كان وزير الدفاع هو السياسي البافارى القوي فرانس يوزف شتراوس. وكان عمره وقتها يقارب الخمسين عاما وله ماض سياسي لامع فى السياسة المحلية فى بافاريا حيث كان الحزب الذى أسسه يتمتع بأغلبية مطلقة فى برلمان تلك الولاية. وشتراوس رجل حاد الذكاء سريع البديهة منطلق الكلمة وله نظرة ستراتيجية ثاقبة وكان هو المرشح المرتقب لتولي منصب المستشار بعد تقاعد المستشار العجوز كونراد آديناور الذى كان قد إقترب من التسعين من العمر. وقد أغرت كل تلك العوامل شتراوس بغواية السلطة فطلب من المستشار أن يتصرف بمفرده وأن يمنحه التفويض بذلك، وحصل بالفعل عليه تليفونيا.
أصدر شتراوس أوامره بإغلاق صحيفة دير شبيجل بمقتضي سلطة لا يملكها وزير الدفاع وكذلك أمرا بضبط وإحضار مؤسس الصحيفة وصاحبها ورئيس التحرير خصمه اللدود رودولف آوجشتاين وكذلك الصحفى الذى حرر المقال وأجرى اللقاءات مع ضباط الجيش الألماني. وكان الصحفي يقضي إجازة فى إسبانيا فاتصلت الحكومة الألمانية بالسلطات الإسبانية طالبة توقيفه وإعتقاله وإعادته إلى ألمانيا. وقد تم ذلك بالفعل. ولكن عندما عاد الصحفي إلى ألمانيا وعرض على النيابة بتهمة إفشاء أسرار الدفاع عن الدولة وتعريض مصالحها للخطر، هو ورئيس التحرير، إشتعلت الدنيا خارج مبني النيابة وقامت المظاهرات تطالب بالكف عن تدخل الدولة فى شأن النشر الصحفي وكانت تنعي على الألمان فقدانهم لحريتهم فى المعلومات وأن هتلر الجديد أضحي على الأبواب علي هيئة وزير دفاع يدعي شتراوس وكان المجتمع فى حالة شبه ترقب لأي شرارة تؤدي لإشعال نيران المعارضة حيث أن الجيل الذى حضر الحرب العالمية رجالا ناضجين لم يكن يريد إفساح الطريق للأجيال التي تليه وكان يتمسك بإدارة مرافق الدولة على نفس النهج القديم الذى كان متواجدا منذ العهد القيصري المحافظ.
وعند فحص الإتهام تأكدت النيابة أن النشر لم يهدر أي أسرار عليا للدولة (كان هلموت شميدت قد تكفل بذلك عندما راجع المقال قبل نشره) وبالتالي سقطت التهمة عن الصحفيين وأخلي سبيلهما. ولكن...
ولكن شتراوس أصبح هو المتهم الأول بالتعدي على الأسس الديموقراطية للمجتمع وعلى الدستور وبتجاوز السلطة وبتدخل المؤسسة الدفاعية فى الحياة المدنية. وفي خطاب أبيه الروحي آديناور فى البرلمان حاول أن يدافع عن شتراوس ويبرر لجوئه إلى تلك الإجراءات الدراكونية فقال عبارته الشهيرة
Wir haben einen Abgrund von Landesverrat im Lande!!
وهي ما يمكن ترجمته إلى "إن لدينا هنا هوة سحيقة من خيانة الوطن!! وقد كان بالطبع يقصد مجلة دير شبيجل، فقاطعه الأعضاء من صف المعارضة وهللوا وضحكوا من كلامه وكان موقفه محرجا للغاية. وقد إضطر شتراوس للإستقالة والتضحية (مؤقتا) بأحلام المستشارية وخلافة آديناور حيث أنه لم يذكر أنه قد حصل على تصريح من آديناور بالقيام بهذه الإجراءات حماية لمكانة أبيه الروحي وكذلك أنكر آديناور أنه أعطاه الإذن، ولم يعرف الناس هذه الحقيقة إلى بعد ذلك بوقت طويل.
وكانت هذه آخر مرة تتدخل فيها الدولة فى عمل الصحافة فى المانيا الإتحادية وهي تحتفظ منذ يومها بموقف المتفرج على ما تنشره الصحافة الحرة المملوكة للقطاع الخاص.
والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكل الدول الديموقراطية لا تخرج الممارسة العامة فيها عن هذه القاعدة التي إستقرت عقب قضية دير شبيجل وأضحت تقليدا دستوريا وقانونيا فى كل الغرب.
وهذه الصحافة الحرة المتنافسة فيما بينها والمنحازة إلى هذا الحزب السياسي أو ذاك هي ما أطلق عليه هنري كيسنجر فى حديثه مع شواين لاي وسائل إتصالنا بالجماهير أو المواطنين.. أي أنها لا تتبع الدولة ولكن الدولة تتابع ما ينشر فيها ولا تتدخل.
ولهذا الغرض نجد الخطب السياسية فى الغرب شحيحة وقصيرة. فالسياسيون المنتخبون لا يتحدثون بطريقة مباشرة للشعب إلا فى مناسبات قليلة مثل إعلان حالة التأهب أو إعلان منطقة كوراث أو التهنئة بعيد الميلاد أو العيد القومي أو حالة الإتحاد فى أمريكا وكلها أمور إما طارئة أو معروفة مسبقا. أما الأمور التي يشتد فيها النزاع السياسي فيترك أمرها للإعلام ليقوم بإبلاغ الشعب بها من كافة وجوهها وتبعا للميل السياسي لتلك المحطة أو تلك الصحيفة مثل التأمين الصحي فى أمريكا أو تفويض الجيش الألماني فى حروب خارجية فى ألمانيا إلخ..
والآن نعود إلى مصر..
وأول سؤال يخطر علي الأذهان هو: ما علاقة كل ما سبق بمصر أولا وبالرئيس كاسترو ثانيا؟
والجواب هو أن ما سبق كان الهدف منه بيان أن الإتصال بالجماهير والمواطنين من كل الأعمار والطبقات الإجتماعية هو مما لا يستطيع أي نظام سياسي أن يستغني عنه بل يجب أن يحافظ على بقائه بنسبة 100% إن أمكن. وكل خصم يقع على هذه النسبة هو خطر على النظام بنفس النسبة بل وربما بنسبة أعلي منها.
وأهم سبب أدي إلى إنهيار وفشل نظام حسني مبارك كان إغفال اهمية تلك الحقيقة الأسايسة الحيوية الهامة. فعلي مدي 30 عاما قضاهم حسني مبارك فى الحكم لم يعرف عنه أبدا أنه خاطب الشعب أو حاول أن يقضي وقتا ملموسا فى شرح أبعاد القضايا السياسية لهذا الشعب.
كذلك لم يغير المجلس الأعلي للقوات المسلحة من ذلك الوضع العقيم شيئا، بل ظلت طريقة الحكم تسير علي نهج حسني مبارك من إهمال القيام بهذا الواجب الهام.
أما حكم الإخوان والرئيس محمد مرسي فقد جاء أكثر كارثية حيث أنه لم يقم بتوجيه خطاب واحد فقط بطريقة عامة للناس، بل كان يتوجه بخطابه فقط إلى جماعته وأنصاره وكأن هذا هو كل ما يعنيه. كما أنه كان يرسل المراسيل والمندوبين إلى عواصم الدول الغربية الكبري ويعني جدا بالحديث إليها والإصغاء إلى صوتها بينما لم يكن يهتم بالحديث إلى من قاموا بانتخابه ومن أعطوه سلطته بل ومن يدفعون مرتبه!!! الوحيد الذى حصل على أغلبية – ولو ضئيلة للغاية – فى إنتخابات حرة وليس بها تزوير. وبما أن نسبته كانت فى حدود أقل من 52% فقد كان لزاما عليه أن يحاول تحسينها بالتقرب من الناس وخطب ودهم وشرح مواقفه السياسية وعرض أفكاره ولو دقق محمد مرسي فى الأمر لأدرك أنه كان الرئيس إن كانت لديه أفكار.. ولكنه كعادة كل من تربي فى عهد حسني مبارك أهمل أداء ذلك الواجب، ولهذا لم يقف أحد ممن قاموا بانتخابه إلى جانبه حين حلت ساعة أجله السياسي.
والرئيس السيسي ليس له موقف واضح من هذا الأمر حتي الآن رغم أنه فى الحكم منذ نصف عام تقريبا.
وهكذا إنقضي ثلث قرن بالتمام والكمال منذ أن تحدث رئيس مصري إلى شعبه مصارحا ومكاشفا وشارحا وطالبا منه تضحية أو مواقف، وهو الرئيس أنور السادات الذى خاطب الشعب لآخر مرة قبل مقتله عام 1981- سواء كان علي حق أو على باطل - لكنه قام بأداء هذا الواجب الهام ولم يهمله.
وإذا كنا نتهكم أحيانا على رؤساء النظم الإشتراكية مثل فيدل كاسترو فى أنهم يطيلون الحديث جدا للشعب ويستفيضون فى عرض وجهات نظرهم، فلعمرى هذا أفضل كثيرا من النظم التي مرت بمصر منذ عام 1981 والتي لم يهتم رؤساؤها إلا بالحديث مع العالم الخارجي وأهملوا القيام بواجبهم الأساسي.