تحل هذه الأيام الذكرى التاسعة والستون لقصف دريسدن بطريقة وحشية من الجو على يد سلاح الطيران البريطانى والذى نجم عنه عدد هائل من الضحايا بين المدنيين حيث لم تكن هناك أهداف عسكرية. وهو ما جعل كثيرا من الناس ينادون بوضع هذه العملية تحت بند جريمة ضد الإنسانية. وتتفاوت التقديرات عن الخسائر التى أوقعتها هذه الغارة المستمرة طوال ليلة 13 فبراير 1945 بين 20 ألف و90 ألف حيث أن مدينة دريسدن فى المرحلة النهائية للحرب كانت مركزا لتجميع اللاجئين من شرق ألمانيا وبالتالى ليس هناك معرفة مؤكدة بعدد اللاجئين المتواجدين بالمدينة ليلة القصف.
لقد مارست العار العرقي بأن أسلمت جسدي لرجل من عرق غريب ولهذا فأنا أقوم الآن بدفع الثمن.
كانت هذه هي العبارة المكتوبة بالبنط العريض علي لافتة مزدوجة معلقة علي صدر وظهر السيدة انجبورج من هامبورج والتي تمت حلاقة شعرها بالكامل عقابا لها علي علاقتها بلاعب السيرك الصيني تونج ووضعها ولد منه حيث أن قوانين نورنبرج العنصرية كانت تمنع ذلك بوضوح وبالذات علي الأنثي الارية. وهو نوع من الفضيحة بجلاجل كما نقول نحن في مصر
وهذه السيدة كانت تعيش في هامبورج حتي عام 1943 حين وقعت الغارة الجوية البريطانية علي هامبورج باستعمال 900 طائرة قاذف في ليلة واحدة قامت بإلقاء 3000 طن من القنابل علي تلك المدينة واستعمل فيها الفوسفور لأول مرة مما أسفر عن غليان أسلفت الشوارع تحت أقدام الهاربين ليصل عدد الضحايا الي ما بين 39 الف و43 الف قتيل في ليلة واحدة.
وهذه السيدة شهدت تلك الغارة وفقدت فيها صحة طفلتها الرضيعة حيث تسبب الفوسفور في حريق داخلي بالرئتين جعل الأطباء ينصحونها بالاستعداد لوفاتها القريبة في أي لحظة، وقد كان.
وعلي ذلك فقد كرهت المدينة والذكريات المرتبطة بها وغادرت هامبورج الي مدينة أخرى تقع علي نفس نهر الالبه هي مدينة دريسدن حيث كان هناك فى تلك الليلة عرض لاعب السيرك الصيني تونج الذى إنتقلت معه إلى دريسدن وحملت منه ابنها الثاني.
نحن الآن في أول عام 1945 والموقف العسكري يزداد سوءا كل ساعة بالنسبة لألمانيا. فقد عبر الجيش الأحمر حدود ألمانيا من الشرق وأصبح علي بعد عشرات الكيلومترات فقط من العاصمة برلين ولهذا فقد عقد الثلاثة الكبار مؤتمر يالتا في الاتحاد السوفيتي فى الفترة من 4 الي 11 فبراير لتقسيم العالم عقب نهاية الحرب والتي باتت وشيكة. وهكذا قد نضجت الثمرة التي زرع بذرتها الرئيس روزفلت قبل ذلك بخمس سنوات رغبة منه في الوصول الي تلك اللحظة. لحظة القسمة.
انتهي المؤتمر يوم 11 وقد اتفق فيه روزفلت وتشرشل علي مساعدة المجهود الحربي السوفيتي في البر عن طريق قصف المدن الألمانية من الجو لإضعاف الروح المعنوية واجبار الشعب علي خلع الحاكم المجنون.
وكانت الخطة هي تقسيم العمل بين الليل والنهار بان يتولي سلاح الجو البريطاني القصف الليلي ثم يخلي المجال الجوي في النهار لسلاح الجو الأمريكي ليقوم بدوره في القصف النهاري.
والحقيقة أنه لم يكن هناك مبرر عسكرى حقيقى لهذه الغارة التى تمت على دفعتين كانت أولاهما مكونة من 245 طائرة وثانيهما من أكثر من 500 طائرة حيث بدأ القصف فى الساعة التاسعة مساءا ولم ينته حتى الفجر. وكان الحلفاء قد إكتشفوا فعل الفوسفور فى إضاءة الليل حتى يرى الطيارون أهدافهم فكانت ألسنة اللهب ترتفع فى شكل كان الطيارون يسمونه شجرة عيد الميلاد وهذا اللهب كان يحيل الليل نهارا مما يسهل رؤية الأهداف التى كانت فى معظمها ـو كلها مدنية لأن الدفاعات العسكرية كانت فى حالة إنهيار تام. وقد نتج عن هذا القصف النارى الهائل أن الحرائق كانت تسحب الأوكسيجين من الهواء مما يجعل المختبئين فى البدروم يموتون إختناقا لعدم وجود هواء وليس لمجرد القصف وكان أول من يتأثر بذلك هم بالطبع الأطفال. وكانت تلك القنابل قد تم تجريبها من قبل فى غارة هامبورج التى ذكرتها من قبل. وقد حكى كثير من الناجين من هذا الهول أن الضغط الهائل للهواء كان يحيل المرء إلى شخص أصم لا يسمع شيئا. وحكت أكثر من سيدة أن شخصا كان يأتيها فجأة ليخلع عنها معطفها فى لمح البصر لكي تكتشف بعد ثوان أنه كان يحترق وهى فى داخله. كل ذلك فى ليلة من ليالى الشتاء فى فبراير.
وقد حكى أحد الطيارين الإنجليز المشاركين فى غارة هامبورج عام 43 أنه قرر منذ تلك اللحظة بعد أن أطل من نافذة طائرته ورأى الجحيم على الأرض، قرر أن يتحول إلى ناشط سلام ومعادى لأى حرب وأى نزاع من أى نوع حيث أن ضميره قد إستيقظ وأدرك عظم المجزرة التى شارك فيها.
ونعود إلى بطلة قصتنا السيدة/ إنجبورج التى أصبح إسم لقبها تونج نسبة إلى حبيبها الصينى فقد كان هذا الرجل يؤدى عروضه اليومية فى سيرك المدينة فى ذلك المساء حيث أن مدينة دريسدن ظلت حتى نهاية الحرب تقريبا فى فبراير 1945 بدون أضرار من الحرب
كانت هذه السيدة قد نزحت إلى دريسدن طلبا للأمان الذى كانت دريسدن تتمتع به حتى وقت متأخر جدا من سير الحرب، وذلك الرجل الصينى كانت تربطها به علاقة حب حتى أنها قررت المعيشة معه (لم يكن ممكنا أن تتزوجه لأن ذلك كان ممنوعا) وعاشرته وحملت منه ولدها الثانى مما نتج عنه فضحها وعقابها بالطريقة السابق ذكرها.
إلا أنه قبل وقوع الغارة بفترة قليلة جدا فصلت الشرطة بينها وبينه وقبضوا عليه حتى ينفذوا القانون (قوانين نورنبرج العنصرية التى كنت قد كتبت لكم عنها من قبل) وعندما وقعت الغارة كانت هذه السيدة فى المخبأ مع طفلها من الصينى (كان الطفل الأول قد مات) خرجت من المخبأ طلبا للهواء فتعثرت فى عدد كبير من الجثث المتراكمة على قارعة الطريق وتعرفت على جتة حبيبها الصينى فى وسط تلك الأكوام.
كانت مدينة دريسدن تعد مركزا لتجميع المهاجرين النازحين من الأقاليم الشرقة الألمانية فى بروسيا الشرقية وبولندا وبوهيميا وبومرينيا والتى قد إجتاحها الجيش الأحمر المندفع من الشرق إلى داخل الأراضى الألمانية فهرب منها الألمان نساءا وأطفالا من غير القادرين على القتال. (وهذا الهروب له قصة تستحق الذكر أيضا).
وكانت الإمكانيات الإدارية لحصر وتسجيل النازحين وإعادة إيوائهم تسير بصعوبة بسبب الأعداد الكبيرة ونقص مواد التدفئة فى الشتاء (فحم) وكذلك نقص المواد الغذائية.