تأليف : محمد السويسي
عيد الفطر السعيد : كان هذا العيد ، في الخمسينات وحتى منتصف السبعينات من القرن المنصرم ، يُستقبل بفرح ظاهر ويُعد له منذ العشر الأخير من رمضان حيث تقام الزينات الملونة في الأسواق وتضاء المدينة بأكملها باللمبات الساطعة والملونة لتزيد من أفراح العيد وبهجتة ، كما كان يُستقبل بالأناشيد الدينية قبل ثلاثة أيام من حلوله حيث تقوم فرق الإنشاد الصوفية بالتجوال في أنحاء المدينة بمواكبة مع الفرق الموسيقية على إيقاع الدفوف والطبل والصنوج ، وكانت المدفعية تعلن عن قدوم العيد بسبع طلقات مدوية ليلة حلوله عصراً أو مساء ، كما كانت تطلق طلقتان طوال أيامه الثلاث عند بدء كل آذان ، من أذان الصبح حتى العشاء ،إلا أنه في اليوم الثالث منه كان يكتفي بإطلاق طلقتين فقط عند العصر دون المغرب والعشاء .
وكان الإزدحام في الأسواق يتعاظم طوال ليلة العيد وقد عج بالناس يتبضعون مايحتاجونه من الألبسة والكلسات والأحذية والمأكولات والنقولات من مختلف أنواع الشوكولاه والسكاكر والحلويات المشكلة ، اما المعمول فكان يصنع من قبل البعض في البيوت ويرسل إلى الأفران التي تسهر حتى الفجرلتتمكن من خبز كل الصواني التي ترد إليها .
وكانت بلدية طرابلس اللبنانية تقوم قبل أيام بتنظيف باب الرمل حيث المقابر من الأوساخ والحجارة المتناثرة وأوراق الشجر وشطف ممراته ، ثم لتلتفت إلى شوارع المدينة وأزقتها حتى ليلة العيد لتقوم بكناستها وشطفها بالمياه بنشاط وهمة كبيرتان .
وكان العيد يحتفل به أهل المدينة منذ الصباح وقد لبس الناس جميعاً من رجال ونساء وأطفال الحلل الجديدة ، حيث كانت العائلات تتجه عقب صلاة العيد نحو مقبرة باب الرمل بازدحام كبيرلتزيين ترب أمواتها بشتلات الآس الخضراء والزهور والورود ولتقرأ الفاتحة عن أرواحها . إلا أنه ماكان يلفت النظر هو تكاثر باعة الكعك والفقراء على جانبي الطريق من الجامع الكبير حتى المقبرة حيث تجزل الناس العطاء لهؤلاء المساكين بما تيسر ، وتشتري الكعك لأطفالها الذي كان من معالم العيد كما المعمول .
وبعد أن ينتهون من زيارة المقبرة كانوا يقومون بمعايدة الأهل والأقارب طوال أيام العيد ويتبادلون الزيارت بالأحضان والقبلات والتهنئة بحلول العيد بالقول : "كل عام وأنتم بخير"ويتناولون المعمول المحشي بالجوز أو الفستق والتمر إلى جانب الغريبة ، كما يقدم لهم الشوكولاته والملبس والقهوة أو الشاي ، والليموناضة الباردة إذا كان الطقس حاراً ، ولازالت هذه العادات سائدة حتى اليوم مع بعض الإختلاف البسيط وإن خف زخمها .
أما الأكلات المفضلة أول ايام العيد فكان الورق العنب المحشي بالأرز واللحم المفروم، كما الدجاج المحشي والضلع ، أي حساء الدجاج ، والقباوات المحشي بالأرز واللوز واللحم أو الكوسى باللبن ، هذا إذا كان العيد قد حل في فصل الربيع أو الصيف ، أما إذا حل في الشتاء فكان يفضل إلى جانب الدجاج الكبة بالصينية أوالمشوية والفاصولياء أوالملفوف .
عيد الأضحى المبارك : وكانت المدفعية تستقبله بسبع طلقات مساء حلوله كما عيد الفطر، وطلقتان طوال أربعة أيام عند كل أذان حتى عصر اليوم الرابع . وكانت الزينة والإحتفال به والمعايدات طوال أيام العيد مشابهة لتلك في عيد الفطر ، إلا أنه كان يتميز عنه بالأيام التي تسبقه حيث تملأ المدينة قطعان الخراف التي كان يقبل عليها الأثرياء والميسورين من أهل طرابلس للشراء والتضحية في أول أيام عيد الأضحى وتوزيع لحومها على الفقراء . وكان مشهد قطعان الغنم يفرح الأطفال فيتجمعون لمشاهدة معاينة الأكباش الضخمة بقرونها الكبيرة من قبل الزبائن ، بدسها من الظهر والبطن ثم الشراء .
إلا أن أكثر المشاهد غرابة وأطرفها هو مشاهدة بدوي في السوق وهو يسحب جملاً كبيراً وقد زينه بكل الألوان والعديد من الأجراس حول عنقه الطويل التي ترن وتقرع مع كل خطوة من تنقله وصاحبه ينادي عن قرب ذبحه ليحجز المواطنين من الراغبين بلحم الجمل حاجاتهم منه فيسجل أسمائهم وعناوينهم ويقبض رعبوناً مالياً مقدماً ،وهو عبارة عن مبلغ زهيد من ثمن اللحم الموصي عليه تأكيداً للشراء ، حيث أن ثمن الكيلوغرام من لحم الجمل أقل سعراً من مثيله من الغنم أو العجل ، وكان الرجل ليجول في أنحاء المدينة حتى يبيع جمله بأكمله ثم ليغادر ويعود بعد يومين حاملاً حصة كل مشتر ويقبض باقي الثمن .
العيد والأطفال : كان العيد يشكل فرحاً وعرساً حقيقياً للأطفال حيث ينامون ليلتهم وهم يحلمون بطلوع النهار للإحتفال به ، فيلبسون الملابس والأحذية الجديدة ويتلهفون لتقبيل ايادي آبائهم وأمهاتهم لتلقي العيدية من خمس إلى عشر ليرات لكل فرد منهم ومن ثم الذهاب مع العائلة عند أقاربهم لمزيد من المعايدة وبالتالي المزيد من العيديات التي تتيح لهم ، وقد امتلأت جيوبهم ، شراء مايحلو لهم . وأكثر ماكان يسعدهم هو شراء الألعاب والمفرقعات وشراء السيارات التي تدور بالزنبرك يعبئونها بمفتاح جانبي أشبه بمفتاح علب السردين ثم يطلقونها بفرح لمرات عدة ، كما كانوا يشترون مسدسات الفلين والكبسون ويلهون بفرقعة أصواتها في الهواء مسرورين بصوتها المدوي . أما المراجيح فكانت تتوزع في أنحاء عدة من المدينة القديمة في باب الرمل وأطراف شارع النجمة والتبانة حيث كانت محببة من البنات أكثر من الصبيان .
كما كان يحلو لهم أيضاً التوجه نحو ساحة التل التي كانت تزدحم بباعة المخلل والترمس والكعك والسندويش المحشي باللبنة والمربى والجبنة ، وكان سعر السندويشة الواحدة من الخبز الإفرنجي بخمسة عشر قرشاً وصحن المخلل بفرنك واحد ، وقد يدخلون إلى المانشية اي الحديقة العامة حيث يتواجد عدة مصورين كما في ساحة التل لتُلتقط لهم الصور وتكون ذكرى لاتنسى عن أيام العيد ، وكان سعر الصورة الواحدة نصف ليرة يدفعها مقدماً ويعطى وصلاً ليأخذ صورته بعد عدة أيام من عند أحد المصورين قريباً من التل . ولكن أكثر ماكان يسرهم هو الدخول للسينما التي يترواح سعر بطاقتها بين ربع ونصف ليرة وفقاً لموقعها ، حيث كانت السينمات تبدأ العرض من الساعة العاشرة صباحاً حتى منتصف الليل دون انقطاع .
عيدي الميلاد ورأس السنة : رغم أن مدينة طرابلس يغلب على تعدادها المسلمون إلا أن طابع عيدي الميلاد ورأس السنة كان يتجلى خلال الستينات حتى منتصف السبعينات في شارعي عزمي والتل حيث كانت تضاء محلات المسلمين والمسيحين بشجرة الميلاد وزينتها من اللمبات الزجاجية الملونة مما يعطي مظهراً جميلاً للشارع والمخازن لجذب الزبائن ، وكان سكان القرى المسيحية المجاورة تفد إلى المدينة للتبضع منها ، حيث تجدهم أول أيام العيد يفدون إلى كنائسهم التي كانت في وسط المدينة وداخل الأسواق يدخلون إليها ويخرجون بأبهى حللهم الجديدة ، وكانوا يتزاورون ويتعايدون مع جيرانهم من المسلمين في الحي والمبنى ومع أقربائهم وأصحابهم كما عادات المسلمين .