أميركا غبيّة. ما عاد الأمر سراً. لكن سبب الغباء موضع خلاف. هناك من يرجع الغباء إلى مؤامرة محبوكة. أصحاب مؤامرة الغباء لهم أسماء، بل أن بعضهم معروف تماماً. يميط المقال اللثام عن بعض تلك الأسماء، لأن قائمتها طويلة. ثمة سبب آخر. لا تتفرج أميركا على شاشات العرب. ألهذا هي غبيّة؟ أمثلة عن الغباء لا تنتهي. لنبدء بالطب. تنفق أميركا بلايين الدولارات في محاولة شفاء أمراض كالإيدز والفيروسات والسرطان وألزهايمر وغيرها. لا تعرف أن أدويتها موجودة. لم تتفرج على شاشات العرب لتعرف أن طبيباً برتبة ضابط توصل إلى "شوي"فيروسي الإيدز والكبد في الدم. ولو أنها عرفت بالأمر، لتصدى أصحاب المؤامرة لهذا الفتح العلمي. ربما قالوا (جهلاً وجهلاً بالطبع) أن الدم يكون شوي و"شاط"قبل ان تكوي الحرارة سطح الفيروس. يتورط في مؤامرة الغباء أسماء مثل "معاهد الصحة الأميركية" (تموّل بحوثاً بقرابة 35 بليون دولار سنويّاً) و"الجمعية الأميركية لتقدم العلوم"و"مشروع الجينوم البشري"و"الجمعية الطبيّة الأميركية"وغيرهم من المصممين على إبقاء أميركا في حال جهل لجهاز شواء الإيدز وفيروس الكبد. بلغ من قوة المؤامرة أن شركة أميركية، هي "جلعاد"عرضت على مصر تخفيض 99% من قيمة دواء حديث لعلاج فيروس الكبد، لكي يصبح بمتناول ملايين المرضى المصريين. ولا يهم أن الدواء استغرق بحوثاً وجهوداً على مدار سنوات طويلة شاركت فيها مجموعة كبيرة من المؤسسات وجيوش من العلماء. ربما هذا جزء من مؤامرة. من يدر؟
لنذهب إلى الفضاء. هل تريد أميركا معرفة أسرار الفضاء؟ بسيطة. ليس عليها سوى التفرّج على شاشات العرب لترى أولئك الذين يعرفون أدق التفاصيل عن خرائط النجوم، على رغم أن أيّاً منهم لم يدرس علوم غبيّة مثل الفيزياء والرياضيات والفلك (فلك، وليس تنجيم) والكيمياء والبيولوجيا والأشعة وغيرها. لماذا هناك مؤسسات أميركية تعمل منذ عشرات السنوات على دراسة علم الاجتماع والسلوك البشري وعلوم النفس والتواصل والاحتمالات والاحصاء وغيرها. ما هذا الغباء الفائض؟ لتتفضل باستشارة شاشات العرب لترى من يعرف أدق سلوكيات الناس، ويوماً بيوم، عبر أوراق الـ"تارو"أو عبر النجوم. ألا تعرف أن هؤلاء العارفين يعلمون أثر النجوم على أدمغة البشر، بالتفاصيل الدقيقة؟ لكن أميركا تصر على الاصغاء لعلماء الغرب، وهم ربما لا يتوصلوا إلى قياس أثر جاذبية نجم على دماغ كائن بشري يسير في شوارع نيويورك. الأرجح أنها المؤامرة، طبعاً. هذه المرّة، أحد المتآمرين يحمل إسماً مشهوراً: "الوكالة الأميركية للطيران والفضاء" ("ناسا").
في السياسة، غباء أميركا لا يحدّ. لعل الغباء الأكثر شهرة هو تلك الجهود الهائلة في المؤسسات السياسيّة، بداية ممن يدرسون علوم السياسة والاقتصاد (وما يتصل بها) في الجامعات، ووصولاً الى وجود مؤسسات متخصّصة كـ"معهد بروكينز"و"مؤسسة راند"و"مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية"و"مؤسسة ستراتفور"و"مشروع القرن الأميركي"وغيرها. الأدهى أنها مؤسسات تدعمها علاقات أكاديمية مع جامعات كـ"ستانفورد"و"أوكسفورد"و"كامبردج"و"يال"و"كارنيجي ميلون"وغيرها، إضافة الى ما لا يحصى من المؤسسات البحثية. يضاف الى الصورة، المؤسسات الاستخباراتية المتنوّعة والمجالس الملحقة بالمؤسسات السياسية كـ"مجلس العلاقات الخارجية". لماذا كل تلك الجهود؟ يكفي التفرّج على شاشات العرب، للاستماع إلى الوجوه التي تتحدث بثقة شاملة مع احتقار شامل لمن يعترضها، عن تفاصيل كل ما سيحدث غداً وبعده وبعده، بل في السنة والسنوات المقبلة. هناك عرب عارفة تطل من الشاشات، وتعطي توثيقاً مستقبلياّ لمسارات السياسة والشعوب والاقتصاد وغيرها. لماذا بذل الجهد للمعرفة، وهي موجودة عند أطراف الأصابع. يكفي الضغط على الريموت كونترول للوصول إليها، عبر شاشات عربيّة عارفة ومطمئنة إلى.. ماذا؟ كيف السبيل لوصف هذه المأساة التي لا تنتهي؟ قيل قديماً عارِبَة ومُستَعرِبَة. على غرارها، يمكن القول ، بالأحرى لا هي عارِفَة ولا هي مُستَعرِفَة، بل أنها أشد وأنكى. وترن في الأذن صرخة شاعر العرب محمد مهدي الجواهري "يا أمة ضحكت من جهلها الأمم". لكن الأمم لم تعد تضحك على "الأمة"، لأن الأمم مشغولة بالعلوم والمعرفة والتطوّر، فيما العرب ينحدرون إلى انتحار جماعي، أوله وآخره، جهل لا يحدّ.