Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

قصة ابن الخواجة

$
0
0

محمد بن إسماعيل المقدم

بسم الله الرحمن الرحيم

(1)

كانت البداية في أواخر القرن التاسع عشر.. كان الخواجة إبراهيم أفندي عبد الملك يعيش في منزله بحي الظاهر بالقاهرة.. ومن حوله أسرة كبيرة العدد من الأقرباء والأصهار.. فقد كان التقليد المتبع في تلك الأيام هو أن تتجمع الأصول والفروع في مساكن متقاربة.. تأصلت هذه العادة في القطر المصري وفي غيره من الأقطار العربية المجاورة.. وكان يميز حي الظاهر بأنه كان يسكنه أسر الناس القدامى في مصر.. وكان الخواجة إبراهيم عبد الملك يسكن منزلاً متوسطاً رقم 72 شارع الظاهر.. وكان لقب الخواجة حينئذٍ يطلق على وجهاء الأقباط ورجال الأعمال.. ومن هؤلاء كان إبراهيم أفندي عبد الملك الذي احترف تجارة الجملة والوكالة بالعمولة.. وكان قد اتخذ مقراً تجارياً بحي الجمالية يقضي به يومه كله.. فهو مشغول دائماً بأعماله الكثيرة لكسب رزقه ورزق أسرته الكثيرة العدد.. وهو لا يستقر في داره إلا يوماً واحداً هو يوم الأحد.. وفي هذا اليوم من كل أسبوع كان أفراد الأسرة كلهم يجتمعون إلى مائدة الغذاء بعد عودتهم من الكنيسة.. حتى الذين يقيمون في القاهرة بعيداً عن حي الظاهر كانوا حريصين على حضور هذا الاجتماع العائلي الدوري حرصهم على أغلى ما يملكون.. وكان الخواجة إبراهيم عبد الملك قد رزق بأربعة أبناء من الذكور هم بحسب ترتيب أعمارهم عبده (أكبرهم).. ونسيم وفهيم وسليم.. كما أنجب عدداً آخر من البنات اللاتي حرص على حسن تربيتهن حرصه على تعليم أولاده الذكور وإلحاقهم بالمدارس وتوفير ما يلزم لهم.. حتى اشتهر بين أقربائه بأنه رب أسرة كادح ناجح.. وكان عبده ابنه الأكبر مجتهداً ذكياً.. لم يتخلف في دراسته سنة واحدة.. حتى وصل إلى السنة الثالثة الثانوية.. التي صرفته فيها ظروف بالغة الخطر.. ترتب عليها أن تخلف للإعادة.. فكيف تخلف الطالب الذكي المجتهد عبده إبراهيم عبد الملك في امتحان البكالوريا وهو كان رمزاً للتفوق ومثالاُ يحتذى بين أقرانه؟.. ولماذا حدث ما حدث ولم يعهد عليه ضعف أو تراخٍ فضلاً عن الرسوب في الامتحان؟.. إن الإجابة على هذين السؤالين تضعنا على الطريق إلى صلب الموضوع..

(2)

كان بعض نظار الثانوية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.. كانوا يتبعون أسلوب الخلايا العلمية.. وهو أسلوب تربوي يقوم على أساس التآلف بين الطلاب .. وذلك دون تحديد عدد معين ودون محاولة الربط بين خلية وأخرى.. إذ كان القصد من ذلك هو مجرد تشجيع الطلاب على التجمع في صحبة أو مجموعة.. ليكون نشاطهم العلمي والاجتماعي أجدى من الناحية التربوية.. مما لو ترك الطالب في مرحلة المراهقة وأول النضج فريسة للوحدة في نزهته حبيساً في حجرة استذكاره بداره.. وهكذا اجتمع بقدر الله مجموعة من ثلاثة أشخاص.. اجتمع محمد توفيق صدقي .. و أحمد نجيب برادة .. و عبده إبراهيم عبد الملك.. في خلية واحدة تآلف أفرادها وانسجموا ثلاثتهم.. فانتظموا في عقد دراستهم من أول الدراسة الثانوية.. فما أن وصل ثلاثتهم إلى السنة الثالثة الثانوية.. حتى غدت أواصر المودة بينهم قوية تشد بعضهم إلى بعض.. حتى اشتهروا بين زملائهم بذلك وعرفوا بما يحملونه لبعضهم البعض من مشاعر الحب والإخلاص والاحترام.. وكان محمد توفيق صدقي أيسر حالاً من الجميع.. وتقع داره في جنينة (لاز) المتاخمة لجنينة (ناميش) بحي السيدة زينب.. وكان في الدار في المدخل من جهة اليسار منظرة (مضيفة أو غرفة ضيافة) تكاد تنفصل هي وجميع مرافقها عن البيت كله يسمونها حجرة الضيافة.. أما أحمد نجيب برادة فقد كان رقيق الحال.. كفله عمه بعد وفاة أبيه.. فلم يكن الصحب يغشون دار عمه في الحلمية إلا نادراً.. مع أن الدار كانت فسيحة على الطراز القديم ولها صحن فيه بئر ودلو.. لكنها في النهاية لم تكن دار برادة ولكنها دار عمه الذي يرعاه بديلاً عن أبيه.. أما عبده فقد كانت داره كما قلنا بالظاهر.. بعيدة عن السيدة زينب وكذلك عن الحلمية خاصة بمعايير المواصلات في ذلك العهد.. ذلك فضلاً عن وقوع حجرة عبده الخاصة في الطابق الثالث مع الأسرة.. هكذا وجد الثلاثة أنفسهم متفقين بغير اتفاق على تفضيل منظرة صدقي للقاء.. لقصد الاستذكار وما يصحبه من صخب الشباب أحياناً.. وقد زاد من كفة ترجيح هذه المنظرة قربها من المدارس الثانوية فضلاً عن المدارس العليا.. لكن الأمر لم يسلم برغم ذلك من أن الصحاب الثلاثة كانوا يغشون دار عم برادة بالحلمية أحياناً مضطرين لظرف أو آخر.. وكان في صحن الدار كما سبق بئر ودلو.. فكانوا إذا وجبت الصلاة قام صدقي وبرادة فتوضأ كل منهما بدوره ثم أقاما الصلاة.. وكان عبده من دونهما يرقبهما بعض الوقت وهما يصليان.. ويتشاغل عنهما بالنظر في أوراقه ما أتيح له ذلك.. وبتكرار هذه المواقف من وقت لآخر خلال السنتين الأولى والثانية من الدراسة الثانوية.. قام في نفس عبده تساؤل عنيف عن سلوك صاحبيه..

(3)

قام في نفس عبده تساؤل عنيف عن سلوك صاحبيه .. فقد رآهما كثيراً وهما يسعيان في اهتمام بالغ للتطهر حال سماعهما للأذان .. بل ربما قبله استعداداً للصلاة.. وهما يقفان في خشوع وخضوع مهيب أمام ربهم ثم يركعان ويخران للأرض سجداً في هيئة تدل على تمام عبوديتهما لربهما.. ثم إنهما يكرران ذلك بشكل إيماني رائع.. حتى إذا جلسا للتشهد وفرغا من الصلاة وسلما عن يمين وشمال.. أقبل كل منهما على أخيه يدعو له بقبول العبادة في محبة وود ورجاء.. فكان عبده في كل مرة يسأل نفسه ترى هل هما وفريق المسلمين على حق أم على باطل؟.. فإذا كانوا على الحق فما حقيقة دينه إذاً؟.. وإذا كانوا على الباطل فلماذا لا يصحح لهما عقيدتهما؟.. وكيف مرت الأيام هكذا وثلاثتهم يخلص لبعضهم من غير أن يناقشوا هذا الأمر؟.. وهل ساور زميليه نفس الخاطر الذي يساوره الآن فمنعهما الحياء؟.. فإذا كان ذلك كذلك فلماذا لا يبدأ هو بالحديث معهما؟.. وتشجع عبده فأفضى إليهما بقلقه من وجود خلاف بينهم كجماعة متحابة متماسكة في أمر جوهري كهذا؟.. وبخاصة أن هذا الخلاف لم يكن باختيار أحد منهم.. وإنما وجدوه بينهم بحكم التوارث فحسب.. فهو مثلاً لا يفعل كما يفعلون لأنه جاء إلى هذه الدنيا من أبوين يدينان بالنصرانية.. ولو أن أبويه كانا من أسرة مسلمة لما وجد هذا الخلاف.. ثم إنهما كذلك لا يذهبان إلى الكنيسة في يوم الأحد .. ولا يفكران في شيء من ذلك لأنهما ولدا في أسرتين مسلمتين ولو أنهما وجدا في محيط نصراني لما وجد هذا الخلاف.. قال عبده: ليس هذا ما ينبغي أن يكون عليه الشأن بين إخوة جمعهم رباط العلم وملأ قلوبهم مشاعر الحب والصفاء.. وإنه لمن الإخلال بواجب المودة الخالصة من الشوائب الموجودة بيننا أن تستمر الحال هكذا على ما بيننا في هذا الأمر الهام من خلاف.. فلا بد أن يكون زميلاي مخدوعين أو أن أكون أنا جاهلاً بما يؤمنان به.. نهض عبده من مجلسه وتقدم قريباً من البئر.. وتبعه صاحباه ينظران ما شأنه.. فقال أرياني كيف تفعلان؟.. وأعيناني كما تفعلان في رفع الماء من البئر وصبه على أطرافكما وهل لذلك قواعد وأصول عندكما؟.. فأجاباه إلى ما طلب وهما يعجبان مما فعل.. وأجرى عبده الماء على يديه ووجهه وذراعيه ورأسه وقدميه في تجربة بدائية.. لم يكن يستهدف منها إلا الوقوف على شيء غامض في داخله.. وربما وجد إجابة للسؤال الذي يحيره منذ حين.. وهو ما حكمة صب الماء على أطراف الجسم مع التكرار؟.. ولاحظ عبده من التجربة أن أول الآثار التي أصابته من جراء صب الماء على أطرافه أنه أحس بنوع لذيذ من الانتعاش واليقظة والانتباه ملأه ابتهاجاً وثقة بالنفس.. فعاد يسأل هل سبب ذلك الانتعاش وتلك الثقة هو ما أراه بعيني الآن من نظافة يدي ومنافذ وجهي وطهارة رجلاي وطيب رائحتهما.. إن في الأمر سراً خافياً عليه لا يزال .. لكن ما صنعه ليس مجرد عبث صغيرٍ كما كان يراه من قبل.. وإنه ليرى من وراء هذا الصنيع بعض المعاني الكبيرة التي لا يحزبها عنه أو يحزبه عنها إلا جهله بهذا الدين الإسلامي.. فطلب منهما أن يحدثاه عن حكمة الوضوء وأركانه وسننه ونواقضه.. وعن حكمة القيام والقعود والسجود وتكرارها.. ولم يكن صاحباه في هذا السن على قدر واسع من الإحاطة بفقه دينهما مما جعلهما يدركان بأنهما ليسا في منزلة تؤهلهما لإجابة شافية لسؤاله.. وقد أحس هو بذلك حين سكتا.. فقال: أنتما مقلدان وأنا مقلد.. ولا خير فينا جميعاً مالم ندرك فائدة وحقيقة ما نختار.. فهلا تعاهدنا جميعاً على البحث في حقائق الدين وأسباب الخلاف الذي نحن فيه.. برغم ما نحسه جميعاً من حب وود يجمعنا.. فكان العهد الوثيق الذي أخلص له كل من عبده وصدقي بصفة خاصة إخلاصاً صرفهما معظم أيام السنة الدراسية عن دروسهما.. أما برادة فأقتصد في الوفاء بهذا العهد لأنه كان يرى أن حاجته الكبرى كانت في اختصار الضيافة التي فرضتها الأحداث على عمه..

(4)

وهكذا استغرق عبده وصدقي في الاطلاع دون برادة في الاطلاع على ما وصلت إليه أيديهما .. من المراجع والكتب الباحثة في الدين وفروعه .. على حين توقف الثالث على كتبه دون كل شيء.. ليس غريباً إذن أن نرى برادة وحده يحصل على شهادة البكالوريا في ذلك العام على حين تخلف عبده وصدقي للإعادة.. وذلك بسبب انشغالهما بالبحث في الدين.. لا بد أن هذه الظاهرة المفاجئة لكل من عبده وصدقي قد أثارت الأقاويل والشبهات حولهما.. بل إن الأهل قد تهامسوا فيما بينهم بأن عبده وصدقي قد انحرفا وغلبت عليهما الأهواء.. وجد صدقي أن ثقافته في الدين ليست إلا قشوراً.. وشعر بأن وصف عبده له في البداية أنه مقلد هو أقل ما يقال في حقه.. فتعلق بدراسات شتى تقربه من معرفة دينه.. وبدأ يهتم بأخبار ندوات العلوم الدينية ومجالسها والمحاضرات العامة وأماكنها.. فنشأت بينه وبين فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله علاقة زادت مع الأيام ثباتاً وعمقاً.. وكان عبده كثيراً ما يصحب الشيخ في هذه المجالس ثم ينصرف بعدها إلى التأمل والموازنة بين ما حوته المراجع التي تتكلم عن الأديان من زاوية ثم غيرها من زاوية أخرى.. فدخل في مرحلة الشك من أمر اتباع دين معين لمجرد توارث هذا الدين في تتابع الأيام.. وناله من الهم ما لم يكن منه خلاص إلا بمزيد من البحث والتأمل.. وانقضى العام ونجح عبده وصدقي والتحقا بمدرسة الطب .. وزاد اقترابهما من شدة تمسكهما بالوفاء بعهدهما .. على حين قد سار برادة شوطاً حتى قارب نصف المسافة في دراسة القانون.. إذ كان قد التحق منذ حصوله على شهادة البكالوريا بكلية الحقوق..

(5)

لم ينفرط عقد الصحاب الثلاثة ولم يتنكر أحدهم للموثق الذي واثقوه.. وإنما اقترب اثنان منهما بحكم الزمالة في مجال واحد ومدرسة واحدة.. وفرض على الثالث أن يتفرغ لتخصص قائم بذاته.. كانت تجربة الرسوب مريرة فاعتزم الصاحبان أن ينصرفا عن كل راحة ولهو بريء.. وأن يقسما الوقت والجهد بين علوم الطب وعلوم الدين.. وتقدما من المقدمات التي تتحدث عن وظائف الأعضاء إلى ما هو أعمق في تخصصهما.. حتى حصلا على قدر من المعرفة بجسم الإنسان من دراسة التشريح.. وكان عبده بوجه خاص ينهل من المراجع العلمية.. ليروي ظمأه ويرفع غلته.. لا ليحصل على إجابة تفتح له باب المهنة والحصول على وظيفة.. بل لأنه كان يعاني من ظمأ قاتل.. لا يكسره إلا شيء من العلم بحقائق هذا الكون.. ولو في بعض ما احتواه.. كان يصعد النظر في السماء ويدور ببصره من حول هذه الأجرام.. التي يخطؤها عد الإنسان قطعاً.. ثم يرتد البصر حسيراً.. إذ تقوم بينه وبين حقائق هذه السماء الدنيا حجب من الجهل التام في فرع من المعرفة لا يستطيع أن يقترب منه.. ثم يعود إلى جسم الإنسان وقد تهيأت له ظروف الإمعان في دقائقه.. والغوص في خفاياه فيشبع نهمه إلى المعرفة هنا لعله يدرك من دراسة هذا المخلوق الذي يسمى الإنسان شيئاً لا يزال يجهله وهو قدرة الله سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان على هذه الصورة.. وقد كانت في نظره صورة مذهلة تدل على قدرة لا تحيط بها الأبصار.. وتعلقت آماله بأن يكو ن حقاً أن البصائر تدركها.. وهنا بدأ يفكر أن هذه الظاهرات المادية التي سمع عنها.. كالتجسد والميلاد وأكل الطعام والصلب.. يجوز أن تكون كلها أو بعضها مقبولة من حيث المبدأ إذا أضيفت إلى جسم الإنسان الحادث الزائل عن الوجود.. أما إضافة شيء من ذلك إلى خالق فذلك أمر يدفعه حاكم العقل بالفساد.. وتأباه الفطرة السليمة فضلاً عن القوة العاقلة المدبرة..

(6)

يقول أحمد نجيب برادة: لم يكن الإسلام بعيداً عن صاحبنا وزميلنا عبده.. منذ تفرغه لدراسة الأديان قبل اجتهاده لنيل الثانوية العامة، وأثناء دراسة الطب.. لكن دراسة التشريح نحواً من ثلاثين شهراً.. نقلته من حال إلى حال.. فقد تملكه خوف من لقاء الله وهو في جهالته وتردده بحقيقة البعث والتوحيد والثواب والعقاب.. لتعامله مع الجثث وبقائه مع الموتى.. فاجتمع إلى صاحبيه.. وقال بأنه آمن بالذي هما والمسلمون عليه.. وبأنه سيبدأ بما هو مستقر من إجراءات لتوثيق وشهر إسلامه.. فزع صاحباه من هذه العجلة.. وقالا له: استمع إلينا أيها الصديق جيداً.. أنت تعلم حبنا ووفاءنا لك.. وأننا سنخلص لك النصيحة حتماً.. وأنت الآن بينك وبين التخرج ومدة الامتياز عامان ونصف العام.. وهذا الأمر الذي أنت مقدم عليه متعجلاً .. ستكون له أثار خطيرة وشديدة على والديك وإخوتك وأهلك.. وأقل ما سيلحقونه بك من ضرر هو ضربك وطردك من البيت ومحاربتك.. وأنت بكل ذلك ستعرض مستقبلك للبوار.. وهذا الدين القويم الذي رغبت فيه يأمر بالحكمة والتعقل.. فالرأي عندنا أن تتمهل.. وأن تستخفي بدينك حتى تتخرج وتكون لك وظيفة تكسب من ورائها رزقاً.. ثم إنك في حاجة إلى مزيد من الدراسة والله يعلم صدق نيتك فيما تدعيه.. فأنت عند الله إن شاء الله من المقبولين ما دامت قد صحت نيتك.. فلا تتعجل التوثيق وشهر الدين الجديد.. حتى تكون العلانية مأمونة لك.. ورضخ عبده لهذه النصيحة.. لكنه وجد تعلقه بهذا الدين يشتد ويقوى لحظة بعد لحظة.. ويوماً بعد يوم .. وهو لا يستطيع كتمان هذا النور الذي بات يشعشع في مسامه.. وينير عقله وقلبه.. فعاد يتصرف دون الرجوع إلى صاحبيه.. حتى لا يشيرا عليه بما يكره من صبر وكتمان.. فعكف على القرآن يتلو آياته كلما وجد من الوقت فسحة وفراغاً.. وحرص أن يكون في جيبه دائماً.. وأخذ يؤدي من الصلوات ما تيسر له في خفاء خارج البيت أحياناً.. وفي حجرته داخل البيت إذا أمن على نفسه أحياناً أخرى.. ومضى عامان إلا قليلاً .. وهو يتعجل الأيام لتمضي وليتحقق حلمه.. وبدأت مدة الامتياز وهي أقل من عام.. وحل شهر رمضان..

(7)

وحل شهر رمضان.. بروحانياته وبركاته.. فاعتزم طبيب الامتياز أمراً.. وما عاد بعد الآن يستشير فيما وضح له من الحق أحداً أبداً.. كانت هناك عادة مقدسة في منزل والده إبراهيم عبد الملك أفندي وهي غداء الأحد.. الذي يتفرغ فيه الأب للاجتماع بجميع أولاده.. تخلف عبده عن حضور الغداء من يوم الأحد.. (لشهر رمضان).. على غير ما جرت به عادته وعادة الأسرة كلها.. وسأل عنه أبوه ظهراً وعصراً ومساءً.. ولكن عبده لم يحضر إلى داره إلا في ساعة متأخرة من الليل.. فقيل له إن الأسرة كلها قلقة لهذا التخلف.. وإن الظنون ذهبت بهم كل مذهب.. وكان رده أن الأعمال في قسم الاستقبال كانت كثيرة على غير المألوف والمتوقع لها.. وقد اعتذر عن الحضور زميلان له.. فقضى اليوم كله في مواجهة الحالات العاجلة التي كان ينبغي لهما استقبالهما لو حضرا.. وجاء الأحد الذي يليه.. وتوقف الخواجه إبراهيم عن أن يذوق طعاماً أو شراباً.. حتى يصل ابنه الطبيب.. وطال انتظاره له ساعات وساعات حتى غلبه النوم.. فقام إلى فراشه مكتئباً.. وقد داخله هم لا يعرف من أين أتاه.. أو هو يعرف ولكنه يناور نفسه هروباً من مواجهته.. حتى فزع بآماله إلى الكذب.. وعند منتصف الليل جاء الطبيب إلى الدار.. وعليه من آثار الإجهاد ما يظنه في نفسه شفيعاً.. واتجه إلى حجرته بخطوات متعبة.. وتبعته أمه وهي تقول له.. أين كنت اليوم بطوله يا بني.. إن أباك لم يذق طعاماً ولا شراباً اليوم.. لأنه يكره أن يكون مكانك خالياً من غداء الأحد.. وهذه هي المرة الثانية التي يتكرر فيها ذلك على التوالي.. فهلا ترفقت بنفسك وبأبيك وبنا جميعاً فيما تقبله من واجبات بسبب تخلف زملائك عن نوبات عملهم.. بل هلا رحمت أباك وترفقت به بعد أن تقدمت به السن.. وترفق عبده بأمه وهو يجيبها إلى ما سألته.. لكنها عادت تسأل وهو مرهق مجهد.. فقال لها: يا أماه.. وحشد لها من صنوف المعاذير ما يظنها اقتنعت به.. وهما لا يزالان في حوار.. وإذا بمساعده في المستشفى يطرق الباب.. ويطلب حضور الطبيب إلى المستشفى على عجل.. لوقوع حادث كبير تضاعفت بسببه الحالات لذا تعين استدعاء كل الأطباء.. وكان عبده لم يكن قد مضى على حضوره ساعة وبضع الساعة.. قضاها في حوار مرير مع أمه .. ولم ينل قسطه من الراحة ولا حتى بعضه.. ولكنه طلب من أمه أن تعينه على استبدال ملابسه ليمضي مع مساعده الذي لا يزال واقفاً بالباب.. ثم انصرف الطبيب مع مساعده ولفهما الليل.. ولف المكان سكون مبهم من ذلك النوع الذي ينبأ بقرب هبوب عاصفة قوية.. وفي الليلة الثانية جاء من المستشفى من يستدعي الطبيب عبده.. لأن الطبيب المناوب قد اعتذر فجأة.. وبعدها تكرر الطلب في جوف الليل من جديد مرة بعد مرة.. وتنوعت الأعذار.. حتى جاء يوم الأحد الثالث.. وأبوه يتابع ولا يتكلم.. فقد غشيه من الهم غاشية لا قبل له بها.. وعلى مائدة الغداء جلس ينتظر ابنه ساعات.. وبه من الهم والهواجس والشكوك مايهد كيانه ويزلزل وجدانه.. وتحامل الأب على نفسه وهو ينهض بعيداً عن المائدة فاختل.. لولا أن أعانه بنوه .. وأمرهم أن يجلسوه على مقعد مقرب لباب الدار.. وبقيت عينه شاخصة لكل قادم.. لكن ساعات طويلة مضت وهو على ما هو عليه حتى قارب الليل أن ينتصف.. وصارت الدار في سكون حزين مبهم.. وأقبل الطبيب الذي تخلف عن غداء الأحد ثلاثاً متواليات.. فألفى أباه جالساً لا يزال لدى مدخل الدار..

(8)

أقبل الطبيب الذي تخلف عن غداء الأحد ثلاثاً متواليات.. فألفى أباه جالساً لا يزال لدى مدخل الدار.. فتمالك نفسه وحياه.. ولكنه لم يرد التحية.. وبادره قائلاً: أين كنت طوال اليوم.. قال الطبيب متلطفاً: في المستشفى كعادتي يا أبي.. وساد بينهما الصمت فترة حتى تمالك الرجل نفسه.. وقال في هدوء مصطنع: إن أمرك يا بني لم يعد خافياً علي.. خاصة بعدما تكرر غيابك كل يوم أحد.. ولقد اجتمعت عندنا دلالات خطيرة عن سلوكك في العامين الأخيرين.. وهي دلالات قد أثارت في نفسي ظنوناً تكاد تقتلني حسرة على ما آل إليه أمرك.. وما صرت عليه من حال.. فهلا حدثتني بحقيقة الخبر.. وصدقتني القول.. فإني أجد الحقيقة مهما بلغ سوءها أرحم بي مما أنا فيه.. قال الطبيب الشاب: إني محدثك بالصدق يا أبي.. فما هي هذه الدلالات والظنون التي تشير إليها.. قال الوالد: كتاب المسلمين.. !! وجده الكواء في جيبك من نحو عامين.. وقد كتمت الأمر ظناً مني أنك سعود إلى صوابك ورشدك.. فتنتهي عما أنت فيه.. وها هو الكتاب فانظر إليه جيداً.. أليس هذا الكتاب يخصك.. أجب أيها الضال.. سكت الطبيب لحظة ثم قال: لا يا أبي.. الكتاب يخصني فعلاً.. فثارت ثائرة الأب لجرأته، وعاد يقول: وأخوك سليم.. لقد رآك من ثقب الباب وأنت تقوم وتقعد على غير هيئة الصلاة عندنا.. ولقد حدث أمه بما رأى فكذبته ونهرته.. لكنها راقبتك بنفسها.. وقد ثبت عندها صدق مقالة أخيك.. ألم تفعل هذا حقاً حين تخلو بنفسك في حجرتك بداري؟ سكت الطبيب وقد بدا له أن الأمر جد ما بعده جد، وعاد الأب يقول: لقد أصابني من ذلك ما لا قبل لبشر باحتماله، ولكني كنت أوثر الصمت وأحمل ذلك كله في حبك للعلم والمعرفة، حتى كان الأحد الذي مضى من ثلاثة أسابيع، ثم الذي بعده ثم هذا اليوم الأسود حين حصل غيابك اليوم كله، وتكرر غيابك بالليل، لقد ظننت أن هذا التتصرف الغريب من جانبك له صلة بهذا الشهر الذي يصومه المسلمون الآن.. والمسمى بشهر رمضان.. فهل أنت تفعل فعلهم أيضاً أم هي المصادفات؟ وفوجيء طبيب الامتياز الغارق في البحث والتطبيق العلمي والتدريب التطبيقي العملي .. بهذا الموقف من أبيه.. وما جره عليه اتخاذه القرارات بمعرفته منفرداً.. وإصراره على أداء العبادات قبل أن يستقل بحياته كما كان ينصحه صاحباه.. لكنه رأى وقد انكشف له الأمر أن قد آن له أيضاً أن يستريح..

(9)

فوجيء طبيب الامتياز الغارق في البحث والتطبيق العلمي والتدريب التطبيقي العملي .. بهذا الموقف من أبيه.. وما جره عليه اتخاذه القرارات بمعرفته منفرداً.. وإصراره على أداء العبادات قبل أن يستقل بحياته كما كان ينصحه صاحباه.. لكنه رأى وقد انكشف له الأمر أن قد آن له أيضاً أن يستريح.. وأن يفرغ من حالة القلق التي كان يعيشها منذ عامين أو يزيد.. وأن ينفض عن كاهله هذا العبء الذي أرهقه.. فأقبل على والده مشفقاً عليه وعلى نفسه وهو يقول له: لقد وعدتك يا والدي أن أكون صادقاً معك وألا أخفي عليك شيئاً مصيره إلى العلانية حتماً.. وإنما أردت أن أؤخر حديثي لك في هذا الشأن حتى تخف واجباتي في المستشفى ثم سكت لحظة عاد بعدها يقول: ولكن مادمت الآن تستعجل حقيقة الأمر فاعلم يا أبي هداني الله وهداك.. أني بالبحث الدقيق الواعي قد علمت أن هذا الدين الإسلامي هو الحق.. وأنه قد بعث نبي بالقرآن كما بعث الأنبياء قبله بالكتب.. قاطعه الوالد مستسلماً: ودينك الذي عليه آباؤك وأجدادك؟ كيف وجدته؟ وفي أي المراتب صنفته أيها المجنون العاق؟ لابد أنك قد فقدت عقلك أيضاً حين فقدت دينك، قال الشاب: أي ضير ياأبي يصيب الأديان السابقة إذا جاء دين يصحح ويتمم الذي جاءت به الأديان من قبل؟ وعاد أبوه يسأله: هل تعرف ما تتكلم عنه أيها الشيطان؟ أم أن في الأمر سراً نجهله؟ أم أنك على علاقة بفتاة مسلمة اشترطت ألا تدخل في دينها إلا إذا دخلت في دين الإسلام؟ إذا كان الأمر كذلك يا بني فترفق بي ولدينا من جميلات بنات النصارى ما يسرك؟ وكلهم عندنا طوع البنان، إن ما أحدثك فيه أمر سهل وطلبك فيه مجاز، أما أن تدعي على صغر سنك أنك قد تعلمت، ووازنت بين الأديان وهديت لما تراه الحق منها، فهذا جهل فاضح بتعاليم دينك، إن المسلمين يا بني لا يعرفون الأقانيم ولا يؤمنون بأن عيسى الرب المخلص، أبانا يسوع الذي في السماء، وهم لا يعترفون بالمسيح الحي وهم وهم وهم ... واستمر الوالد يعظ ابنه وهو يحسب أنه يجهل حقائق دينه، وصبر الطبيب برهة حتى أتم والده كلامه، وتقدم منه خطوة وقد استجمع ما تفرق من نفسه لحظة المفاجأة، وقال لوالده: والآن أرجو أن تستمع إلي ياأبتاه؟ لقد درست هذا كله وأنا في المرحلة الثانوية، ومعذرة إذا قلت لك بأن وقتك لا يسمح بالتعمق في شيء من ذلك، فأنت مشغول دائماً بكسب معاشنا جميعاً وأنا أكبر أبنائك، ولا أزال عبئاً عليك إلى وقتنا هذا، وأنا يا أبي أقدر لك جهادك من أجلنا، وأحبك لما أنت عليه من فناء في سبيل المحافظة علينا، وإن أقل ما أسديه لك من معروف ان اتولى عنك وعن إخوتي دراسة هذا الخلاف بين الأديان، وها أنا ذا قد فعلت واهتديت إلى الحق بإذن الله، وأنا كبير الأمل أن يهديك الله أنت والأسرة، فتنجون جميعاً من عذاب الله، ولست أظن أن والدتي وإخوتي يتخلفون عنك، أو يختارون طريقاً غير الذي تختار، هذا الأمل الكبير يا والدي هو الذي تعلقت به نفسي لإنني أكره أن أخالفكم إلى طريق ناجية، وأن تنتهي همتي عند إنقاذ نفسي فحسب، وإلا أكون جاحداً لفضلكم علي، وصبر الوالد ما صبر حتى انفجر في ولده الذي لم يكتفي فقط بمجاهرته بإسلامه بل تحول إلى داعية إلى دينه الجديد، وهو الذي كان يظن بفرضه الخاص أنه مجرد فرد ضل الطريق أو مجرد متهم بترك دينه ودين الآباء، وانفجر الأب في ثورة عارمة أيقظت كل من في الدار، فجاءوا جميعاً ينظرون،

(10)

ثار الأب يلعن ذلك اليوم الذي ابتلي فيه بهذا الابن الضال، الفاعل للعقوق والعصيان الجريء في ضلاله وبهتانه، وأحاط الأبناء والزوجة بالأب يهدأون من روعه بعدما رأوه من اشتداد غضبه وما هو عليه يقرر بالغضب ويلقي بالشتائم وينذر بالتهديدات، ويتوعد بالويل والثبور، وأدرك الولد بسرعة أن الأمر لن يقف عند هذا الغضب وأن العاقبة لابد وخيمة، وأنه في مصارحته للأب، قد ارتكب عدة أخطاء لا خطأً واحداً، فاندفع إلى خارج الدار لا يلوي على شيء، واندفعوا خلفه يسبونه ويقذفونه بالأحجار، ولم يكن ذلك ما يؤلمه رغم شدته، لكن ما آلمه أنه لم يحمل معه قلماً ولا قرطاساً، ولا شيئأً من لوازمه، وتنبه فإذا هو في الطريق العام، فسار مسرعاً جاد الخطوات لعله يبتعد عن حي الظاهر كله، وقد خشي أن يلاحقه أبوه وبعض إخوته وأهله، وإذ أوغل في الطريق واقترب من حي ساهر، كما اعتاد الناس في شهر رمضان أحس بحاجة ملحة إلى الهدوء، لعله يلتقط أنفاسه، وطرقه مقهى عامراً بالرواد، فتنحى منه ناحية، وجلس يتأمل أحداث هذه الساعة من الزمان، كيف بدأت وكيف انتهت إلى ما انتهت إليه، وتحسس جيبه ليعلم كم معه من نقود قليلة، وقفزت أمامه أسئلة شديدة الإلحاح، الكتب .. المراجع .. ملابسه .. أدوات مهنته .. مذكراته الخاصة .. إنها كلها في حجرته الخاصة، وهو لم يقترب من حجرته مجرد اقتراب في ليلته هذه. فماذا يكون من أمره غداً.. وبعد غد .. وما بعدها من شهور حتى ينهي دراسته ثم يلتحق بوظيفة تعينه على شؤون الحياة .. أدرك الطبيب الموقف على حقيقته بعد قليل من التأمل .. واتجه من فوره إلى بيت صدقي فوصله آخر الليل .. لكن السهر في رمضان شجعه على المضي حتى قابل صاحبه وأفضى إليه بتفصيل ما كان ..

(11)

اتجه عبده من فوره إلى بيت صدقي فوصله آخر الليل .. لكن السهر في رمضان شجعه على المضي حتى قابل صاحبه وأفضى إليه بتفصيل ما كان .. قال صدقي لصاحبه: هذه حجرتك من الآن .. وأراه المنظرة التي كانوا قد اعتادوا الجلوس فيها .. وفي غد إن شاء الله في طريقنا إلى المستشفى ننظر في هذا الموقف المفاجىء .. "إن عبده إبراهيم كان منقطع الصلة بالحياة العامة تماماً .. لانصرافه التام للدرس والتحصيل لمهنته .. وللدين الجديد الذي اعتنقه .. وقد كانت لهذه الحال آثارها في حياته الخاصة من يوم أن خرج من دار أبيه إلى أواخر أيامه بما في ذلك اختيار الوظيفة والبيئة التي تحيط به.. لكنه كان لزاماً أن يجتمع الأصدقاء الثلاثة في اليوم التالي لطرده من دار أبيه وأن يتدارسوا الموقف واحتمالاته.. كان لزاماً أن يجتمع الأصدقاء الثلاثة في اليوم التالي لطرده من دار أبيه وأن يتدارسوا الموقف واحتمالاته.. فمنها استمرار ثورة الخواجة إبراهيم على صدقي وبرادة بسبب اعتقاده بأنهما السبب في غوايته، ثم إنه ومن معه سيلاحقون عبده بالأذى في كل مكان يذهب إليه أو يعمل به أو يقيم فيه، فضلاً عن تسامع الجيران من النصارى بما حدث، وربما امتد السماع إلى الأحياء القريبة المجاورة من مسرح الأحداث، لذا يتوقع أن يكون في حي الظاهر لغط وشائعات، ولا بد أنه سيكون في حي الجمالية وحي السيدة زينب وربما اتسعت الدوائر حول هذه الأقطاب وانتشرت التعليقات والأقاصيص. لكن الخطر القريب هو الصدام المرتقب بين الخواجة إبراهيم وبين صدقي وبرادة، قالا لزميلهما: لقد تسرعت يا عبده في تصرفاتك الخاصة، وأخطأت بما ظننته في نفسك من قدرة على هداية أبيك، ومن بعده بقية أهلك، ولقد أوقعتنا بذلك في مأزق ماكان أغنانا وأغناك عنه في هذه الأيام، قالا ذلك والطبيب الشاب هادئ ساكن يتفكر في قول الله تعالى: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"ولما كان صدقي لم يزل غير صاحب دخل مادي، فقد كان الأستاذ أحمد برادة المحامي يدخر من إيراده ثلاثة جنيهات فرنسية شهرياً، وخصصها لصاحبه عبده، وقد استمرت الحال على ذلك عشرة أشهر حتى اكتمل الدين ثلاثين جنيهاً ردها الطبيب لبرادة بعد استقراره في أول وظيفة، وكان برادة حينئذ أيسر الثلاثة حالاً بعد أن كان الأرق حالاً، فقد سبق صاحبيه إلى التخرج، كذلك كان قد نشط في بعض الأعمال الخاصة بالإضافة إلى وظيفته فهو من تولى تمويلهم في هذه الأزمة، على كل حال حدث ما توقعه الجميع، فالغيورون من أهل عبده سواء منهم الأقربون والبعيدون قد بحثوا عنه حتى وجدوه، وحقاً لم يرهقهم البحث لأنهم يعلمون أنه لا ملجأ له إلا صديقيه وبالذات في المنظرة في منزل صدقي، توافدوا عليه زرافات ووحداناً، وتكررت مناقشاتهم معه وتواكبت ملاحقاتهم له في السكن والعمل، وأراد عبده أن يضع لهذه المناقشات والمطاردات نهاية حاسمة، بدلاً مما هو فيه من المتاعب كل يوم ولحظة، خاصة وأن مستقبله يوشك أن يبدأ على وجه يرضيه، فقال لهم: ما حاجتكم مني، وما هدفكم من مطارداتكم، قال أرشدهم وهو خاله: يا بني إنك فرد مرموق في أسرتنا، وفي جملة القبط كلهم خلقاً وسمعة، ثم إنك توشك أن تكون طبيباً، وهذا الذي فعلت خسارة لا نطيقها، فضلاً عن أنه فضيحة وعار لأسرتك، وللنصارى في مصر وغيرها من بلاد الله فهلا استمعت إلينا، قال: إني مستمع إليك لعلي بذلك أصل معكم إلى حل، يحفظ لي ولكم أوقاتنا ومصالحنا، قال أرشدهم: إن أباك يدعوك إلى الاستماع من رجال الدين إلى كلمة الحق، وهم لابد أقدر منا على تبيان أوجه الضلال الذي أوقعك فيه خصوم ديننا، قال الطبيب الشباب: ما أوقعني أحد في ضلال، فافهموا عني هذا وإنما هداني رب العالمين، قال قائل منهم: إن كنت مؤمناً بفعلتك هذه ببينة وحجة، فماذا عليك لو أنك واجهت علماءنا، قال: لكم ما تريدون، فسألوه عن المهلة فقال: أي موعد تضربونه، قالوا: فعد معنا الآن إلى دارك وهناك نضرب مع أبيك الموعد ليكون برضاه وفي حضوره،

(12)

وافق أن يذهب معهم إلى بيت أبيه .. وقبل أن يذهب توجه إلى الشيخ محمد رشيد رضا .. وكان يختلف إلى مجلسه من وقت لآخر .. ونفض إليه جملة الخبر .. فبين له الشيخ ما غاب عنه .. وأيده بالأدلة من الكتب القديمة بوجه خاص .. كإظهار الحق ومقامع الصلبان، وشروح أهل الكتاب، وكيف يرد على شبهاتهم .. وذهب في الموعد لدار أبيه .. لقد أنفق أبوه عن سخاء لإنقاذ ولده الأكبر عما هو فيه .. وليمنعه مما هو مقدم عليه .. إلى أن أتى الموعد المضروب لرجال اللاهوت .. فعجل والده بجلسة سريعة يمهد بها للجلسة الكبرى .. فربما يرجع الابن عن قريب .. بدأت الجلسة هادئة .. والكل ينصت لما يدور من قرع الحجة بالحجة .. والنصوص حاضرة تتلى من مراجعها .. على مسمع من الجميع .. ولم يعد كبير مجال للتهوين من تصرف الطبيب الشاب .. على أنه رأي فرد ضال كما ذكرمن قبل من أنه وقع تحت جو عام من الإغراء الذي أحاطه رفاقه به .. وأدرك الحاضرون أن الأمر في غاية الجد .. فشددوا هجومهم .. لكنهم وجدوا لكل سؤال جواباً .. ثم وجهت لهم منه أسئلة مضادة .. استشعروا وهم يجيبون عنها أن ألسنتهم كانت تلوك العبارات في غير وعي ولا تعقل .. و كانت مناقشة طويلة جداً جداً .. من أقوى المناظرات في نقد عقائد النصارى .. عكست مدى تعمقه في تلك الفترة في دراسة العقائد النصرانية وأيضاً في دراسة الإسلام .. و تكلم فيها كلاماً مفصلاً جداً وألجمهم فما استطاعوا أن يردوا عليه بكلمة واحدة .. ومما ناقشوه: التجسد، الأقانيم الثلاثة، البنوة، جرأتهم على الأنبياء، دعوى أبوة الجسد ليوسف النجار، الصلب وأصله الوثني، والقيامة .. وفي الإسلام: حقيقة الوحي، حقيقة القرآن، حيرة أهل الكتاب من إعجاز القرآن، وكان يسرد الكلام بأسانيد علمية في غاية القوة .. فأنهوا الجلسة ... واتفقوا أن يخرجوا بقرار هو أن يحشدوا له فريقاً من أكبر علمائهم حتى يناظره في جلسة تالية .. حتى بلغ من تأثير الطبيب عليهم أن باتت القضايا التي كانت عندهم يقيناً معلقة .. حيث قالوا عنها هذه معلقة لا نستطيع أن نرد عليك فيها .. واهتزت النصوص التي طالما حفظوها على شفاههم .. وعادت أسئلتهم من عنده بغير معنى .. وأيقنوا أن اللجنة قد عجزت .. فماذا كان الجواب؟؟ أعلنوا في هذه الجلسة على الجميع .. أن عبده إبراهيم عبد الملك ابن الخواجه إبراهيم عبد الملك من أسرة كذا التابعة لكنيسة كذا قد حلت عليه اللعنة الأبدية في هذه الكنيسة ما لم يرجع إلى رحمة أبينا يسوع المسيح مخلصنا وراعينا وأن اللجنة رحمة به وحنواً على أبيه المسكين قد منحته فرصة العودة إلى دين آبائه وأجداده بالحضور يوم الأحد في ذات المكان أمام عدد من الآباء لنصحه وهدايته نسأل إلهنا وأبانا ... إلى آخر كلامهم من الشرك والكفر .. لقد كان بعض الحاضرين من النصارى متشوقين إلى استمرار الجلسة .. من شدة تعطشهم إلى سماع إجاباته والاستزادة من علمه .. فقد سمعوا لأول مرة فكراً جديداً ونقاشاً فريداً ودفاعاً عنيداً .. جعلهم في شوق إلى معرفة نتيجة محددة .. خاصة لما رأوا القساوسة قد عجزوا أمام هذا الفرد .. الذي تخلف عن السير في موكب آبائه وأجداده .. فهاجوا وماجوا وتدافعوا وتصايحوا .. لكن كبير الجلسة نصحهم بالهدوء حتى لا يشرد منهم هذا الخروف الضال .. ووعدهم بأن يوم الأحد قريب .. وأنه جمع للمباهلة فحول علماء أهل الكتاب والمفسرين وخبراء التبشير الراسخين .. فهدأت ثائرتهم ولكن إلى حين .. وجاء يوم الأحد الموعود ..

(13)

جاء يوم الأحد الموعود.. واحتشد الأهل والأقارب .. وكل من يهمه الأمر ليرى هزيمة هذا الطبيب الذي خدع وصبأ عن دينه الحق .. إلى دين المسلمين .. وهم يهددونه ويتوعدونه لئن لم ينته عما هو مقدم عليه ليمزقنه إرباً .. ويصيرونه عدماً .. وأن هذه هي الفرصة الأخيرة ما لم ينصع إلى دين يسوع المسيح.. ثم انبرى كبير القساوسة في الجلسة .. وهو يتطاول في كرسيه يتيه على الحاضرين بما حفظه ولقنه قريباً في الكنيسة.. فقال من كلام الشرك والتثليث ما هو من دينه .. ثم رد عليه الطبيب الشاب فقال: بسم الله الرحمن الرحيم.. إله واحد .. فرد صمد .. لم يلد ولم يولد .. ولم يكن له كفواً أحد .. سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .. فضل المسلمين بالإيمان على جميع الأجناس .. وجعلهم خير أمة أخرجت للناس .. أوحد الله بموجبات توحيده .. وأمجده سبحانه حق تمجيده .. وأومن به وبملائكته وكتبه ورسله .. لا نفرق بين أحد من رسله .. ولا أشرك بعبادته سبحانه أحداً .. وأصلي وأسلم على من جاء بالهدى .. خالص أصفيائه وخاتم رسله وأنبيائه .. سيد ولد آدم .. بعثه ربه في الأميين .. ليخرج البشر من الظلمات إلى النور .. ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة .. وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .. صلى الله عليه وسلم من نبي كريم .. على خلق عظيم .. بعثه الله على فترة من الرسل .. موضحاً للسبل .. داعياً إلى خير الملل .. ملة إبراهيم .. ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه .. وما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً .. وما كان من المشركين .. وإن الدين عند الله الإسلام .. ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه .. وهو في الآخرة من الخاسرين .. فرد عليه أحد القساوسة: عجيب أمرك أيها الفتى الضال .. وعجيب أمر أصحابك الذين أضلوك عن كتابك .. فلقنوك من الكلام ما قد سمعناه منك الآن .. حتى صرت أشد منهم حماساً لدينهم، وأحفظ منهم لآيات كتابهم .. فأصبحنا نراك وأنك قد نسيت دينك ودين آبائك .. وهو الدين الذي عليه نشأت وترعرعت، فربى عقلك وأصلح فساد نفسك .. فرد عليه عبده: والله الفرد الصمد الواحد الأحد .. ما أضلني ولا أغواني منهم أحد .. وإنما هداني إليه ربي .. وساقني إليه فطرتي .. واختاره لي صحيح عقلي .. ودلني عليه عافية نفسي .. فرأيت فيه ما لم أره في غيره من الشرائع والأديان من النور والهدى والحق والصدق فتمسكت به .. ولزمته لأني وجدت فيه تمام عقلي وصلاح أمري .. ومنطلق فكري وشفاء روحي .. وجواباً راجحاً لكل سؤالي .. فليس هذا الدين كدينكم .. الذي يمجد الفقر .. ويسوغ الذل .. ويورث العقل الخلل .. ويحيل المرشد سفيهاً والمحسن مسيئاً .. لأن من كان في أصل عقيدته التي جرى نشوءه عليها الإساءة إلى الخالق .. والنيل منه بوصفه بغير صفاته الحسنى .. فأولى به أن يستحل الإساءة إلى المخلوق .. فكيف أترك ما هداني الله إليه من الكمال والنعمة .. بعدما بان لي من جهلكم وتحريفكم لدينكم .. ولست مجادلكم إلا بالتي هي أحسن .. فما في الإسلام من حث على مخاصمتكم ومعاداتكم .. بل هو أرحم عليكم وأحنى حتى من دينكم لكم .. فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم .. ألا نعبد إلا الله ولا نشرك بعبادة ربنا أحداً .. صاح أحدهم: بل نقرعك الحجة بالحجة .. فإن كانت لنا الغلبة عدت إلى دين الخلاص .. وإلا تركناك تتخبط فيما مسك من جنون .. فتكون من الخاسرين الذين تصيبهم لعنة الرب إلهنا يسوع .. قال الطبيب الشاب: قبلت التحدي .. ووالله إن ضلالاتكم قد سارت مسير الشمس .. وبواطلها قد لاحت لعيون الجن والإنس .. فوالله لا يخذلني الله أمامكم .. وأنتم قوم غيّرتم فغيّر بكم .. وأطعتم جهالاً من ملوككم .. فخلطوا عليكم في الأدعية .. فقصدتم البشر في التعظيم بما هو للخالق وحده .. فكنتم في ذلك كمن أعطى القلم مدح الكاتب .. على حين أن حركة القلم لا تكون بغير الكاتب .. وها أنا ذا على قصور سني وإغفال المطالعة أقبل منازلتكم .. فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين .. ......... ودار حوار طويل جداً .. لثلاثــــــــــــــــــــــــــــــــــــة أيـــــــــــــــــــام .. .........

(14)

لقد أحرجهم الطبيب جداً .. حتى كانوا كل جلسة يستعينوا بقساوسة جدد .. بعد أن وقعوا في حصار أسئلة لا يستطيعون الإجابة عليها .. وأمام حجة لا يملكون الصمود أمامها.. وفي نهاية الحوار .. قال عبده: فماذا أقول لكم .. وقد جئتم لتقولوا لي فقلتم وقلت .. وأضللتم وأوضحت .. وكذبتم وصدقت .. ودعوتم علي ودعوت لكم .. وأهنتم محمداً صلى الله عليه وسلم وعظمت عيسى عليه السلام .. وحاولتم طعن القرآن فما استطعتم .. وحاولتم ستر كتبكم فانكشفتم .. وأنهكتموني علّي أضل، وأنهكت نفسي علّكم تهتدون .. وقد آذيتموني بأيديكم وتلطفت معكم بكلامي.. وهاهو اليوم الثالث ينقضي .. وقد اهتزت في نفوسكم عقيدتكم .. وثبتت في نفسي عقيدة الإسلام .. وأنا أعلم مما علمنيه ربي في القرآن أنكم لن ترضوا عني حتى أتبع ملتكم .. ولكن كيف أبيع الهدى بالضلال، وأشتري الباطل بالحق .. ولكنكم أهلي وعشيرتي .. وقد أمرني ديني الجديد .. أن أصحبكم في الدنيا معروفاً .. فهلموا إلى دين الله لتربحوا .. قال تعالى: (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً )) أسأل الله أن يكشف ما بكم من الضلالة وأن يتلقاكم بالهداية .. وصدق الله تعالى إذ يقول (( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)) صدق الله العظيم .. وما كان الطبيب الشاب يفرغ من تلاوة الآية .. حتى أدرك الجميع أنه قد خرج من حظيرة الكنيسة .. إلى غير عودة .. فتدافعوا يفرطون في إيذائه .. ولم ينتهوا عنه إلا حين علا صوت الكاهن الكبير .. وهو يعلن فيهم أن اللجنة قد أيقنت بأن عبده إبراهيم عبد الملك ابن الخواجه إبراهيم أفندي عبد الملك من أسرة كذا التابعة لكنيسة كذا قد حلت عليه اللعنة الأبدية وأنه مطرود من رحمة أبينا، يسوع المسيح مخلصنا وراعينا، وأنه .. الخ من كلامهم الذي يقولونه في أمر كهذا .. ولكن مأساة الطبيب الشاب لم تنته بعد .. فقد ذاق (أمرّ) البلاء .. مع الطرف الآخر أيضاً .. مع (المسلميــــــــــــــن) فإلى جانب آخر من حياته ..

(15)

ما كاد الكاهن الكبير يلقي بيانه .. وقد تعلقت الأنفاس من رهبة الموقف .. حتى حل الهرج والمرج محل السكون والوقار .. وارتفع الصخب فجأة بأخلاط من الأصوات .. فهذا نحيب وهذا نواح وهؤلاء رجال أفزعهم المصير الذي ينتظر فتى كان من خيرة شبابهم .. الذين كانوا يباهون بهم المسلمين .. وتلك نسوة تجمع بين البكاء وبين أقبح الأصوات .. وإذا بالطبيب الشاب يشهد للمرة الثانية موقفاً مزعجاً في نفس المكان .. فقد كان فوجئ بقرار المحكمة قبل تمام المحاكمة .. ولذلك بقي في مكانه مشدوهاً حال تلاوة البيان .. وإذ بدأ الهرج والتدافع بالأيدي والمناكب .. تسلل من مجلسه إلى خارج الدار ثم إلى مسكنه المتواضع .. وقد تملكه شعور لم يكن يحس به من قبل .. فلقد رأى لأول مرة رجال الدين الذين يتخذون من الهداية والإرشاد وسيلة لكسب المعاش يتصرفون على نحو أذهله .. فخالطه شعور بالعطف على عامة الناس الذين يلتمسون عندهم الرشاد .. قال الطبيب لصاحبيه: لقد احترمت هؤلاء الناس حين ثبتوا ودافعوا عن أمور خيل إليهم أنها صواب .. وكان ذلك في أول لقاء لي معهم .. ولكن حقيقة أمرهم تكشفت لي في المجلس الثاني .. حين باهلتهم ثلاثة أيام طوالاً أقدم لهم الدليل تلو الدليل .. وأقرعهم الحجة الهزيلة عندهم بالحجة القوية عندي .. وقد كنت أظنهم بما يحملون من مناصب دينية عالية أهل حجة وأصحاب عقل ونظر .. لكنني فوجئت بهم يفرون من الميدان مخافة أن ينكشف ما هم عليه من جهل وصغار .. وإني لأعلم أنهم يأكلون السحت .. ويجعلون رزقهم أنهم يكذبون .. ألا ساء ما يزرون .. قال له صاحباه: أو لم يكف ما لقيته من دعوتك الناس إلى الرشاد، فجئت تخطب فينا .. قم الآن يا رجل إلى كتبك فأقدامك لم تثبت بعد على الطريق .. وعليك أن توفر ما بقي من مراحل في الحصول على الإجازة العلمية .. ومن ثم الوظيفة التي ستقيم أودك .. وكان ما نصحوه به .. فانقطع لدروسه بضعة أشهر كد فيها واجتهد .. حتى تخرج طبيباً يمارس المهنة الإنسانية .. ونظر الطبيب الشاب من حوله باحثاً عن مجتمع يعوضه عن أسرته التي لم تهتد .. فإذا النصارى يحوطونه بنظرات الحقد والمرارة .. وإذا المسلمون يترقبونه في حيطة وحذر .. فرغب في البعد عن الناس طلباً للهدوء .. ومزيد من الاطلاع، فلم يجد خيراً من أن تكون خدمته الوظيفية .. في السجــــــــــــــــــون ..

(16)

بدأ الطبيب الشاب عبده حياته الوظيفية عام 1905 .. طبيباً لبعض السجون بمديرية الجيزة .. فتهيأ له بذلك البعد عن المجتمعات من جهة .. وقربه من القاهرة من جهة أخرى .. كان يقضي ساعات العمل في مكتبة من مكتبات السجن .. وكانت له دار ملحقة بالمبنى ذاته .. وحول هذه الدار حديقة صغيرة .. وعاش حياته بين السجناء متعايشاً معهم .. لكنه كان في وحشة شديدة في دخيلة نفسه .. وأشار إلى زميله صدقي أنه يريد أن يستقر في دار وأسرة .. فإن رزقه الله بزوجة صالحة .. فإن حديقة السجن ستكون في تقديره جنة نعيم .. وقد ذكر لصاحبه مواصفات معينة يريدها في زوجته .. أخلف صاحباه شروطه ظناً منهم أن موضوع الزواج سيستمر .. عند اختيارهم لزوجة له ليست على ما اشترط .. فلما رآها نفر منها جداً .. وكان قد أعلن حفل الزواج بعد أيام قليلة .. هذا الحدث أحدث ردة فعل شديدة جداً على أهل خطيبته .. وبدأوا ينشرون إشاعات كثيرة جداً حوله انتقاماً منه .. وأشاعت أسرة الخطيبة أنها قد اكتشفت أن عبده كافر متلاعب .. وأن له زوجة وأولاد من دينه الأصلي .. وقد اكتشفوا ذلك وغيره مما لا يجب التكلم عنه، وهم لذلك رفضوه وطردوه .. تناقلت الأسر فيما بينهم هذه القصص والشائعات .. وكل من يسمعها كان ينقلها بعد أن يضيف عليها كل جديد وغريب .. وأنه كان أول من رأى وعاين وتأكد واكتشف بذكائه على غير ذلك مما يظن الرواة أنه يزيد الرواية غرابة وحبكة .. استفحلت الأقوال وحصل لصدقي وعبده إساءة شديدة في الحي والمنطقة .. وتناهت الأخبار مشبوهة إلى شيوخ الحي وأفاضل سكانه .. كان من هؤلاء الشيوخ البارزين والعلماء المعروفين .. الشيخ عبد الحميد مصطفى .. وكان قد درس العلم في الأزهر الشريف .. حتى خيف على بصره من شدة طلب العلم .. فتوقف عن الدراسة بأمر الأطباء واشتغل في المقاولات .. فلقي في عمله توفيقاً .. وقد اشتهر في حياته الخاصة بين أهل الحي بكرمه وكرامته وصدقه في معاملته وحسن عشرته للناس وصلاته .. وطبعاً وصلته الأخبار المشوهة والشائعات السيئة .. فاعتبرها عبثاً صغيراً من شباب غير مسؤول .. وعدها استهانة من صدقي بكرامة أسرة محافظة .. تعرضت بها سمعتهم للقيل والقال .. وأنه لا بد أن يعاقب هذا المستهتر هو وصاحبه على ما اقترفاه في حق الفتاة وفي حق أسرتها، باختصار شديد .. دبر موعد للشيخ عبد الحميد حتى يحل هذه المشكلة وينقذ سمعة البنت وأسرتها .. التي أساء إليها برفض الخطبة وإلغاء الزواج .. وكان كلما حاول الشيخ مقابلتهما كانا يمعنان في الهرب منه .. إلى أن أحكم الحصار وتمكن الشيخ من مقابلة صدقي .. فلم يبق مفر من المقابلة والحساب .. وأمسك الشيخ بيد الطبيب صدقي واقتاده إلى مكان معروف جلسا فيه لتصفية الحساب .. وقال له: كيف سمحت لنفسك ولزوجك أن تفعلا ما فعلتما؟ وأنت الآن طبيب مسؤول تؤتمن على خصائص الناس؟ بل إنك ربما عرفت بحكم تخصصك من أسرار الناس ما لا يعرفه غيرك؟ أية جناية هذه يا بني؟ وأي خطأ ارتكبته في حق أهلك وجيرانك من أجل صداقتك لهذا الكافر المارق؟ صبر الطبيب الناشيء صدقي لهذا .. وكان يحترم الشيخ لسنه ومكانته وصداقته لأسرته .. فقال له: عفواً سيدي الشيخ فهلا سمعت القصة كما وقعت؟ فشهدت لي بالبراءة مما أثاروه حولي وحول زوجتي وصاحبي .. وحسبي عقاباً لي في وساطتي ما وقع علي من ظلم في شائعاتهم.. قال الشيخ عبد الحميد: أجل أسمع منك .. على ألا تقول غير الحق ولا تنطق بغير الصدق .. وأنا أحذرك يا صدقي من محاولة خداعي فلست بالخب ولكن الخب لا يخدعني .. قال : بل أصدقك القول يا عم وكل ما أرجوه منك أن توسع لي في صدرك حتى أتم حديثي .. فنحن لم نجرب منك إلا العدل ..

(17)

شرح له صدقي القصة كاملة .. فقال له الشيخ: ما اسم صديقك؟ قال: اسمه عبده إبراهيم .. قال: وما كان اسمه قبل أن يشهر إسلامه؟ قال: عبده إبراهيم عبد الملك .. قال: أفلا اتخذ اسماً جديداً يدل على فضل الله عليه أن هداه للإسلام؟ قال: هذه فعلاً واحدة من نظراته الخاصة .. وقد نصحه بعض المحبين له وأنا منهم أن يتخذ له اسماً علماً شاهداً على إسلامه .. فاعتذر إلينا بأن الإيمان الحق إنما هو ما يستقر في القلوب وتصدقه الأعمال .. فلا يرى الإسلام أسماء ولا لافتات كعناوين الكتب والمتاجر .. فقال الشيخ: لو تأتيني بصديقك في الغد؟ وبالفعل أتاه به في موعد اللقاء .. وكان تعارف رائع أعقبته مقابلات مع الشيخ .. وكان يحصل حوارات بين الشيخ عبد الحميد وبين عبده إبراهيم في كل مرة .. وتنوعت الأحاديث والمناقشات والأبحاث العلمية .. وكان الشيخ كل مرة يكتشف في عبده صفات جديدة من الصفات الطيبة .. زاد التلطف من الشيخ والمحبة الوثيقة والمودة بينه وبينهما .. وقد كان الشيخ يثني عليه ثناءً عطراً أمام صدقي .. فلفت صدقي نظر عبده إلى ذلك .. وقال له: إني أراك قادراً على كسب ثقة الشيخ ومحبته .. ولئن كنت وصلت إلى هذا الحد من الود والثقة فإني لأرى لمشكلتك الكبيرة أحسن الحلول .. فضاق عبده بهذه الإشارات البعيدة .. فقال لصاحبه: كم من الوقت أضعنا في تأملاتك وفي الفروض والاحتمالات فأرجوك أن تفصح عما تريد أن تقوله .. قال صدقي: إن للشيخ ابنة في سن الزواج، وهي كالتي طلبت في شروطك .. ولئن قدر الله لك أن تحافظ على مودته واحترامه لك على ما أرى في لقاءاته الأخيرة .. فإنه لا يرفضك خاطباً فيما أظن .. فقال له: ما أراك إلا جننت، أي أمر هذا الذي يراودك .. وعلى أي أساس يجوز لي أن أفاتح رجلاً فاضلاً كهذا في أمر مصاهرتي له ... وبعد نقاش طويل .. تقدم عبده خاطباً بنت الشيخ .. وبدأت في حياته وحياة الشيخ صراعات .. ما كان عندهم لها حساب ..

(18)

تسامع الناس أن القبطي صاحب قصة الزواج الأولى قد أوقع الشيخ عبد الحميد في حبائل سحره هذه المرة، فحصل منه على وعد بالمصاهرة، وكان لرب الأسرة على هذا العهد أهبة عالية، لكن زوجة الشيخ ثارت عليه ثورة عارمة، فتركت له البيت وانطلقت إلى أهلها غاضبة، واجتمعت الأسرة بأصولها وفروعها، وألح الجميع على الشيخ أن يراجع نفسه فيما صدر منه من وعد بالقبول، وبدأت الشائعات تسري من جديد، وتوافد الخاطبون ومعهم الشفعاء، لإنقاذ الموقف بتعطيل هذه المصاهرة غير المتكافئة، وضاق الشيخ ذرعاً، فعجل بعقد القران والزفاف جميعاً، وتم ذلك في ليلة أحاط بها الغموض والترقب، وساعد على فتور المناسبة أنه حضر إليها منفرداً إلا من صاحبيه، كذلك قاطعت زوجة الشيخ الحفل وهي أم العروس، وجاملها أهلها فلم يحضر منهم أحد، والشيخ حازم في ما قرره ماض فيما عزم عليه، واتهم الناس الشيخ في عقله، إذ كيف يقبل هذه الصفقة وهو من هو من رجحان العقل والبصيرة، لكن الهدوء المشوب بالقلق ما لبث أن عاد للحي، بعدما تبين أن الشيخ قد أنفذ وعده ووفى بعهده وزوج ابنته للطبيب الشاب عبده، بل إن الناس كادوا ينسون ما حدث بعد سفر الزوجين إلى مقر عمل الطبيب حيث مسكنهما مرت سنة كاملة .. وكانت العادة أن المرأة إذا حملت تعود إلى بيت أهلها حتى تقوم والدتها بعنايتها عند الولادة .. وولدت زوجة عبده الوليد الأول .. وما كان اليوم الأول ينقضي حتى حضر الطبيب الشاب يهنؤها بولادتها .. وقد جلب لها من الهدايا كل جميل .. ولمولوده من الملابس واللعب كل نفيس رائع .. عاد بزوجته إلى المنزل ومضى ليسجل في سجلات الحكومة واقعة مولوده الأول .. ثم ما لبث أن عاد إلى بيته بشهادة ميلاد ابنه .. عيـــــــــــــــسى .. وأقبل على زوجته يرشدها إلى ما ينبغي عليها عمله من احتياطات .. وانصرف إلى عمله بعد أن اطمأن على زوجته وولده .. و جاء الشيخ ليطمأن على ابنته وولده .. فأخبرته بحضور عبده وانصرافه بعدما أثبت اسم الوليد في السجلات .. وسألها أبوها في فرحة .. فماذا اختار لابني من الأسماء .. فأجابته ابنته دون وعي : عيسى .. لكنها رأت من أبيها أمراً عجباً .. إذ ما لبث حين سمع الاسم أن ضرب كفاً بكف .. وقد تغير لونه وتقطب جبينه .. وظهر الغضب الشديد عليه وهو يقول: عيسى عيسى .. وا عجباً لهذا الرجل .. أو لم يجد في كل الأسماء التي خلقها الله اسماً جديراً بهذا المخلوق إلا هذا الاسم .. أستغفر الله العظيم .. أستغفر الله العظيم .. أستغفر الله العظيم .. وانطلق من عند ابنته وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله .. وأحست ابنته أن أمراً عظيماً قد حدث .. وأن خطأ لا يمكن إصلاحه قد وقع .. فما هكذا رأت أباها على طول ما عاشت ورأت .. وباتت فريسة لأفكارها وهواجسها .. أما الشيخ فقد اعتكف في داره أياماً لا يرى فيها أحداً .. وأما زوجته فقد كانت تغالب دموعها .. فقد تحقق للجميع أخيراً .. ظنها البصير بهذا الطبيب وألاعيبه .. وكانت إذا همت بالدخول على ابنتها .. كفكفت دموعها حتى لا تفجع ابنتها بما أسلمها أبوها له من مصير.. وما جناه عليها بعناده وغفلته .. وانخداعه بأساليب هذا الطبيب الذي سحره ... وفي اليوم السابع أضيئت الشموع ذراً للرماد في العيون .. وتمويها على الأم البائسة التي ارتبطت بزوج قيل أنه أسلم بل وحسن إسلامه .. فإذا به يعلن في غير حياء ولا مواربة .. أنه ما زال مخلصاً لماضيه .. ولدينه القديم .. وإلا .. بماذا نفسر اختياره لاسم عيسى اسماً لولده .. ولم يكن اليوم السابع هذا ينقضي .. حتى غرقت أسرة الشيخ في موجة من الهم والحزن فوق الذي كان قد تجمع لها من قبل .. ذلك أن بشيراً من أسرة الطبيب عبده .. جاء من حي الظاهر .. يهنيء الشيخ بمولود عبده الجديد .. عيسى .. ولم يكن بين أسرة الشيخ وأسرة عبده سابق ود ولا اتصال .. وقد كانت لهذه التهنئة منهم معانٍ غير خافية عليه .. لكن الشيخ تماسك واصطنع الثبات اصطناعاً .. حتى كان الغد .. فخرج من الفجر ليلحق بالطبيب عبده في داره .. قبل أن يغادرها إلى العمل .. فإن له معه شأناً ..

(19)

حين فتح الطبيب باب داره للشيخ .. فوجيء به يغلق الباب بعنف خلفه .. وهو يمسك بتلابيبه .. ويقول له : ما هذا الذي فعلت بابنتي أيها الزنديق ؟.. والله لا أفلتك من يدي حتى أعلم حقيقتك .. وقد سكتنا عن التزامك اسمك رغم اعتناقك الإسلام .. وكان يجب أن تغيره إلى ما يدل على إسلامك .. ولقد أحسنا الظن بك وبما سقته من حجج .. كانت تبدو لنا صادقة يوم نطقت بها .. أما وقد انكشف أمرك الآن بتسمية ولدك عيسى .. فاعلم أن اختيارك لولدك هذا الاسم .. له من المعاني ما لا يخفى على أحد .. ولقد كنت أعالج نفسي بالتصبر حتى ألقاك .. إلى أن جاءنا بشير من عند أبيك .. يحمل التهاني التي تنطوي على سخرية أبيك بعقولنا .. وشماتته بمصير ابنتي المسكينة .. التي جنيت عليها حين قبلت زواجك بها .. فتكلم بالحق وإلا قتلتك شر قتلة .. ورأى الطبيب أن الشيخ يهدر غاضباً .. والدماء تندفع إلى جبينه حمراء قاتلة .. والشرر يتطاير من عينيه .. يشير إلى ما في صدره من غليان براكين الثورة .. فبقي بين يدي الشيخ هادئاً ساكناً حتى تمر العاصفة .. لكن حالة الشيخ كانت تنبؤ أنه قد انتوى أمراً خطيراً .. وأنه قد يرتكب جرماً وحشياً تحت وطأة إحساسه بخيبة الرجاء .. إذ كان يبدو عليه أنه استنفد من الجهد ما أضناه .. وأنه سيتصرف مع الطبيب تصرف اليائس منه .. فبادره الطبيب قائلاً : ياعم .. أقسم لك أن الأمر كما علمته من حسن إسلامي .. ولقد أكرمتني بإحسانك إلي إذ قبلت مصاهرتي لك .. فكيف تصورت في نفسك ما نطق به لسانك الآن .. وهل تظن أن ما جرى لي بسبب إسلامي .. وملاحقة أهلي لي .. بالتهديد والويلات والأذى .. وطردهم لي من دار أبي .. وهجري لأهلي .. ولجوئي إلى الحق والهدى .. كان كله تمثيلا وعبثاً .. وهل قدمت لي منذ عرفتك إلا الخير والعون والحب .. فكيف تظنني أسيء إليك أو أجني على ابنتك .. وإذا كان ذلك مما يجوز لي وأنا على غير سبيل الحق .. فكيف أجيزه لنفسي .. وقد عرفت الله ورسوله والقرآن .. يا عم .. إن كنت أردت – بعد ما قلته لك والله على ما أقول شهيد – أن تزيدني إيماناً .. فها أنا ذا بين يديك .. ما تغيرت وما استبدلت .. فأنت صهري وعمي وأبي وأهلي .. وليس لي الآن بعد ولدي من هو أقرب إلي منك .. وستجدني طوع أمرك فيما تظنه صواباً .. وسأقبل حكمك أياً كان .. فهلا منحتني بعض ما قد يكون بقي عندك من صبر .. لعلي أحدثك بما بقي عندي من حكمة اختيار اسم عيسى لولدي .. كانت لهجة الطبيب هادئة .. رغم ما صبه عليه صهره من لوم وتقريع .. ورغم شناعة الصورة التي رسمها صهره .. من فزع أحاط الأسرة .. وأحداث جسام توشك أن تعصف بالجميع .. فلا الطبيب ناجٍ بصورته هذه .. ولا أصهاره سعداء بما يمكن أن يحدثوه به من انتقام لسمعتهم .. التي ألحق بها خزياً ما بعده خزي .. رغم كل ذلك .. قال له الشيخ : تكلم وقل ما عندك .. ولا تخفي عني شيئاً .. ولتعلم أنك قد ألقيتني في الجحيم .. جزاء صنيع المعروف معك .. فابتسم الطبيب وهو يقول : كأنك لا تريدني يا عم أن أتكلم .. قال : بل ها أنا ذا مصغٍ إليك .. واعٍ لما ستقول .. والله وحده يعينني على ما أنا فيه .. قال الطبيب الناشيء: إن بيني وبين ربي عهداً لا يعلمه إلا هو .. وإني أسير على الدرب لا أحيد .. وما وجدت من ربي إلا الفضل يتلوه الفضل .. وفي ظني والعلم عند الله جل شأنه .. أن هذا الحادث الذي أفزعكم حتى آذيتموني .. هو أكبر نعمة من بها الله علي بعد نعمة الإسلام .. تمتم الشيخ في صوت حزين: أكبر نعمة .. تقول أكبر نعمة .. اللهم إنك أنت السلام ومنك السلام .. اللهم أفرغ علينا صبراً من عندك .. ولا حول ولا قوة إلا بالله .. عاد الطبيب يقول: نعم .. قد يكون هذا التتابع في الأحداث بشيراً لي .. بأن الله قد سمع لدعائي فاستجاب .. فله الحمد في الأولى والآخرة .. ثم استطرد يقول .. إنني يا سيدي .. حين تمسكت بنفسي – بعد إسلامي- بالاسم .. الذي كان قد اختاره والدي .. وهو كما تعلم : عبده .. تعلق رجائي بأن يمتد بي الأجل .. حتى أكون كفؤاً لزوجة صالحة من بيت طيب .. وأن أرزق منها مولوداً يكون أول أولادي .. وأن أدعوه : عيــــــــــسى .. وها قد تحقق الرجاء بفضل من الله ونعمة .. وقاطعه الشيخ محتداً : وأي فضل تريدني أن أراه فيما ذكرت ..؟ فارتفع صوت الطبيب الشاب في نبرة تشبه الغضب .. وقال : يا سيدي .. صبراً .. فما أتممت الكلام بعد .. وأنت ترى أن هذه الأمور التي وقعت .. لا تستوقف نظرك .. ولا تثير فيك عجباً .. أما أنا .. فقد رأيت هذه الأمور قبل أن تقع .. آمالاً .. ترتفع يداي في كل لحظة بسببها إلى السماء بالدعاء .. آمالاً .. سهرت من أجلها الليالي الحالكة .. التي أحاطت بي لبضع سنوات مضت .. وإن الله الذي أنعم علي بهذا كله .. لأكرم من أن يرد ما بقي لي من رجاء عنده.. قال الشيخ : وما هذا الرجاء؟ قال الطبيب: إنه إن شئت رجاء .. وإنه إن شئت عهد وميثاق .. إذا نحن أمعنا النظر .. فلقد كنت عاهدت ربي .. إن هو رزقني بصبي .. لأحرصن على تنشئته تنشئة صالحة .. ولأدعون له بطول العمر .. وبالتوفيق إلى ما فيه رضا الله .. وبأن يكون له في حياته ومن بعد مماته .. أحسن الذكر على ألسنة العباد .. ضاق الشيخ ذرعاً باستطراد هذا الطبيب الحدث في سرد أحلامه .. فقاطعه قائلاً: وأي والد لا يرجو لولده مثلما رجوت وأملت .. وأية صلة بين هذا الرجاء .. وذلك الميثاق .. وبين اختيار المسيح عيسى ابن مريم ليكون علماً على ولدك ليكون خيراً كما تقول .. قال: يا عم .. إنني لا أحصي ثناءً على ربي .. ولا أقدر على حمده كفاء ما أنعم به علي .. ولذلك جعلت من وجود هذا الولد .. شهادة تنبض بالحياة .. ما بقيت له الحياة .. بأن (عيسى) .. (عبده) .. وماهو بولده .. وما هو بالإله .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .. فكلما ذكر ولدي الذاكرون غائباً أو حاضراً .. حياً أو ميتاً .. كان ذكرهم هذا شهادة مني بين يدي الله عز وجل .. بأن عيسى عبده .. وما هو بولده .. ولقد استجاب ربي لأول الدعاء .. وهاهو الولد الصغير حقيقة ماثلة بين يدي .. وشهادة مني بما آمنت به .. وإن الذي أسبغ علي هذه النعمة الكبرى .. لقادر على أن يمد في أجله .. وأن يهديه سواء السبيل .. حتى يكون أهلاً لهذه الشهادة .. التي فرقت في حياتي بين ضلال كنت فيه .. وهداية أرجو أن تزيد .. ياعم .. إن الغيب من ضنائن الرحمن .. وإنا لاندري أيكون هذا الصبي صالحاً أم غير صالح .. ولا ندري هل كتب له من العمر ما يطول .. أم كانت الأخرى .. ولكنني أعلم من الله أنه ما خذلني .. ولا أسلمني لأمر لا أحبه .. منذ سرى في أطرافي هذا الشوق من الوضوء أول مرة .. وأنا بعد صبي لا أميز بين عقيدة وأخرى .. يا عم .. إذا فرغت من الشهادة بتسمية عيسى التي أرجو أن تكون شفيعي عند الواحد الأحد .. على نحو ما عاهدت ربي .. فأي الأسماء بعد ذلك يتمم الشهادة .. وهل هناك من اسم يذكر بعد شهادة ألا إله إلا الله .. سوى محمد رسول الله .. لذلك فإني أرجو من الله أن يكون حفيدك الثاني ... (محمد عبده) .. ثم ضحك قائلاً : إن زوجتي لولود .. وإن غداً لناظره لقريب .. قال له الشيخ : انصرف إلى عملك يا رعاك الله .. وإنني عائد إلى حي السيدة زينب .. والله يعلم بما أنا فيه .. إنك تعيش في جو من الصفاء .. لا تعيش فيه كثرة الناس .. وإن أعمالك وأقوالك لا يفهمها .. إلا من أنار الله بصيرته .. وحاط بدين الله من كل جوانبه .. وما أقل هؤلاء في زماننا .. لكنك يا عبده .. قد أتعبتني منذ عرفتك .. ولا إخالك إلا هكذا ما حييت .. عفا الله عنك يا بني .. ثم شد الشيخ على يد صهره مودعاً .. وهو يقول : على إني لا أضيق بيوم التقينا فيه .. ولا أتمنى الآن غير الذي جرت به المقادير .. ثم انصرف .. مرت الأيام .. ورزق الله عبده ولده الثاني .. محمد .. ولم يكن الخواجة إبراهيم قد رأى يوماً أشد عليه من يوم الأحد .. الذي أعلنت فيه الكنيسة خروج عبده عن حظيرتها .. وقرر فيه رجال الكنيسة طرد ولده الأكبر من رحمة يسوع .. وبقيت صورته حاضرة أمام ناظريه .. وهو يهرول مسرعاً إلى خارج الدار .. والجميع يلاحقونه باللعنات والتهديدات .. حتى جاءه الخبر بأن ولده عبده .. قد سمى ولده الثاني محمد .. فكانت القاضية على ما كان بقي عنده من أمل ورجاء .. وفي يوم من الأيام .. عام 1909 .. والأسرة الصغيرة في حياتها الوادعة .. على مقربة من السجن .. والوقت بعد الظهيرة .. والحر قائظ .. والطبيب قد أنهى عمله .. وعاد إلى داره .. وإذا بواحد من مساعديه .. يصعد الدرج مسرعاً .. ويقترب منه .. ويهمس في أذنه كلاماً .. وبدا على وجه الطبيب أنه لا يصدق ما سمع ..

(20)

في يوم من الأيام .. عام 1909 .. والأسرة الصغيرة في حياتها الوادعة .. على مقربة من السجن .. والوقت بعد الظهيرة .. والحر قائظ .. والطبيب قد أنهى عمله .. وعاد إلى داره .. وإذا بواحد من مساعديه .. يصعد الدرج مسرعاً .. ويقترب منه .. ويهمس في أذنه كلاماً .. وبدا على وجه الطبيب أنه لا يصدق ما سمع .. ورفع الطبيب صوته قائلاً: وأين هو الآن .. ؟ قال إنه يقف بباب الدار ,, ونزل الطبيب الشاب مسرعاً من فوره .. وعاد ومعه ضيف من القاهرة .. كان هذا الضيف هو الخواجة إبراهيم .. والد الطبيب .. وقد وصل فجأة .. بعد قطيعة تامة ومتصلة .. منذ كان ولده في فترة الامتياز بالقصر العيني .. فانسحبت الزوجة والمربية والطفلان إلى داخل الدار .. وبقي الطبيب وولده .. لا يجدان عندهما ما يقال .. بعد أن كانا قد تبادلا التحية والمجاملة في اقتضاب .. قال الطبيب: كيف أنت يا أبي .. وكيف حال أمي وإخوتي .. وإذ هم الوالد بالجواب .. احتبست الألفاظ في صدره .. واعتمر رأسه بين يديه لحظة .. ثم انهارت بقية المقاومة .. التي كان يعانيها منذ وقت طويل مضى .. فانفجر ينتحب كالثاكلات .. ولم يحاول ابنه أن يمنعه .. بل تركه برهة .. وأخلى له المكان حتى يفرج عن نفسه وهمومه .. وأقبل عليه حين عاوده الهدوء .. وقال ماذا بك يا أبي .. وكيف أمي وإخوتي .. قال: إنهم بخير نحمد الرب .. ولكن أباك هو الذي على حافة الهاوية .. قال: هون عليك وأشركني فيما يؤودك حمله .. لعلي أكون في عونك .. قال: لهذا جئت إليك .. ولا أخفي عنك أنني ما سعيت إليك .. إلا بعد أن انسدت الدنيا كلها في وجهي .. وكادت الفضيحة أن تحطم حياتي .. ثم سكت لحظة .. عاد بعدها يقول .. وقد تهدج صوته من جديد .. يا عبده .. إن البيت الذي ولدت فيه ونشأت ... حتى أتممت معظم دراسة الطب .. هذا البيت الذي يؤوينا ويتسع لأسرتنا كلها .. سيباع في غد بأبخس الأثمان .. أمام دائرة البيوع بالمحكمة .. وفاء لدين كان للبنك صغيراً .. ولكن الفوائض ضاعفته ولله الأمر .. وأختك يا عبده .. أختك ماريبوه .. ابنتي الكبرى .. سيكون زواجها بعد أسبوع واحد .. ولا أعلم كيف أواري فضيحتي المالية .. وطردي من بيتي عن أصهاري الذين يحسنون بي الظن .. ومن أجل ذلك جاءوا للمصاهرة .. وأي مصير سيواجه شقيقاتك الأخريات .. إذا ما خاب زواج الأولى بسبب إعلان إفلاسي .. وأظلمت الدنيا في وجهه .. وخارت قواه .. فعاد يبكي وينتحب .. في مرارة شديدة .. وسأله ابنه: كم تبلغ القيمة .. قال: ثمانمائة جنيه .. والبيت كما تعلم يساوي أضعاف هذه القيمة .. ولكن جو البيع يسوده ألوان من المناورات والاحتكار البشع .. وإن موظفي البنك أنفسهم يحيطون هذه البيوع بإجراءات جهنمية .. تضمن لهم تسيير البيوع على هواهم .. قال الطبيب: إن هذا لعجيب .. أو ليست المحاكم تقوم من اجل العدل .. قال أبوه : يا بني .. إنك تعيش في برجك العادي بعيداً عما يدور في الأسواق من ظلم وفساد .. إن الدين يا بني يكفي للإطاحة بثروة كبيرة .. وبخاصة إذا مال الأمر لدائرة البيوع .. ومن حوله زبانية يتسمعون الأخبار .. و يتحايلون على كل واحد في المزاد حتى ينسحب .. قال الطبيب : لماذا لا ندفع جزءاً من الدين .. ثم نفكر كيف نتدبر أمر التصفية الشاملة .. قال الوالد : يا بني يا عبده .. قلت لك أن هذا كله قد فات أوانه .. إنني أواجه حكماً بنزع الملكية وفاءً لدين مقداره كذا وكذا .. عفواً يا بني .. لقد أفسدت عليك وقت الراحة .. والجو شديد الحرارة .. ولكن العذر واضح لك .. ولي معك كلمة أخيرة .. أقولها وأنا واثق من أن جميع إخوتك .. يؤيدونها راضين .. وأنت يا عبده أولى من الغريب .. فتعال معي في جلسة البيوع .. واشتر أنت البيت .. قبل جلسة المزاد .. لقاء دفع قيمة الحكم كاملة .. فلا يضع الغريب يده على دارنا .. ويسيء إلى أبيك وسائر أفراد أسرتك .. وأنت لن تلقي بأهلك إلى الطريق .. إن قصروا في دفع الإيجار .. قال الطبيب : لا عليك .. اصبر يا والدي .. وائذن لي بتركك برهة صغيرة .. ودخل إلى حجرته الخاصة .. ثم عاد يحمل شيئاً في يده .. ودفعه إلى أبيه .. وقال هذه ثمانمائة جنيه ذهباً .. هي لك يا أبي فتصرف فيها كيف تشاء .. دهش الوالد من هذا التحول من الجدال إلى الفعل الناجز .. وسأل في تكرار .. والدار؟ متى تحضر لإكمال اجراءات نقل ملكيتها إليك؟ قال: لا حاجة لي بها .. إلا أن تبقى داراً لك انت .. أنت والد الجميع .. ومن مركزك في الظاهر وفي الجمالية .. تستمد الأسرة كلها تقدير الناس .. وإني ليسرني ان تبقى محل ثقة الناس واحترامهم .. وضع الوالد كيس المال بجواره على الأريكة .. وأطرق وهو يقلب عصاه بين يديه .. ويقول في صوت خافت تتجاوب فيه أصداء من الشعور بالخجل والصغار: ماذا صنعت بك وأنا قادر عليك .. وماذا صنعت معي وأنت قادر علي .. وتساقط الدمع من عينيه في صمت ذليل .. حتى رق له قلب ولده فبكى لبكائه .. وانصرف الخواجة إبراهيم بالمال .. ونجا من ضائقة كادت تعصف به .. وعاد الطبيب إلى داره بعد فترة قصيرة .. قضاها في وداع أبيه إلى أن تحرك القطار .. كان الطبيب منهكاً وهو يعود إلى بيته .. وفي الطريق كان يمني نفسه بساعة من نوم عميق .. ولكنه أخطأ الحساب وأسرف في الأمل .. فما إن دخل داره التي تركها من برهة قصيرة .. وغادرها وهي هادئة ساكنة .. حتى سارت مسرحاً لأحداث غريبة تجري سراعاً ..

(21)

ما إن دخل الطبيب داره التي تركها من برهة قصيرة .. وغادرها وهي هادئة ساكنة .. حتى سارت مسرحاً لأحداث

غريبة تجري سراعاً . فها هو يرى المربية .. عاكفة على صرة ضخمة من لوازم الدار .. وملابس الصغار والكبار .. تلفف شيئاً من فوق أشياء .. وبجانبها صرة أخرى فرغت من شد وثاقها ... والصغيران قد وضعا في ثياب الزينة والزيارات .. وزوجته تذهب وتجيء في ركن من الدار إلى درج يؤدي إلى السطح .. وهو يراقب الأمر صامتاً .. حتى رفعت الزوجة ابنها الصغير على ذراعها .. وأمسكت بيد الولد الأكبر .. وحملت المربية صرة بعد أخرى .. واستعد الركب للرحيل .. وتقدمت الزوجة نحو الباب وهي ثابتة على صمتها .. وفي عينيها أثر واضح لدمع تغالبه .. وجاءت المربية من خلف سيدتها .. والطبيب الذي أنهكه عمله طول اليوم .. ومن بعده لقاؤه المثير لأبيه .. ساكت في ضيق وصبر .. فإن الوقت لم يكن مناسباً لإعلان الغضب .. تقدم مدخل الدار .. واعترض سبيل زوجته وهي توشك أن تنطلق .. فتوقف وقال: إلى أين؟ ولا جواب .. والصغير على كتفها .. والمربية تحمل الصرات .. والزوج لا يتحول عن مدخل الدار .. ولا يسمح لزوجته بالخروج .. وهذه حال لا يطول الصبر عليها .. فهبطت الأحمال التي على رأس المربية إلى أرض الصالة .. وتقدمت الزوجة من زوجها قائلة : ابتعد ولا تعترض طريقي .. قال: حتى أعرف إلى أين ؟ قالت: كنتُ واهمة كما أنت واهم الآن تماماً!! قال: كيف ؟ قالت : إن ما بيننا قد انتهى .. قال : وما الأسباب ؟ قالت: ما من سبب ولا غضب .. يكفي أن تعلم بأنك مجنون .. وأنا لا أعاشر المجانين .. لم يكن الطبيب قد سمع من زوجته الوديعة المهذبة كلاماً كهذا في أشد الأيام التي مرت بهما .. وبدا له أنها في حالة من الثورة النفسية .. التي لا يؤمن معها نقاش ولاحوار .. ولذلك لجأ إلى الحكمة .. وخلّى بينها وبين مدخل الدار .. وقبع في زاوية على أريكة يراقب التطورات .. انفجرت براكين الغضب الكامن في أعماق الزوجة .. وأغراها سكون الطبيب .. فسألته في حدة : أعرّفك لماذا أنت مجنون؟ إنك تصبح وتمسي ولا تذكر إلا الموت .. ولا حديث لك إلا عنه .. وأنه قريب من الآدمي .. وكلما خلوت بي .. أوصيتني بولديك خيراً .. إذا سبقت المنية إليك .. فكيف يا ترى تحقق وصيتك فيهم .. إن كنت تتلف المال بهذه الطريقة .. أما علمت أن هذا المال هو حصاد تدبيري طوال سنوات انقضت من عمرك .. في المهنة والوظيفة جميعاً .. ثم سكتت تغالب دمعها حتى ملكها الغضب من جديد .. فقالت: وإلى من دفعت المال؟.. إلى من يحترم أصهارك ويحب ولديك؟ .. إلى من يؤتمن على تربيتهما من بعدك ؟.. إذا وافاك الأجل صغيراً كما تظن ؟.. ثم أقبلت على زوجها .. وجلست في مواجهته وعلا صوتها .. وهي تقول: لقد نظرت في خزانتنا .. فما وجدت إلا حفنة من الدراهم .. وكل ما عندنا من مال للزمن ذهب به أبوك؟ .. فمن أبوك هذا ؟ .. لماذا لم يتذكرك إلا حين أظلمت في عينيه الدنيا؟ .. وسدت في وجهه أبواب الخلاص أوليس أبوك هذا هو الذي طردك من الدار ليلاً كما تقول ؟.. أو ليس هو الذي أغرى بك الكنيسة ليطاردوك .. ويلاحقوك بالأذى وسوء السمعة .. أو ليس هو الذي قاطعك خمس سنوات أو تزيد .. ولا يعلم شيئاً من أمرك .. إلا أن يكون شامتاً بك .. أو ساخراً من أبي الذي آواك .. وزوجك من ابنته .. واستمرت الزوجة تثير له شديد التقريع والتأنيب .. في غضبة جامحة .. والطبيب يتذرع بالصفح .. ويلوذ بالصمت .. وعلى حين كانت الزوجة لا تزال ترميه بحمم الغضب .. كان هو يتفكر في اللقاء الذي كان بينه وبين أبيه .. وقد شعر بأن حق الوالد كان مرعياً في هذا اللقاء .. ولكن ترى ما حال الحقوق الأخرى التي لأولاده عليه ؟.. تأمل الطبيب موقفه من جديد .. وهو يسائل نفسه .. ترى .. هل أصبت في هذا التصرف .. أم أنني قد أصبت في شيء واحد على حين غابت عني أشياء .. وذهبت الزوجة بعد ذلك .. غاضبة إلى بيت أبيها .. وتركته وحيداً .. وبعد ثلاثة أيام .. دخل عليه صهره الشيخ عبد الحميد .. ومعه الأسرة الصغيرة والمربية .. تحمل في العودة أضعاف ما حملته عند مغادرة الدار .. ودخلت الزوجة .. وهي تحمل ابنها الصغير .. وتمسك بالكبير .. وتتجه نحو غرفة النوم .. في صمت وخجل .. وهي تتجنب النظر إليه .. وتختصر في رد المقال عليه .. وانسحبت ومن معها بعد ذلك إلى الداخل .. وبقي الشيخ والطبيب يتحادثان .. قال الشيخ: ما عرفت عن ابنتي أنها كاذبة أبداً .. وإني لأحمد الله على ذلك حمداً كثيراً .. ولقد قصت علي كل ما جرى بينكما في الأيام الأخيرة .. وذكرت لي ما وجهته إليك من أقوال وأفعال .. وتصرفك معها .. ورأت بعد أن سكت عنها الغضب أنها أخطأت من الألف إلى الياء .. قال الطبيب : ما أظنها قد جرأت يا عم .. أن تنقل إليك ما ألقته في وجهي من قصائد المديح والثناء!!.. قال الشيخ: إنني لا أستبعد برغم فقهها .. أن تكون قد اقتصرت حياء مني حين أحست بخطئها .. وعلى أي حال .. فلقد كان القدر الذي ذكرته لي .. كافياً لإدانتها .. والحكم ببراءتك .. وما بك الآن حاجة إلى أحصاء المزيد من الوقائع .. وفي حالتك .. فأنت أدرى الناس بما حدث .. ثم إن والدك قد قاطعك لسنوات طويلة .. ولم يظهر فجأة في حياتك وحياة أولادك .. إلا ليستدر عطفك عليه وعلى أولاده فيما يمر به من محنة .. فبأي حق يطلب منك النجدة .. ولماذا جاء الآن فقط يطلب منك أن تنقذ بيته ومستقبل ابنته .. وهو يعلم أن الدين قد فرق بينه وبينك .. وأنك لن ترثه هو ولا أمك .. ولا أحد من سائر إخوتك .. كان الطبيب مطرقاً برأسه وهو يستمع .. ثم رفع رأسه وهو يقول: لقد أحسنت إلى أبي ياعم .. لحق الوصية التي فرضها له الملك الديان .. وبحق القرآن الذي آمنت به .. وجعلته دليلي إلى طاعة خالقي الذي هداني .. أو ليس قد جاء في القرآن قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي ع أو ليس قد جاء في القرآن قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ - وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }لقمان 14 -15 قال الشيخ: بلى .. وصدق الله العظيم .. قال الطبيب: أو ليس قد جاء في الكتب المحكم قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }العنكبوت8 قال الشيخ: بلى .. وصدق الله العظيم .. وساد الصمت بينهما برهة .. تدبر كل منهما معاني الآيات الكريمة .. وأهدافها النبيلة .. ثم ما لبث الطبيب أن قال: إن هذه الآيات .. يتلوها كل مسلم .. ويؤمن بها كل مهتد .. وما في ذلك من ريب .. ولكن حدثني بربك يا عم .. فأنت رجل علم وتجربة .. ألست ترى أن هذه الآيات تأخذ بناصيتي وبناصية كل عبد هداه الله .. من بين فئة كبيرة على الضلال .. فلقد جاهداني .. وأشهد الله .. ولعل أبي كان أشد قسوة .. لكن أمي كانت تراقبني .. وتجعل من يراقبني .. وتغري بي أبي .. وإخواني وإخوتي .. ظناً منها أن في هذه الملاحقة الخير لي .. ثم فرضت الأيام بيننا الحجاب .. وما أظنني على صواب فيما قد كان بيننا من قطيعة .. لأن الله جل وعلا يقول : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً }لقمان15 فأي معروف هذا .. وأنا لم أصاحبهما ..بل كنت وكانوا يصرون على قطع ما بيني وبينهما .. وأي صنيع سيء قد صنعت .. لو أنني تركت أبي يعود من زيارته لي .. ولم أنقذه على حين ظل المال راكداً في خزانتي .. أتظن يا عم أن المال .. هو الذي يصلح من شأن العيال .. بعد فقد عائلهم .. أعتقد أنك تعلم أن الأمر على خلاف ذلك .. أما الحق فهو ما أنبأنا به القرآن .. حيث يقول سبحانه في سورة الكهف: { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً }الكهف82 ألا ترى معي يا عم .. أن مجيء أبي إلى داري خاصة .. بعدما سمع بمولد محمد .. قد كان من جانبه .. كركوب أشد الأهوال وأقساها .. الا ترى أن مجيئه إلى بيت ولده الذي عرف حقيقة أمره .. هو نصر لي من عند الله .. إنني لا أنكر أن التصرف الذي صدر عني قد مس حقوق ولدي وزوجتي .. ولكن المغامرة .. كانت قضاء لا مفرمنه .. ولكننا يا عم .. إن يكتب الله لنا عمراً .. فسننظر فيما تأتي به المقادير .. إن شاء الله تعالى .. قال الطبيب ذلك وقد اعتزم في نفسه أمراً ..

(22)

نهض الشيخ يريد الانصراف .. بعدما سمع من دفاع ابنه الطبيب الشاب .. وإذا بابنته تعترضه .. وتتشبث به لتطيل بقائه .. ورفع الشيخ عصاه في وجه ابنته .. لكن الزوج كان قد أسرع إليه .. وقال له: ما هكذا يا عم .. علمتنا أن يكون الإقناع .. قال الشيخ لابنته : اسمعي يا هذه .. إنك هوجاء لا تعقلين .. إنك لا تعرفين قدر هذا الرجل الذي معه تعيشين .. فاحمدي الله أن رزقك بمثله .. ولتحذري بعد اليوم أي إساءة له .. أو سوء فهم لراشد تصرفاته .. كان هذا الموقف فاصلاً بين عهد لا يخلو من قلق وارتياب .. وعهد جديد ساده الاطمئنان .. إلى حسن إسلام الطبيب وصدق إسلامه .. وزاد الطبيب اقتراباً من الأسرة .. ومن كل الناس .. واتجه إلى الخروج من عزلته التي كان قد ضربها على نفسه .. وارتاح لها في خدمة السجون .. فالتحق بوزارة الصحة .. وأنجب ولدين آخرين .. هما محمود .. وإبراهيم .. وبقي طبيب أحد المراكز ., لأربعة أعوام .. ثم حملت زوجته من جديد .. فقال هو : علي أو علية .. فكانت علية .. التي توفي عنها أبوها وهي طفلة عمرها شهران .. وكانت جيوش الحلفاء الكبرى .. تنتقل في بعض مواقع محافظة الشرقية .. وكان قد انتشر بين الجنود .. وباء التيفوئيد .. فانتقلت العدوى إليه أثناء عمله في المخيمات .. وأحس الطبيب الشاب بدنو الأجل .. فقد كان رحمه الله صالحاً شفاف البصيرة .. وكأنما خاف على زوجته وأولاده مما سيلاقونه .. لو وافته المنية بعيداً عن الأهل .. فحزم حقائبه .. وأغلق داره .. واصحب زوجته وخادمه وأولاده .. وشغل إيواناً مستقلاً بالقطار .. حتى لا تنتقل العدوى منه إلى غيره ... حتى وصل إلى منزل صهره الشيخ الفاضل .. عبدالحميد مصطفى رحمه الله .. لكن إخلاص صهره .. وسهر زوجته .. وصغر سن أولاده .. ومهارة معالجيه من الأطباء .. لم تفلح جميعها في تأخير لحظة النهاية .. ووافاه أجله المحتوم .. بعد ستة أيام من مرضه .. وكان ذلك بعد مغرب يوم الثامن عشر من يوليو .. سنة ألف وتسعمائة وثمان عشرة .. بعد أن ضرب للبشر مثلاً سامياً في إصراره وشجاعته .. وحسن إسلامه .. وصدق إيمانه .. وقد منح رحمه الله للبشرية أبناء نافعين مؤمنين .. عاش منهم حتى خلد اسمه وذكره .. الدكتور: عيسى عبده ..العالم الاقتصادي الإسلامي المعروف .. وأحد من غذوا بدايات الصحوة الإسلامية .. والدكتور مهندس: محمد عبده .. أستاذ الهندسة المعروف بجامعات سويسرا .. ومن بعدهما أولادهما .. نفع الله بهم أمة المسلمين .. ورحم الله صاحب هذه القصة .. ومن أحبه وآواه ونصره .. ومن خلف من نسله ونسل أبنائه .. وآخر دعوانا أن احمد لله رب العالمين .. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : كنت تحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال قولاً حسناً، فقال فيما قال: (من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله مثل الذي لناوعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا) سنده حسن تمـــــــــــــــــــــــــــــــت

المصدر: محاضرة صوتة لفضيلة الشيخ: محمد بن إسماعيل المقدم من موقع طريق الإسلام ولم يكن لي جهد إلا بالنسخ والتعديل البسيط في السياق فقصته مكتوبة بكتاب ما .. لكن الشيخ لم يذكر اسم الكتاب وقد كان يقرأ القصة منه .. ولقد تأثرت بقصته كثيراً .. وكان لدي ما يدفعني دائماً إلى كتابتها رغم سماعي لها مرات ومرات أسأل الله أن ينفعني وأياكم .. ومن كان له فائدة يحب إضافتها فسأكون له من الشاكرين


Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

Trending Articles