يعرف التاريخ الأمريكي إثنين من الضباط العظام لمع إسماهما خلال الحرب العالمية الثانية، كان أحدهما وهو الأعلي رتبة والأكبر سنا هو الجنرال دوجلاس ماك آرثر قائد القوات الأمريكية علي جبهة الباسيفيك سواء ضد اليابان أو بعد ذلك ضد كوريا، وكان الثاني هو الجنرال دوايت آيزنهاور قائد القوات المشتركة للحلفاء علي جبهة الأطلنطي ومحقق نصر النورماندي وقاهر الفاشية في كل من المانيا وإيطاليا، بل والذي أصبح الرئيس الأمريكي الرابع والثلاثين فيما بعد.
ولكن الذي لا يذكر عن تاريخ هذين الرجلين كثيرا هو دورهما في قمع تظاهرات داخلية وقعت في مدينة واشنطن عاصمة الولايات المتحدة عام 1932.
كان النظام المعمول به داخل الجيش الأمريكي هو منح الجنود حوافز مادية مرتبطة بالرتبة والدخل الأصلي الذي يحصل عليه كل منهم. ولكن هذه الحوافز لم تدفع إلي الجنود الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولي ومن قبلها لم تدفع أيضا إلي الجنود الذين شاركوا في الحرب الأمريكية الإسبانية التي دامت 8أسابيع فقط وكان الدخول فيها مدفوعا إليه من الصحافة الأمريكية التي قامت بتهييج الراي العام علي إسبانيا بل ويقول المؤرخون اليوم أن سبب الحرب هو مختلق من جانب الأمريكيين، وهو تدمير السفينة الحربية الأمريكية Maineفي ميناء هافانا بكوبا والذي يشكك كثيرون في مسئولية إسبانيا عنه.
وبسبب الكساد الكبير الذي وقع في الولايات المتحدة عقب إنهيار البورصة في نيويورك في أكتوبر عام 1929 شعر كثير من الأفراد العاملين السابقين في القوات المسلحة بأن حقوقهم قد هضمت وأنهم قد ظلموا وكان أن أحد القساوسة قد أسس لسابقة التظاهر في واشنطن حين قاد مظاهرة للفلاحين المعدمين من ضحايا الكساد وطاف بهم شوارع العاصمة، فاتخذ الجنود السابقون هذا النهج مثالا وقاموا بالإعتصام في واشنطن طلبا للحوافز المادية التي لم يحصلوا عليها.
وهكذا تجمع حوالي 20 ألف معتصم في مدينة واشنطن بنسائهم وأطفالهم يطالبون الحكومة بصرف مستحقاتهم المالية وظلوا معتصمين بدءا من يونيو 1932 في خيام مؤقتة أمام مبني الكونجرس وكانت هناك حركة مؤيدة لهم من داخل الجيش العامل.
وزاد الطين بلة أن الكونجرس رفض تمرير القانون الخاص بصرف هذه الحوافز لهم مما زاد الأعصاب إشتعالا وجعل الأمور تتجه إلي نية الحسم بالقوة.
بدأت الأحداث بعد أكثر من شهر من بدء التظاهرات بقرار أصدره المدعي العام الأمريكي يأمر بفض الإعتصام ويسمح باستعمال القوة في تفريق المظاهرة كما أصدر قرارا بحظر التظاهر والإعتصام علي الاراضي العامة ولكن المعتصمين لم يرضخوا لهذه القرارات وظلوا يواصلون إعتصامهم.
وهكذا أرسلت الحكومة قوات الشرطة لفض الإعتصام بالقوة واستعملت الاسلحة النارية فسقط قتيلان من المعتصمين. وعند هذه النقطة قرر الرئيس هوفر إرسال القوات المسلحة إلي المدينة لكي تفض الإعتصام وكان القائد المحلي لهذه القوات هو الجنرال دوايت آيزنهاور ومعه الجنرال باتن الذي أصبح بعد ذلك أحد أهم قواده في غزو أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وكان باتن يقود قوة مكونة من 6 دبابات، وكانت القوة المرسلة لفض الإعتصام تتكون إضافة إلي الدبابات من الفرسان وجنود المشاة وفوق الجميع كان الجنرال دوجلاس ماك آرثر هو رئيس أركان الجيش الأمريكي (كان الجيش في ذلك الزمان منفصلا عن البحرية والقوات الجوية ولم تكن رئاسة الاركالن مشتركة تشمل جميع الأسلحة كما هو الوضع الآن).
وبالطبع لم يتوقع المتظاهرون من العسكريين أن تشارك قوات الجيش في فض إعتصام يقوم به عسكريون سابقون فكانت المفاجأة مكتملة.
بدأ الهجوم بالفرسان ثم المشاة واستعمل الجنود الغاز المسيل للدموع ضد المعتصمين وحدث هرج ومرج وتدافع خصوصا في وجود نساء وأطفال وسقط 4 قتلي في ذلك اليوم بالإضافة إلي حوالي 1000 جريح منهم 70 من قوات الشرطة.
إلا أن الرئيس هربرت هوفر عندما علم بنتيجة الحملة العسكرية أمر بإيقافها ولكن الجنرال ماك آرثر قرر وحده أن يعاود الهجوم وهكذا فر المعتصمون جميعا وتركوا خلفهم خيامهم ومتاعهم ثم قام الجيش بعد ذلك بإحراق الخيام بما فيها.
وقد شارك في هذه الحملة العسكرية الداخلية نجوم المجتمع العسكري الأمريكي الذين لمعوا بعد ذلك وهم ماك آرثر وآيزنهاور وباتن.
وكانت هذه الواقعة سببا من أسباب إنتصار المرشح الديموقراطي فرانكلين روزفلت الذي خاض الإنتخابات بعد ذلك بأربعة شهور وأقام حملته علي اساس إنتقادها وانتقاد الطريقة التي يدير بها الرئيس الجمهوري هربرت هوفر شئون البلاد خصوصا في ظل أزمة إقتصادية قاسية طالت الجميع وبالذات الطبقات المحرومة والفقيرة التي كان جنود الجيش من المنتمين لها.
وبالطبع لم تحدث فيما بعد أي محاكمات ولا تقصي حقائق وانتهي الأمر وأصبح الضباط الثلاثة من الابطال بل أن أحدهم - آيزنهاور- إنتخب بعد 20 عاما رئيسا للبلاد.