تأليف : محمد السويسي
تعاني مدينة طرابلس اللبنانية من فشل مزمن لنشاط هيئات المجتمع المدني فيها الى الحد ان هذه الهيئات أضحت إحدى أسوأ المشكلات المضافة الى مشاكل المدينة العديدة المتراكمة ، رغم ان معظم العاملين في هذه الهيئات على مستوى علمي واكاديمي عال وفي مراكز تعليمية جامعية وإدراية وإجتماعية ونقابية وإعلامية مرموقة إلا انها فاشلة في النهوض بالمدينة وتحسين وضعها .
ويعود فشل هذه الهيئات لأسباب عدة لم نكن نعرفها في القرن الماضي رغم حضور الدولة القوي والفعاليات والمراجع السياسية والحزبية ومع ذلك فكانت كلمتها مسموعة ونشاطها ملحوظ في خدمة المدينة ومواطنيها بما تملك من خبرة ووعي وغيرة على المدينة .
والفارق بين الأمس واليوم هو أن هيئات الماضي ، بما فيها الجمعيات والنوادي الثقافية والإجتماعية والأحزاب ، كانت تقر بوجود المرجعيات السياسية وتعترف بها على تعددها دون اي سعي منها او محاولة للحلول محلها أو الغائها ، بل على العكس كانت لاتجد حرجاً في زيارة هذه المرجعيات السياسية لعرض مشاكل المدينة وتوسل حلها بالتعاون فيما بينهما .
اما اليوم فقد اختلف الأمر تماماً مع تغير النفوس بتنامي الغرور والأنانية لهؤلاء المثقفين الجدد المغرورين من هيئات المجتمع المدني لفقدان الخبرة وغياب الوعي لديهم الذي يعود الى بداية انفجار حرب السنتين في لبنان من العام 1975 ، التي كانت حرباً من قبل الإقطاع المالي السياسي الحاكم ضد مصالح المواطنين ومكتسباتهم خلال فترة الإنتداب الفرنسي والعهد الشهابي في الستينات ، بتحالف مع الاحزاب المسلحة والمليشيات لاحتكارموارد لبنان لمصلحته دون الشعب .
إذ اعتقدوا وقتذاك إثر احتلال إسرائيل للضفة والقدس وغزة والجولان في العام 1967 وتعاظم المشكلة الفلسطينية واشتداد الصراع بين المقاومة الفلسطينية والوطنية وبين إسرائيل أن لبنان الى تقسيم لحل مشكلتي الجولان والضفة باقتطاع طرابلس وعكار والضنية من شمالي لبنان وضمها لسوريا تعويضاً لها عن الجولان واقتطاع جنوب لبنان ليكون وطناً للفلسطينيين بديلا عن الضفة والقدس .
هذا التصور الخاطىء للإقطاع المالي الحاكم جعله يستعين بسوريا لدخول جيشها الى لبنان بداية الحرب الاهلية ليضع يده على شمال لبنان ويحكم قبضته ، بما مكنهم بالتعاون معه على تعطيل مرافق طرابلس الحيوية بأكملها ، فأغلق المعرض ومصفاة تكرير النفط والسكة الحديد والمنطقة الحرة والحوض الجاف وتراجعت اعمال المرفأ ومصافي مياه الشرب بشكل خطير عدا إغلاق العديد من المصانع المميزة في طرابلس وسرقة محتوياتها وتدمير وحرق بعضها ليحصر نشاط انتاج هذه المرافق بمرافق موازية لها في العاصمة وساحل جبل لبنان بشراكة مع الإقطاع الحاكم والمليشيات ،كما استفادة مرافق صناعية ومرفأية سورية من هذه التوقف والتعطيل على حساب مدينة طرابلس .
خلال أحداث السنتين وما قبلها كانت نشاط هيئات المجتمع المدني واجتماعاتها من نقابات وجمعيات وأحزاب محصورة بالأندية الثقافية لتتطور الى هيئة التنسيق الشمالية التي انتدبت بعض هيئات المجتمع المدني والإداري والعسكري والديني بقيادة حزبية بدءاً ومن ثم بقيادة سياسية فيما بعد .
وبالمقارنة بين الأمس واليوم فإن هيئات المجتمع المدني في الماضي بنشاطها من داخل الجمعيات قد استطاعت تحقيق خطوات اجتماعية مهمة في إنشاء المستشفيات الشبه مجانية ودور العجزة الخيرية الى حد المعاينات المجانية تماماً حيث كان معظم الأطباء يخصصون يوماً او يومين اسبوعياً لمعاينة الفقراء دون مقابل عدا المساعدات الإجتماعية من تقديم اموال للمحتاجين وأدوية ومواد غذائية بشكل دوري شهري .
اما اليوم فإننا نجد أن دور الأندية الثقافية قد انحسر عن النشاط الثقافي من ندوات ومحاضرات وعن استقطاب هيئات المجتمع المدني لعقد اجتماعاتها والمشاركة بها لاسباب عدة منها ان بعضها ، اي الأندية وقادتها ، قد جيّر نفسه لمراجع سياسية معينة لتامين التمويل اللازم لنشاطاته المتواضعة وربما لمصالح شخصية من توظيف لعائلته او بعض اقاربه او في سبيل الحصول على منصب بلدي او وزاري او نيابي مستقبلاً ، كما وان هيئات المجتمع المدني التي تنامت كما الفطريات في الجسم المريض اصبحت تفضل عقد اجتماعاتها في المقاهي الي أضحت سمة المدينة مع تنامي الفقر والبطالة فيها بسب تعطيل جميع مرافقها الحياتية عمداً من قبل الطبقة الرأسمالية الحاكمة .
وبالمختصر فإن دور هيئات المجتمع المدني في خدمة المدينة قد سقط عندما قدمت مصالحها الشخصية على المصلحة العامة الى الحد الذي ركب فيه بعضها موجات الغوغاء بانتهازية مفرطة في معارضة اي عمل أو مشروع يقدم عليه اي سياسي او بلدي فقط من اجل حب الظهور مع تجييش الإعلام المفتوح الذي اصبح متاحاً لاي شخص في اعمال التضليل بترافق مع لغة سوقية من الشتم والسب لكل المسؤولين دون أي قيم اخلاقية ، لم يسبق للمدينة ان اعتدتها بما يندي له الجبين ، في سبيل فرض رأيهم الباطل اكثر الأحيان لضعف رأيهم وضحالة عروضهم ومشاريعهم إن وجدت .
ولو استعرضنا نشاط هيئات المجتمع المدني على مدى سنوات عدة فإنها نجدها فارغة المحتوى لاقيمة لها سوى المزايدة على المسؤولين دون تقديم اي مشروع مقابل المشاريع والاعمال التي يعترضون عليها وكأنها تحاول ان تفرض نفسها بديلاً عن المؤسسات والإدارات بخفة وعدم مسوؤلية متجاهلة واجبها الاساسي في العمل على اجتثاث الفقر من خلال التعاون مع الجمعيات المختصة او إنشاء جمعيات جديدة في هذا الشأن كما فعل من سبقها .
كما السعي الى ترميم المدينة الأثرية القديمة في استقدام الجهات العالمية وفق الأصول المعروفة والتعاون مع الجهات الرسمية والبلدية لتحقيق هذا الأمر لتمويله بدل تركه للجهلة والناشئة وعديمي الخبرة من الإنتهازيين الذين يمنعون اي تطوير أو تجديد فيها ، بينما هي تتقادم وتتساقط دون اي محاولة لترميمها وتجديدها سوى بالصراخ والعويل على المواقع الالكترونية للإصلاح الكاذب دون اتخاذ اي خطوة جدية في هذا السبيل .
لذا على المجتمع المدني الذي اضحى بمعظمه منبوذاً من الناس مع افتضاح مراميه وخداعه واهدافه في البروزالإعلامي ان يكف عن اعمال التهريج التي يمارسها والإلتفات الى التعاون الجدي مع البلديات والجمعيات النشيطة والقيادات السياسية بأعمالها الإيجابية ،دون التزلم عندها ، في سبيل مساعدة الفقراء وإطعامهم وتقديم الإعانات المالية والطبية لهم ، وفي سبيل النهوض بالمدينة والعمل على نظافتها لتصبح مدينة سياحية نموذجية بمعني الكلمة بترافق مع توجيه الجهد نحو إعادة تشغيل مرافقها المعطلة التي لايمكن للمدينة ان تنهض او تزدهر إلا بعودتها للعمل خاصة وان مشاريع فصل طرابلس عن لبنان والحاقها بسوريا قد ذهبت الى غير رجعة .