يعالج مشاكل القبلية و«تسييس العرقية «Ethnocracy وفق هذه الرؤية، مع استمرار خطط النظام الدائمة لتقسيم المقسم في «دارفور» و«النيل الأزرق» و«ابيي» و»النوبة». وذلك بإنشاء القوى العسكرية، أو القبلية البديلة لهذا أو ذاك، وتحويل تقسيمات الإدارة الأهلية التقليدية إلى هويات قبلية محلية، وحتى نال ذلك قوات الدفاع الشعبي المفروض أن تكون مركزية، ويساعد ذلك في تقوية هوية المهمشين واستقلالهم عن الجنوب نفسه.
والحكم السوداني يراهن دائماً على انقسام المعارضة من جهة، أو بالأحرى خداعها، بينما لا يهم النخبة المركزية في الخرطوم، صراعات «الهلال» المهمش، من دارفور للنيل الأزرق، حيث تفتقد عناصر هذه المناطق التنسيق مع المعارضة الرسمية أو التأثير في العاصمة! وفي تقدير مؤلفي الكتاب أن الموقف تبلور مبكراً في مشروع للجبهة الإسلامية (كمركز) ضد مشروع «الحركة الشعبية»، سواء الأصلية أو الشمالية، التي تبني على ما يبدو تحالفها مع الجبهة الثورية كمشروع شمالي مواجه لـ«الجبهة الإسلامية»، مهما انطلق من الأطراف، وهذه في تقديري سسيولوجيا جديدة للوحدة المحتملة في السودان.
تعالج فصول الكتاب ما يضعه المحرران في خلاصة عن السيناريوهات المحتملة في السودان، أولها فرص الحلول التقليدية عن طريق الإصلاح الديمقراطي والدستور، وهذا يتطلب المستحيل لضرورة تنازل المؤتمر الوطني عن هيمنة الحركة الإسلامية والاعتراف بالتنوع، ويصعب ذلك بعد أن سلموا بالجنوب مقابل قوة مركز دولتهم.
وثاني الاحتمالات ما يسمونه، «الإبحار مع الريح»، أو قل التسليم بالوضع الراهن للأسف ممثلاً في استمرار الانقسامات والصراعات في الأقاليم، ومشاكل الهوية، خاصة مع تزايد حدة الأزمة الاقتصادية، وحدة لغة المركز تجاه الآخرين، أما الأمل البعيد في السيناريو الثالث، ففي احتمال استمرار الصراعات من دون حروب واسعة.
..
ومع هذا الامل المحدود لا تتوفر اختراقات كبرى في واقع الصراعات القائمة في الهوامش، بسبب عدم حل الأزمات، ولأن حروب الأطراف لا تشكل خطرا على نخبة الخرطوم! ومعنى ذلك تبلور هويات الأطراف على أساس صراعي بما يضمن استمرار سيطرة الخرطوم، ومن هنا يبدو الحل السلمي الشامل بعيداً، إلا إذا توفرت الاجراءات الديمقراطية ومبادئ حقوق الانسان، وإتاحة الفرصة أمام استعادة فلسفة السودان الجديد.