أغثنا أدركنا أيها الجبرتي !!
مجموعة كتب الاستاذ عبد الرحمن الرافعي المحامي المصري ورجل الحزب الوطني القديم الذى أسسه مصطفى كامل فى بداية القرن العشرين كتبها تحت عنوان "تاريخ الحركة القومية فى مصر"وهي تبدأ فى سرد تاريخ البلاد منذ ما قبل وقوع الحملة الفرنسية مباشرة وحتي السنوات الأولي من حركة الضباط فى يوليو عام 1952 وتنتهي بالعدوان الثلاثي على مصر.
والواقع أن إسم "الحركة القومية"يبعث على التساؤل إن كانت القومية المصرية قد بدأ تاريخها مع الحملة الفرنسية أم أنه يعود إلى ما قبل ذلك. وأنا شخصيا مقتنع أن القومية المصرية هي أقدم كثيرا من هذا التاريخ الحديث، بل أنها ربما تكون أقدم من الأديان التوحيدية التي مرت على مصر. والدليل علي ذلك هو رفعة الشعور القومي المصري العام على الشعور الديني العام رغم كل التدين الذى يقال عنه وينسب إلى الشعب المصري. وتمتاز هذه القومية رغم أهميتها بالمقاومة الخافتة وعدم اللجوء إلى العنف، بل إلى الصبر "على جار السو"إلى أن يرحل أو تجي له مصيبة تاخذه كما يقول المثل المصري الشهير.
ولئن نحينا جانبا مسألة التسمية والاصل التاريخي لها فإن مجموعة كتب الرافعي هي مصدر لا يمكن الإستهانة به فى قراءة التاريخ المصري الحديث.
وبما أنه قد تناول الفترة المذكورة فإن مصدرا أساسيا لكتاباته هو ما قد سبقه إليه عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ المتطوع الذى عاصر الحملة الفرنسية وما قبلها وعاصر بدايات عصر محمد على ونقل إلينا صورا تكاد تكون فوتوجرافية عما كان يقع فى البلاد أيامها.
وعلى الجانب الآخر فإن كاتبا شهيرا ثانيا هو الأستاذ لويس عوض قد تناول مذكرات الجبرتي بالتفصيل والبحث فى كتابه المتعدد الأجزاء "تاريخ الفكر المصري الحديث"والذى لم أجد منه سوي ثلاثة أجزاء من اصل سبعة أو 10 أجزاء وقرأت بعضا منها إقتراضا من مكتبة جامعة ميونيخ منذ 25 عاما.. ولفظ الفكر المصري الحديث قد يعني فى بعض تفسيراته أيضا القومية المصرية التي ذهب لويس عوض إلى أنها لم تكن متواجدة بشكل واضح قبل تجريدة نابليون على مصر، خلافا لوجهة نظرى التي عبرت عنها سابقا.
وقد أجمعت كل من القراءتين للرافعي وعوض على أن الحملة الفرنسية على مصر جاءت صدمة حضارية هائلة الأثر اصابت المجتمع المصري بالدوار الذى لم يفق منه إلا بعد ذلك بسنوات ويري البعض أنه لم يفق من أثرها إلى اليوم.
على كل حال فإن ما يهمنا فى هذه الملاحظات هو تلك الفترة التي سبقت الحملة الفرنسية والتي إمتدت حتي نهايتها وحتي وصول محمد على للحكم بنوع من البيعة من جانب أهل الحل والعقد فى عام 1805.
علي أنه لابد هنا من ذكر أن أهم أسباب الخمول السياسي والعلمي لمنطقة الشرق الأوسط خلال الحكم التركي العثماني هما سببان: أولا كون الدولة العثمانية كيانا أوروبيا يري أن مجال عمله الأصلي هو أرض أوروبا حيث كانت تلك الدولة تناطح القوي الأوروبية المختلفة، وبالذات روسيا والنمسا، وبالتالي لم يكن الشرق الأوسط يمثل أكثر من مصدر من مصادر الدخل ولم يكن يوما يمثل مصبا لنفقات الإستثمار أو التطوير أو التحسين، كالطبيب الذى يشكل العمل الطبي مصدر دخله الأساسي ولكنه قد ورث عقارا قديما يعتبره مصدرا إضافيا للدخل ولكنه لا يهتم به ولا بتجديده أو تحسين حاله. والسبب الآخر كان واقعا فى ضم صفتي الخليفة والحاكم الدنيوي فى نفس الشخص، أى شخص السلطان العثماني. وقد جاء هذا الضم عقب قرون طويلة من الفصل بينهما حيث تعدد السلاطين مع وجود خليفة واحد له سلطة رمزية روحية لا يتعداها إلى السلطة السياسية التي يمارسها السلاطين كل فى منطقته. وهذا الضم المتأخر الذى جاء فى عام 1517 معاصرا لبدايات الفصل بين الكنيسة والدولة فى أوروبا بإصلاحات مارتن لوثر نشأ عنه ردة إلى الخلف لكل إقليم الدولة العثمانية وخصوصا إقليمها العربي فى الشرق الأوسط.
بل أن الوضع قد زاد سوءه أكثر وأكثر بسبب عدم إهتمام الدولة صاحبة السيادة علي مصر بأحوال هذا البلد، إذ أنها جعلت الحكم فيها مقسما بين الوالي الذى يمثل السلطان ويعين بقرار منه، والقادة العسكريين للفرق التي جلبها السلطان سليم الأول معه لفتح مصر (أو غزوها بلغة أدق) ثم غادر مصر وترك تلك الفرق فيها، وأخيرا المماليك الذين إمتثلوا للسلطان التركي وأقروا له بالسيادة والسلطان وأعلنوا أنهم عبيده فرضي عنهم ومكنهم من سلطة الإدارة المدنية للمحافظات المختلفة وهم من يطلق علهم الجبرتي "الأمراء المصرية"..
(شىء من هذا القبيل قام الأمريكيون به عندما دخلوا كوريا عام 1945 ليجدوا أن شعبها علي غاية من الجهل والأمية والعبودية لليابان فترخصوا مع اليابانيين وتركوهم يحكمون كوريا تحت إشراف أمريكي رغم أن اليابان كانت دولة مهزومة ومستسلمة..إنها البراجماتية فى العمل السياسي)..
وهكذا أصبحت السلطة فى مصر مقسمة بين جهات ثلاث تتنازع ميزاتها فى معظم الأحوال ولا تهتم بأحوال الناس ولا تري فى مصر وأرضها وناتجها القومي إلا مغنما ينبغي الحصول عليه بأسرع ما يكون الحصول.
ثم أن الدولة العثمانية أعلنت عقب دخولها لمصر أن جميع اراضى مصر قد آلت ملكيتها للسلطان العثماني وذلك بمقتضي حق الفتح، وأصبح الملاك القدامي حائزين للاراضي يمكن طردهم منها فى أى وقت مما أشاع بين أوساط المصريين خوفا تجرعوا من خلاله إنكسارا ومذلة للإحتفاظ بالأراضي التي هي قرة عين كل فلاح مصري كما نعرف.
والآن لابد من تأمل التوازن الدقيق بين السلطات الثلاث التي عرفنا أنها تمارس الحكم..