تأليف : محمد السويسي
كان الباعة الجائلين او الجوالين من الذين يحملون بضاعتهم على العربة أو في صدور نحاسية أو فرش خشبية على رؤوسهم كثرٌ في المدينة ينشطون من الصبح حتى الظهر ، وبعضهم حتى العصر إلى أن ينفقوا بضاعتهم ليعود كل منهم الى موقعه الذي انطلق منه ليعد بضاعة جديدة يعرضها في اليوم التالي . وهكذا دواليك لتأمين قوته وقوت عياله يوماً بعد يوم .
وسأقتصر في الحديث عن "شكيب "بائع الغريبة الشهير في طرابلس الفيحاء وقتذاك ، من خمسينات القرن المنصرم ، الذي كان يباشر ببيع بضاعته من "الغريبة" بدءاً من الساعة العاشرة صباحاً ، على صدر كبير هو عبارة عن صينية واسعة من النحاس يرفعه على رأسه منادياً "هون الطيب هون ".
و"الغريبة"التي كان ينادي عليها هي نوع طيب من الحلويات بشكل اقراص صغيرة مفرطحة دائرية مصنوعة من دقيق القمح الأبيض والسمن والسكر ، وفي وسط كل قرص منها حبة صنوبر محمرة من حرارة النار وسط محيط ذهبي لذيذ الطعم مقرمش .
وكان يبدأ جولته من ساحة الدفتار بلباسه القروي حيث مسكنه في زقاق "الحمّص"منطلقاً نحو الأسواق مروراً بشارع الحتّة متابعاً سيره بمحاذاة الرفاعية ليتوقف كل بضعة أمتار لدقائق ، ينزل خلالها بضاعته عن رأسه ويضعها على محمل خشبي مربع القاعدة على قوائم أربع مستديرة عند الأعلى، متابعاً معزوفته اللازمة "هون الطيب هون " .."يالّلا بفرنك ".
وهكذا دواليك إلى أن يصل بركة الملاّحة مخترقاً سوق البازركان نهاية جولته ، حيث ينفق بضاعته ظهراً ويعود إلى مركز عمله حيث دكان صغير كان يبيت فيه إذ لاعائلة لديه .
وكان أكثر مايطيل وقفته عند منتصف سوق الصاغة حيث كانت إمرأة تطل عليه من الشباك وتناديه أن ينتظرها لشراء قرص من الغريبة ، وتنزل اليه ليعطيها قرصاً أو قرصين يلفهما في ورقة رقيقة دون أن يأخذ ثمنهما ، مما جعلها زبونة دائمة لديه تنتظره عند زاوية الزقاق الذي تسكن فيه قبل ساعة من وصوله أكثر الأحيان .
والزبونة تلك كانت إمرأة ساذجه تسكن وحيدة في بيت علوي يزورها كل اسبوع تقريباً بعض النساء من اهلها يحملون إليها الطعام ويعطونها بعض الدراهم لتشتري ماتحتاجه إن تأخروا عنها لسبب ما .
مرت سنوات على هذه الحال قبل ان تتعرف "صفيّة "على بائع الغريبة ، ولكن بعد اشهر من توطد علاقاتها به بما يحسن به اليها من الغريبة ، تورّم بطنها وانتفخ ، مما أثار علامات الإستفهام والإستغراب في السوق ولدى أهلها الذين قلقوا عليها ليخبرهم الطبيب المختص انها حبلى ؟! فطار صوابهم وأقاموا الدعوى لدى مخفر الشرطة ضد مجهول ، لتأتي المباحث للتحقيق في السوق على مدى أسابيع دون جدوى إذ كانت صفيّة على سذاجتها لاتفقه معنى الأسئلة الموجهة اليها وترفض الإجابة عليها ملتزمة الصمت ، مما زاد من الحيرة .
إلا أن أحد رجال التحري كان ملحاً في اكتشاف سر هذه المرأة فانتظر حتى أغلق السوق ليأتي اليه مراقباً مدخل منزلها من بعيد جالساً على الأرض كالمتسولين ، إلى أن رأى أحدهم يدلف في العتمة في الزقاق ويصعد في السلم نحو بيت صفيّة ليدق على الباب طرقاً خفيفاً لتفتح له ويدلف الى الداخل دون أن ينتبه أنه مراقب .
لم يحرك التحري ساكناً ، إلا أنه صعد منطلقاً في العتمة واستند الى الحائط بجانب البيت دون حراك لساعة من الوقت إلى أن خرج الرجل ليمسك به من خناقه ويعيده من حيث خرج لتصرخ صفّية بالتحري محاولة تخليصه صارخة : أترك زوجي ؟؟
ولم يتلق الرجل أكثر من صفعة واحدة ليقر ويعترف انه صاحب حملها ، ليتبين أنه "شكيب"بائع الغريبة ؟.ولما لم يكن الرجل يحمل اي وثيقة تثبت زواجه منها فقد أخذه التحري إلى المخفر لأنتهاك عرض إمرأة مستغلاً سذاجتها .
ولكن في الصباح انتهى الأمر بالزواج بشكل رسمي بحضور أهلها وأفرج عن شكيب لتلد صفيّة صبياً ربته بمفردها لغياب أبوه الذي اختفى بعد اسابيع من هذه الواقعة