الآثار السياسية
والآن لابد أن ندقق النظر فيما كان عليه الحال السياسي للبلاد.
تقوم الفكرة الشيوعية علي مبدأ أن كل ياخذ علي قدر إحتياجه بحيث تكفي الموارد الجميع ولا يحدث تراكم للثروة في أيدي طبقة أو أفراد بعينهم. وهي فكرة تبدو جذابة لغاية قبل أن تطبق، أما تطبيقها فقد أثبتت الأحداث التاريخية أنه لا يحقق إلا نتائج مدمرة للإنسان وللموارد وللعقول.
ولكن في بداية ثلاثينات القرن العشرين لم تكن هذه المعارف متوافرة للبشرية فكانت الشيوعية تمثل أملا للإنسانية تعبر من خلاله إلي العدالة والسلام.
والولايات المتحدة لم تكن بمعزل عن العالم الخارجي في ذلك الوقت إذ أن بها طبقة كبيرة من المثقفين المرتبطين بالأحداث العالمية والعارفين بما يجري في الدول البعيدة والقريبة علي السواء.
وهكذا بدأت حركة شيوعية يقودها الحزب الشيوعي الأمريكي في التكوين داخل الولايات المتحدة تنادي بنفس ما ينادي به الشيوعيون في بلاد مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا بل والإتحاد السوفيتي. وفي ظل هذا الخلل الهائل بين المستهلك الذي لا يستطيع الشراء والمنتج الذي لا يستطيع البيع كانت الشيوعية قد بدأت تصبح جذابة لكثير من الأمريكيين الذين إكتووا بنار الأزمة الخانقة التي عرفنا كيف نشأت وماذا كان أثرها عليهم.
ولما كانت أعراض الأزمة بادية للعيان، وهي سوء توزيع الثروة في الولايات المتحدة رغم تمتع هذه الدولة بكافة الموارد التي يعرفها البشر، فقد كان الإستنتاج المنطقي للمواطن الأمريكي البسيط هو أن الراسمالية قد فشلت وأن الشيوعية قد تطرح حلا لمشكلته. !!
وهنا بالتحديد يكمن فضل فرانكلين روزفلت وقوانينه الجديدة، في تحاشي حرب أهلية في الولايات المتحدة بين التيار المحافظ التقليدي والفكر أن الشيوعية فيها مخرج من المحنة.
وفرانكلين روزفلت كان في فترة بداية الأزمة حاكم ولاية نيويورك وكان من خلال العمل الإجتماعي لزوجته إليانور قد توصل إلي فهم أكثر وعيا بأبعاد الأزمة حيث أنها كانت تقوم بزيارات دورية للعائلات المتضررة من البطالة ولسكان الخيام والعشش الصفيح ممن فقدوا منازلهم سواء كانت ملكا أو إيجارا.
وفرانكلين روزفلت كان يمثل أملا للفقراء في الخروج من الأزمة الخانقة اللتي إستمرت تقريبا طوال عهد الرئيس هوفر. وقد أعلن أثناء الحملة الإنتخابية عن إلتزامه بصفقة جديدةNew Deal لكل الأمريكيين لو أنه فاز بالرئاسة، وكان هذا الوعد سببا في نصر مزلزل لصالح روزفلت حيث حصل علي 23 مليون صوت مقابل 16 للمرشسح الجمهوري صاحب المنصب الرئاسي، هربرت هوفر.
والحديث حول النيو ديل قد لا تكفيه كتب ومجلدات ولكن هذه القوانين كانت باختصار تطبيقا للفكر الإقتصادي الذي نادي به المفكر البريطاني جون ماينارد كينز منذ نهاية الحرب العالمية الأولي. وهذا الفكر يري أن دور الدولة في الإقتصاد هو مما لا يمكن التساهل في أهميته ولا يمكن التنازل عن وجوده المستمر. فالدولة عامل أساسي ورئيسي في كل التعاملات الإقتصادية ليس فقط عن طرق فرض الضرائب وإنما عن طريق المساهمة الفعالة في الحياة الإقتصادية بالمشروعات الكبيرة مثلا أو بمنح القروض للمؤسسات الإقتصادية أو بأي طريق آخر قد لا ترضاه القواعد الإقتصادية التقليدية.
وهذا الخلاف بين المدرستين الفكريتين ربما لا يزال قائما حتي يومنا هذا. فما وقع في عام 2008 هو أوضح مثال علي عدم إنتهاء هذا الخلاف الفكري رغم مرور 80 عاما علي روزفلت وأيامه.
لاحظ روزفلت عن حق أن القدرة الإستهلاكية هي التي نحرك الإقتصاد وليس القدرة الإستثمارية، فوجود النقد في يد الأفراد هو ما يخلق حركة نقل البضائع وبالتالي هو ما يحفز المنتجين علي العمل وعلي مزيد من الإنتاج. وقد كانت مشكلة أمريكا الكبري في ذلك الوقت هي إنهيار الإنتاج بسبب إنخفاض الطلب علي المنتجات سواء كانت صناعية أو زراعية.
سياسة روزفلت الإقتصادية
وبالتالي كان الحل الذي إرتآه هو تسهيل حصول الكتل البشرية علي نقد متاح في أيديها لكي تبدأ دخول السوق مشترية لبضائع مما يحرك الركود ويعجل بإنهاء الأزمة. ولكن كيف يمكن الوصول إلي هذا الحال؟
rulers of the exchange of mankind's goods have failed through their own stubbornness and their own incompetence, have admitted their failure, and have abdicated. Practices of the unscrupulous money changers stand indicted in the court of public opinion, rejected by the hearts and minds of men.
ان المسئولين عن عملية تبادل السلع بين الناس. قد اخفقوا بسبب عنادهم وعجزهم، وقد أدركوا ذلك وخرجوا من مناصبهم.
أما الممارسات عديمة الضمير من جانب الهيئات المالية فقد ادانتها الجماهير في محكمة الرأي العام ورفضتها عقول وضمائر الناس.
هذه هي الكلمات التي اراد الرئيس الحقوقي أن يبدأ بها عهد حكمه في حفل تدشين حكمه وفي حضور الرئيس السابق هوفر وهي موجهة لحكومة سلفه المهندس وللبنوك وشركات المضاربة التي تسبب جشعها فيما وقعت فيه البلاد من أهوال إقتصادية واجتماعية اقتربت بها من حافة الحرب الأهلية .وهو تشخيص صادق لحال الإقتصاد الأمريكي والمجتمع الأمريكي بصفة عامة في تلك الفترة.
وقد حضر الإحتفال نصف مليون أمريكي وسمعوا هذا التقريع من الرئيس الجديد للرئيس القديم.
والآن إلي الخطوات التي اتخذها في بداية رئاسته..
الخطوات العملية
تبدأ الفترات الرئاسية في العشرين من يناير أي عقب الإنتخابات بحوالي شهرين. وفي ذلك الزمان كان عمل الرئيس يبدأ في مارس عقب أداء اليمين الدستورية. وقد بدأ روزفلت عمله وسط توقعات هائلة من الفقراء والمنتمين للطبقة المتوسطة التي أفقدتها الأزمة الإقتصادية تقريبا كل شىء كما رأينا. وقد كان صعوده للسلطة يمثل أملا للخروج من هذه الأزمة الإقتصادية الإجتماعية الأخلاقية التي كادت أن تفضي إلي حرب أهلية.
وكما يفعل كل رئيس عاقل يعيش بلدا له كيان منضبط فقد بدأ روزفلت بمجموعة من التشريعات التي مررها من الكونجرس بمجرد توليه الرئاسة.
وكان أولها قانون بتخفيض مرتبات كل العاملين في الدولة والقوات المسلحة بنسبة 15% وذلك دون إستثناءات. كذلك إستصدر من الكونجرس قانونا بخفض مخصصات الإدارات الحكومية جميعا بنسبة 25% حتي يتسني له توفير جزء من عوائد الضرائب يمكن توجيهه إلي تنفيذ خطط النيو ديل. وقد نتج عن هذين القانونين توفير مبلغ يعادل مليار دولار أي حوالي 30 مليار دولار بأسعار اليوم.
ثم أعقب ذلك بقوانين الإصلاح الإقتصادي التي تعددت مجالات عملها فمنها ما كانت طبيعته عمالية تنظم ساعات العمل وتحدد القدر الأدني من الأجور وتمنع عمل الأطفال ومنها ما كان ينشىء هيئة حكومية تتولي تمويل المشاريع القومية بأموال دافعي الضرائب ومنها ما كان يسمح بإنشاء النقابات العمالية المختلفة ويعطيها الشخصية القانونية التي تسمح لها بإجراء التفاوض مع أصحاب الأعمال.كما أنه إستصدر قانونا يجبر أصحاب الأعمال علي الإعتراف بالنقابات المهنية والتفاوض معها للتوصل إلي صيغة توافقية لحل خلافات العمل. وعلي صعيد الزراعة فقد إستصدر قانونا آخرا يسمح بدعم المزارعين بقدر معين حتي لا ينتجوا أكثر مما يمكنهم تسويقه وذلك حتي تمر الأزمة الإقتصادية التي خنقت المزارعين بالفائض من المحاصيل التي لا سوق لها.
وقد بلغ عدد القوانين التي إستصدرها روزفلت من الكونجرس 15 قانونا في العام الأول لرئاسته 1933 وكلها ذات إنعكاسات وآثار إجتماعية عميقة علي المجتمع الأمريكي.
وكان من ضمن الأفكار التي جاءت بها النيو ديل مفهوم الدولة التي تقوم بدور صاحب العمل، وذلك من أجل خلق تراكم نقدي في أيدي الفقراء يجعل منهم قوة شرائية تحرك الركود الذي كانت تعاني منه الاسواق في كل مجال.
وتبنت الحكومة الفيدرالية مشاريع بنية أساسية غير مطلوبة أو تقع في مناطق لا تحتاج إليها، ولكن فقط لكي تخلق فرص عمل وكسب القوت اليومي لمئات آلاف العمال من العاطلين.
بل ووصل الأمر إلي أن الدولة كانت تستأجر عمالا بسطاء تعطي كل منهم معدات حفر كالفأس مثلا أو عربة نقل ناتج حفر بحيث يقومون في الأسبوع الأول بنقل أتربة أو رمال من موقع أ إلي موقع ب وبعد إنهاء هذا النقل تطلب منهم الدولة في الاسبوع الذي يليه إعادة الأتربة من موقع ب إلي موقع أ. فالغرض من ذلك كان تمكين هؤلاء العمال البسطاء من الإمساك بأي مبلغ مالي يتجهون به إلي المتاجر المختلفة لشراء أي سلعة مما يحرك السوق الراكد تماما وبالتالي يدفع السوق إلي الخروج من هذا الحال الكارثي.
وبالطبع فإن أي نظرة تقليدية ومتعقلة لأوجه الصرف من هذا النوع لا تجعله وجها مقبولا، فأموال الضرائب المقصود بها العمل علي خدمة المواطنين وليس العمل علي التبديد بهذا الأسلوب. وبالفعل رفعت دعاوي كثيرة في المحاكم ضد النيوديل وصلت منها إلي المحكمة العليا عدة دعاوي تتهم القوانين الجديدة بعدم الدستورية وبخيانة دافعي الضرائب الذين يستأمنون الحكومة علي أموال ضرائبهم فإذا بها تبددها بهذه الطريقة الغير مسئولة!!
بل أنه من ضمن هذه القوانين كان هناك قانون مثلا بإنشاء هيئة بأموال الحكومة الفيدرالية تقوم بالحلول محل أصحاب المساكن المحملة برهن عقاري وتسدد عنهم الأقساط !!
فكيف يمكن تكييف ذلك وتبريره أمام المحكمة العليا؟
وهكذا وجد روزفلت نفسه في مواجهة مع المحكمة العليا حيث كانت أغلبيتها من المعادين للقوانين التي جاءت بها النيو ديل.