وقد كان الوضع الدستوري للبلاد في هذه الفترة غير مستقر بعد، إذ لم يكن لها نظام دستوري واضح المعالم حيث لا راس للدولة بعد خروج القيصر وفى نفس الوقت لا أحد يعلم كيف سيكون عليه النظام الجديد. فكل ما كان الناس يعرفونه هو أن ألمانيا لن تعود إمبراطورية بل سوف تتحول إلي جمهورية، إلا أن معالم هذه الجمهورية لم تكن قد وضعت بعد من قبل أي جهة.
وكان هذا الغموض القانوني والدستوري هو ما دفع كل الحركات السياسية إلى الإعتقاد بأن ساعتها قد دقت وأن دورها قد أذن له بالبدء. فالسيولة التي كانت عليها الأوضاع وعدم تحديد المسئوليات بين تشريع وتنفيذ جعل المجتمع ينحدر إلى حال من الفوضي شبيه بما نراه اليوم في كثير من الدول العربية.
ويلاحظ أن الصفة التي كانت تطلق علي الشيوعيين فى تلك الفترة كانت لفظ الفوضويين Anarchistوهو اللفظ الذي عن طريقه كان هناك مبرر للدولة لكي تضرب بيد من حديد علي هذه الحركة.. والحق يقال فالحركة الشيوعية لم تكن في ذلك الوقت تعرف أولوياتها وكانت تائهة متخبطة تعدو خلف نصوص نظرية بلا خبرة ولا خطة. فكانت تستحق بالفعل هذه الصفة علي الأقل بنسبة كبيرة.
وكان الحزب الإشتراكي الديموقراطي خصما لدودا للحزب الشيوعي، رغم إشتراكهما في الدعوة إلى إعادة توزيع الثروة في المجتمع، إلا أن الأول كان يدعو إلي ذلك بطريقة ديموقراطية برلمانية بطيئة حتي لا تقوم فوضي بينما ينادي الثاني بالتغيير الجذري من الاساس وبالثورة المسلحة وصراع الطبقات إلخ.. فكان أن الحزب الإشتراكي الديموقراطي يري في الحزب الشيوعي نفس ما تراه الأحزاب المحافظة من فوضوية وقصور في الفكر وربما إنتهازية ايضا.
(يتشابه هذا الموقف مع موقف أحزاب الإسلام السياسي التي تنتشر اليوم في البلاد العربية ولا تملك من أدوات ممارسة السياسة إلا السذاجة والأفكار النظرية، وهي محل عداء كل الأحزاب الأخري).
وفي ظل هذا الفراغ الدستوري وفي غياب رمز للدولة إنصرفت كل جهة إلى ممارسة عملها بالطريقة التي تراها هي صحيحة. (وهذا وضع أيضا يشابه الوضع العربي فى عديد من دول الثورة الأخيرة حيث غاب التنظيم العام للبلاد وأصبحت الرؤية الذاتية هي ما تحدد مجال عمل أجهزة الدولة).
وبصرف النظر عن الخلاف السياسي الذي تناولنا شرح أبعاده كان هناك الجهاز الإداري للدولة والذي لا يتبع ايا من السياسيين بل هو مجرد الأداة التي تصرف بها الدولة أمور الناس. وهو يتمثل فى الشرطة والقضاء وأجهزة الوزارات المختلفة التي لها إحتكاك مباشر أو غير مباشر بالجماهير.
والملحوظ أن ما أصبحنا نطلق نحن عليه اليوم فى الدول العربية لفظ "الدولة العميقة"كان متواجدا أيضا فى ألمانيا فى تلك الفترة وكان إنحيازه واضحا ضد الشيوعيين.بل أن أجهزة الدولة الرقابية من مباحث وشرطة كانت ضالعة فى عمليات قتل صريحة وتصفية لاقطاب الحركة الشيوعية التي كانت قوية في برلين وفي شرق ألمانيا (البروتستانتي) بينما كانت الحركة المحافظة فى غربها (الكاثوليكي) والحركة اليمينية ذات الميول شبه العسكرية فى جنوب البلاد في بافاريا وبادن.
وحادث التخلص من الناشطة الشيوعية روزا لوكسمبورج (يهودية من بولندا) هو خير مثال علي اسلوب الشرطة فى مواجهة الحركة السياسية المعارضة. فقد تم إختطافها بطريقة غامضة ثم إختفت لفترة وعقب إختفائها بفترة شهرين وجدت جثتها غارقة فى أحد القنوات المائية فى داخل حديقة بوسط برلين..
وكان الفارق الزمني الكبير بين وقوع الوفاة والعثور علي الجثة سببا فى صعوبة تحديد سبب الوفاة.
وكذلك كان التخلص من كارل ليبكنيشت (مسيحي ألماني) الزعيم الشيوعي الآخر علي يد مجموعة مستأجرة من المباحث وبمساعدة منظمات يمينية تري فى الشيوعية خطرا وشيكا يكاد يطبق على ألمانيا.
وهكذا تصرف الجهاز الإداري بمفرده كمنفذ لأحكام إعدام لم يصدرها أي قاضي ولا خضعت لأي رقابة من النيابة بل تم إتخاذ القرار بشأنها من جهات إدارية، ولم يقدم أي شخص بعد ذلك لأي محاكمة عن تلك الأعمال، وهو ايضا وضع شبيه بما جري ويجري فى عدد من دول الثورة العربية.
وعلي الجانب الإقتصادي والإنتاجي بعيدا عن التنازع السياسي كانت هناك حركة إضرابات تدعو إلي زيادة الأجور لتعويض التضخم الذي نشأ عن الحرب الطويلة (ما نطلق نحن عليه فى الدول العربية مطالب فئوية) وكان أثرها علي الإقتصاد سيئا للغاية خصوصا في بلد منهك من الحرب وبانتظاره إلتزامات كبيرة علي صورة تعويضات للحلفاء لم يعرف مداها بعد إذ أن الشهور الأولي فى عام 1919 لم تكن فيها نصوص إتفاقية فرساي قد تم الإستقرار عليها بعد. وبسبب التشابه فى الأوضاع بين المانيا منذ قرن تقريبا وبعض الدول العربية اليوم لابد من وقفة عند هذه النقطة لدراسة تصرف الدولة إزاء هذه الإضرابات الفئوية..