تأليف : محمـد السويسي
تعتبر مدينة طرابلس الفيحاء أهم مدينة في التاريخ القديم والمتوسط في صناعة السفن الحربية والتجارية التي كانت تعتبر سراً صناعياً أخذه الفنيقيون عن أهل طرابلس في صنع مراكب الصيد قبل خمسة الآف عام ثم طوروه لبناء سفن حربية ضخمة وتجارية كبيرة .
ورغم أن مواقع الفنيقيين التجارية امتدت على معظم مرافىء البحر المتوسط ، من كيليكيا حتى بلاد المغرب العربي ، إلا أنهم ظلوا على صناعة سفنهم في مدينة طرابلس اللبنانية نظراً لبراعة أهلها في هذه الصناعة ، كما زيادة في الحرص على عدم كشف سر تصنيعها إن شاعت في اكثر من مرفأ ، بالإضافة لتوفر المواد الأولية فيها التي سآتي على ذكرها في السياق .
لقد اكتشف الفنيقيون سر صناعة السفن الطرابلسية بالصدفة لدقة ملاحظتهم وذكاءهم . إذ كان مرفأ طرابلس أحد أهم محطاتهم التجارية في البحر المتوسط لشراء ونقل البضائع المختلفة من الأقمشة والسمون والزيوت والعسل وحرير القز والمواشي المختلفة والجمال والخيول .
عدا الحمضيات والفواكه ، حيث كانت تشحن الى مرافىء سوريا وتركيا ومصر، التي اشتهرت بها مدينة طرابلس الفيحاء بسهولها الممتدة من الميناء حتى الرفاعية وحتى أطراف المنية والبحصاص .
ولكن مع ازدهار الصباغ الأرجواني من أصداف الموريكس ، الذي اكتشفه الفنيقيون وبرعوا به وأصبح له سوقاً رائجة في بلاد الرومان الذي انحصرت صباغته بثياب النبلاء الحريرية نظراً لكلفته العالية .
اخذ الفنيقيون يتوسعون في البحث عن أصداف الموريكس على طول الشاطىء اللبناني ، خاصة في مدينة جبيل التي اتخذوا فيها قلعة ووضعوا حامية عسكرية داخلها لحماية الباحثين عن هذه الأصداف وتجميعها ضمن القلعة .
ومع توطنهم في مدينة جبيل اتجهوا الى طرابلس للبحث عن مزيد من أصداف الموريكس عند شواطئها فاحتاجوا الى عدة مراكب صيد صغيرة استأجروها للغطس بحثاً عن الاصداف .وقد فوجئوا بهذه المراكب ، إذ بدت وكأنها مصنوعة من قطعة واحدة من الخشب لعدم وجود اي فواصل داخلها او مادة صمغية من القطران أوالقار الاسود لمنع النش أو تسرب المياه لجوفها .
ومع ذلك فقد كانت جافة تماماً من داخلها بما أثار عجبهم فشرعوا يبحثون عن سر ذلك . إلا أن أهل طرابلس كانوا حريصين على عدم فضح سر صناعتهم ، إذ كان الساحل السوري بأكمله حتى فلسطين بما فيها غزة يشتري مراكب الصيد من طرابلس نظراً لمتانتها وحسن صناعتها وعدم تسرب المياه اليها .
لم يهدأ بال الفنيقيين بحثاً لمعرفة سر صناعة سفن الصيد الطرابلسية ، إلا انهم شكّوا بأن تكون مصنعة من تجويف لإحدى انواع الشجر الضخم المجهول لديهم ، فأوصوا على سفينة تجارية كبيرة لنقل البضائع استلموها بعد عدة اشهر في عرض البحر ليفاجأوا ايضاً بأنها مصنوعة بنفس مواصفات المراكب الصغيرة دون اي فواصل فيها او مادة صمغية داخلها مما زاد من دهشتهم لاستحالة وجود أشجار ضخمة بهذا الحجم لتجويفها ، ولتتأكد شكوكهم إثرها بأن هناك سرٌ ما وراء تصنيع هذه السفن السحرية ، خاصة وأنها كانت تتميز بصواريها الخشبية المتينة الصلبة الرنانة كما وسورها اللماع .
عندها عرضوا الشراكة على صاحب مصنع هذه السفن بأن يشتروا كل إنتاجه السنوي دون انقطاع ، من مراكب صيد صغيرة وبواخر كبيرة بربح وفير ، شرط أن يسمح بمشاركة مجموعة من عمالهم بصناعة هذه السفن لتسريع العمل والإنتاج ، ودفعوا له خمسة الآف ليرة ذهبية مقدماً كعربون شراكة فوافق على الفور .
ليتبين لهم من خلال العمل سر صناعة هذه السفن وليبدأوا بالإنتاج الوفير حيث أقاموا حوضاً جافاً ضخماً غرب مرفأ طرابلس الحالي مقابل جزيرة عبدالوهاب ليرتفع عدد العمال الى ثلاثمئة عامل لتبلية طلبات اليونان ومصر وسائر مدن البحر المتوسط للسفن التجارية ومراكب الصيد الصغيرة بعد أن تعرفوا الى متانتها .
ومع ازدهار صناعة السفن في طرابلس عمت شهرتها الآفاق ليرتادها التجار وتزدهر تجارتها وخاناتها لاستقبال الزائرين والسياح والمهاجرين من مختلف الأمصار والبلدان القريبة والبعيدة مما زاد من ثراء سكانها مع لطف هواءها ومناخها وتوفر الغذاء فيها .
وقد عمت شهرتها في صناعة السفن حتى العهد الأموي حيث أوصى معاوية لشراء مئتي سفينة حربية من طرابلس فازداد عدد العمال بما يتناسب والتسريع في انتاج هذه البواخر ليتم تسليمها الى الامويين خلال ثلاث سنوات تم ارسالها تباعاً الى مرافىء اللاذقية وطرطوس وجزيرة أرواد حيث انطلقت جميعها نحو بيزنطية لتنتصر على الروم في معركة ذات الصواري في العام 655 ميلادية ليصبح العرب سادة البحر على معظم الساحل الشرقي للبحر المتوسط .
ظلت صناعة السفة التجارية والحربية سراً لدى الطرابلسيين في مقاومة تسرب المياه الى حين بدء حملة إبراهيم باشا منطلقاً من مصر نحو بلاد الشام غازياً في العام 1831. وكان همه الاول عندما وصل إلى طرابلس هومعرفة سر بناء السفن الطرابلسية .
إذ كان والده محمد على باشا والي مصر قد انشأ قبل أعوام ترسانة في الإسكندرية لبناء السفن الحربية تعويضاً عن تلك التي فقدها في معركة نافارين التي كان قد اشترى معظمها من بلاد أوروبية وبعضها من صنع مصر . إلا ان شهرة متانة السفن الطرابلسية جعلته يهتم بالأمر ويوصي ابنه الإستعانة بالطرابلسيين ومعرفة سر صناعتهم لهذه السفن .
بالفعل فإن ابراهيم باشا جاء خصيصاً الى طرابلس مع مجموعة من صناع السفن المهرة على رأس قوة عسكرية حيث اقتحموا موقعاً لصناعة هذه السفن . وبعد التحقيق اكتشفوا سر صناعتها ، الذي احتفظ به الطرابلسيون لآلاف السنين ، ليتبين أنها كانت تصنع من أخشاب شجرالسنط ، اي من شجر الجميز الضخمة التي كانت تزرع عند مداخل الميناء والمنية وباب الرمل والبداوي وشارع رياض الصلح ، الذي لازال يعرف حتى الآن بشارع الجميزات . وقد بلغ عدد أشجارالجميز وقتذاك اكثر من ثلاثة آلاف شجرة . أما الصواري ودرابزين السفن التجارية والحربية والصواري فكانت تصنع من شجر الأرز الذي لايتأثر بملوحة البحر وكذلك خشب السنط .
وميزة أخشاب شجر السنط انها إذا رُبطت قطعتين منها ونقعت في الماء لعدة ايام فإنها تلحم مع بعضها وتتعشق بحيث تصبح قطعة واحدة لايمكن فصلها ، وبالتالي لايخترقها الماء .
وكان الطرابلسيون يصنعون سفنهم من خشب السنط ثم يغطسونها بأكملها في بركة ماء ضخمة لعدة ايام لتلتحم ألواحها مع بعضها ولتصبح السفينة وكأنها قطعة واحدة دون حاجة لأي مادة صمغية تطلى بها من الداخل .
ومع معرفة إبراهيم باشا بهذا السر الذي نقله الى مصر، أمر باقتطاع جميع اشجار الجميز من طرابلس والمنية وحمّلها بالبواخر الى مصانع الإسكندرية البحرية كما اقتطاع الآف أشجار الأرز من أجل صناعة الصواري لسفنهم .
ورغم ذلك فقد ظلت طرابلس على صناعة سفنها مواكبة التطور الحديث الى حين مرحلة الإستقلال حيث أهملت الدولة المدينة وبالتالي الحوض الجاف الذي كان بها لتتوقف هذه الصناعة إلا من سفن الصيد الصغيرة وبالتالي اختفاء أشجارالجميز منها نهائياً .