Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

المدينة العربية

$
0
0

 

تأليف : محمد السويسي
نشأة المدن 
اختلفت مظاهر المدينة العربية والبناء عن سابقتها في الدول العربية قبل ظهور الإسلام . إذ كانت المدينة في المنطقة العربية على البحر المتوسط لمصر وبلاد الشام والخليج متأثرة بأنماط الدول الغازية من إغريق ورومان وبيزنطيين ، لذا اختلفت أنماط بناؤها بين عصر وآخر وفقاً للحاجات الإقتصادية بالدرجة الأولى بحيث تركزت المدن في طرق القوافل التجارية البرية منها ، كالقاهرة ودمشق ، أو البحرية كالإسكندرية وبيروت واليمن . وكانت الأبنية في هذه المدن أشبه بالعشوائي ، بمظهر قروي للعامة ، التي كان لها أحياءها الخاصة بما يتيح لها النوم فقط دون الأخذ بالفراغات الضروية للضؤ والهواء من أجل سلامة الصحة العامة ، مما كان يتسبب أحياناً بزوال هذه المدن  بسبب الأمراض كالهواء الأصفر أو الطاعون ، حيث كانت تغلق ويمنع الدخول إليها أو الخروج منها ومن ثم تندثر مع مرور الأيام والسنين تحت بحر من الرمال ولا يبقى لها أثر ، عدا عن أسباب أخرى كالغزو والنهب والسبي والحرق بسبب الحروب .
 
تشكل المدن وزوالها        
     
المدينة العربية : لقد جاء الإسلام وقلب مفاهيم إنشاء المدن حيث انتقل بها من الفوضى إلى التنظيم على أسس إقتصادية وإجتماعية وأخلاقية ودينية وسياسية . وبدلاً من أن يكون قصر الحاكم هو المحور كما في الممالك القديمة فقد جعل الإسلام المسجد الجامع هو النواة في بناء المدينة العربية وأزال الفوارق الطبقية مع مبدأ المساواة بين البشر التي قام عليها فجعل الطرق والشوارع والممرات لكافة الناس يمشي عليها السيد والحاكم والعبد والفقير والغني ، بينما كانت المدن القديمة تقسم الطرق والممرات إلى ثلاثة أنواع للعامة والعبيد وطبقة النبلاء بما فيها الحاكم .
   
وبما ان المسجد كان النواة المحورية في تقسيم المدينة العربية فقد راعت راحة المصلين في طريقهم إلى المسجد فتوزعت منه الطرق الرئيسية والأسواق القائمة على التخصص المهني . فخصصت السوق القريبة للمسجد للعطارين على جانبيها ، أما الطرق الأخرى المحيطة بالمسجد والمتفرعة عنه فلقد تنوعت تجاراتها ، فبعضها لباعة الذهب وأخرى لباعة الأقمشة أو لباعة المواد الغذائية والحبوب ، ومن ثم يليها باعة اللحوم والذبح عند أطراف المدينة كما أعمال التطريق والفواخير والنجارة في خارج المدينة حتى لاتنبعث الروائح والأدخنة المؤذية أو الضجة العالية ، وبجوار مدخلها الرئيسي كانت تقام سوقاً واسعة تضم مختلف أنواع  التجارات .
وقد تميز كل من المسجد الجامع وما حوله لإبرازه ، وقطعاً للإزدحام من أجل راحة الناس لما يلعب الفراغ في تسهيل المرور ، وتمتع كذلك السوق التجاري الكبير بفضاء واسع من أجل تسهيل الأعمال التجارية وكسب المزيد من النور والهواء إلى جانب حرية التنقل وعرض البضائع وتسهيل نقلها .
 
ومع التوسع والحروب تأثرت الفراغات في المدينة العربية وانكمشت كما في المدن الأوروبية في العصور الوسطى ، إذ اقتضت الأنظمة الدفاعية إلى ضرورة بناء الأسوار التي أضحت من الأساسيات في بناء المدن العربية والإسلامية ، حيث كانت  تكتفي قبلاً  ببناء الخنادق بعيداً عن مواقع السكان في فضائات خارجية واسعة حيث مواقع الجنود والثكنات . ومع تزايد السكان انتقل توسع البناء الأفقي في المدينة العربية إلى التوسع في البناء الرأسي مع تزايد السكان ضمن الأسوار المدينية واختلفت أساليب البناء في مساحات الغرف والفراغات للأسواق إلى ضيق في الشوارع الفرعية وتقلص الفراغات والإضاءة ، إلا أنها عوضت عن ذلك بالفناء الداخلي مع إستغنائها عن فراغات الخارج . ونلحظ ذلك جلياً في مدينة القاهرة بالنسبة للعصر المملوكي حيث لاتزال بعض الدور قائمة حيث الفراغات والفسحات والمضافات الواسعة داخل المنزل . وقد حافظ العصر العثماني على هذا النهج في البناء الذي نلحظه جلياً بتشابه وروحية واحدة ملفتة للنظر وتدعو إلى الإعجاب بحيث تتشابه إلى حد كبير في نمط البناء والروحية والفراغات الداخلية ، كل من مدن طرابلس وبيروت وصيدا في لبنان مع مثيلتها في دمشق وحمص وحماه وحلب والقاهرة والقدس وحيفا ويافا وتونس والقصبة في الجزائر .
              
الأسواق العربية
كان توزيع الأسواق في المدينة العربية يعتمد على حكمة أساسية وهو دفع الضرر الذي ربما يحدثه إذا ماتجاورت سلعاً وحرفاً مضادة تفسد العرض والسلعة وتتسبب ايضاً في أذى رواد هذه الأسواق . وتدرج التصنيف من الساحة الواسعة التي تحيط بالمسجد الجامع في قلب المدينة إلى أطراف شوارعها الرئيسية المنتهية إلى مداخلها وبواباتها في نظام معين يقوم على التناسب بين السلع والتجارات والحرف وجمهور المتعاملين في داخل المدينة أو خارجها ، ومواصفات كل تجارة من حيث الرغبة في وضعها قرب قلب المدينة – حيث تزداد كثافة المرور في اتجاه المسجد الجامع- أو في أطراف شوارع المدينة عند بواباتها – حيث تقل درجة الكثافة – لما قد تسببه من أذى للمارة .
       
هذا التصنيف أدى إلى إيجاد نوع من الترابط بين تجار وصناع السلعة الواحدة يسهل على رواد السوق تسهيل شراء إحتياجاتهم دون عناء ، كما يسهل مراقبة الأسواق وتخفيف كثافة المرور في شوارعها ما يساعد على الوصول مباشرة إلى السوق المتخصصة في سلعة بعينها . كما أن هذا التصنيف راعى أن تكون السلع الضخمة الحجم الثقيلة الوزن عند أطراف المدينة حتى لايسبب نقلها في تكثيف حركة المرور وعرقلتها . والقصد من هذا الإسهاب أن بناء المدينة العربية كان مدروساً بدقة يراعي راحة الإنسان وحاجاته على أسس أخلاقية وإجتماعية وإقتصادية .
 
موقع الفراغات في المدينة العربية ووظيفتها
تميزت الفراغات في المدينة العربية والتوسع بها بشكل مدروس فاق المدن الغربية في العصور الوسطى حتى نهاية العصر العثماني إذ اعتمدت البيوت والخانقات والحمامات والمساجد والبيمارستانات والخانات والوكالات والقياصر في بنائها على الفراغات الواسعة بما يتلائم والحاجات الإجتماعية والصحية والإقتصادية .
 
ورغم السماح بتعلية البيوت ببناء طبقة إضافية فإن الأمر كان مشروطاً بإلا يسبب ذلك أذىً بالإطلاع علىى بيوت الأخرين ، أي الإطلاع على عوراتهم وهتك حرياتهم . كما كان تضييق الشوارع الفرعية أو الزواريب مقصوداً  على أسس أخلاقية إجتماعية ودينية ، لإن تضييق المسافة والفراغات لايسمح للعابرين بالإطلاع ، وإن رفعوا رؤوسهم ،على داخل البيوت ، ولكن مع تطور الهندسة المعمارية الإسلامية كانت المشربيات الخشبية  المخرمة ستارة يدخل منها الهواء والإضاءة بدلاً من الشباك المقفل بما يسمح لسكان البيت الرؤيا الخارجية دون أن يتكمن العابر من معرفة أو رؤية الناظرين . كما وأن مداخل البيوت الأرضية كان يعتمد فيها التعرجات والإنحناءات بزوايا حادة  التي تنتهي إلى فضاء واسع ، منعاً لاطلاع المارة على داخل البيوت .
 
الأسوار والخانات
تميزت أسوار المدن العربية بخاصية بيئية عربية يفقدها الأوربيون حيث كانت مداخل وأبواب أسوار المدينة تراعي الظروف والعادات حيث أن مداخلها كانت تبنى بشكل يتمكن راكب الجمل أن يعبر البوابة براحة تامة ، بينما النمط الغربي كانت أبوابة أقل علواً بما يسمح لفارس الفرس فقط بالعبور من خلالها . وعلى هذا الأساس فلقد خصصت بعض الخانات بأبواب عالية تسمح لراكب الجمل الدخول والمبيت فيها .
وهذه الخانات كانت عبارة عن بلاط واسعة أرضية قسمت إلى منازل عدة يعلوها طابق أو أكثر وقد قسم إلى غرف عدة كما الطابق الأرض بحيث يبيت المسافر في إحدى الغرف العليا وجمله أو فرسه في الطابق الأرض الأسفل .
 
المدن الحديثة
رغم أن المدن الأوروبية الحديثة التي تماثلت بها المدن العربية في المنحى والتصميم في استحداث الفراغات الواسعة التي تميزت بها الشوارع العريضة التي لم تكن لتحدث لولا تطور المركبات ووسائل النقل ، إذ لم تكن الشوارع الأوروبية بأفضل من الشوارع العربية في الفضاء والمساحات إلا بسبب الحاجات العسكرية منذ زمن الإغريقيين حيث كان هناك شارع رئيسي واسع للأستعراضات العسكرية ، وبالتالي كانت تقسم الشوارع إلى مربعات متساوية تقريباً ، بينما في المدن الرومانية كانت هناك دائماً شارعان رئيسيان متعامدان وفقاً لمتطلبات الإستعراض العسكري ، أما باقي المدينة فكانت السلطات تكتفي بتقسيم الأحياء ثم تترك توزيع المباني وفقاً لحاجات السكان - مع وجود التمييز الطبقي بالطبع في طرق المرور ومواقع الأحياء - وبذلك ورثت اوروبا مع بدء نهضتها المترافق مع عصر الآلة أسلوب بناء الطرق واستحداث والفراغات للحضارات التي سبقتها إلا أن منازل العامة كان ينقصها الفراغ والضوء الذي تميزت به البيوت العربية . ومن هنا أضحت مدن العالم جميعها مع حاجتها إلى تطوير وسائل نقلها مضطرة إلى استحداث فراغات واسعة في طرقها وساحاتها لزوم تسهيل مرور وسائل النقل ومحطاتها وأماكن تجمعاتها .
 


Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

Trending Articles