تأليف : محمد السويسي
إن المتغيرات التي شهدتها وتشهدها المنطقة العربية من ثورات شعبية على الفقر والتخلف والعوز دفعت المملكة العربية السعودية بقيادة الملك عبدالله بن عبد العزيز إلى إتخاذ تدابير مالية سريعة لتلافي وصول هذا المد الإعصاري الشعبي المدمر إليها بإقرار بعض الإصلاحات الضرورية بسخاء ظاهر وفق أوامر ملكية ملزمة .
هذه الإصلاحات لم تكن في الواقع سوى مطالب مزمنة ومحقة تم تجاهلها لعقود طويلة من الحكومات المتعاقبة ومجلس الشورى رغم حالة البؤس الظاهرة لكل زائر للمملكة التي كانت تبعث على الإستغراب من هذا التجاهل في تأمين أدنى الضمانات الإجتماعية والصحية والإيواء اللائق لفئة كبيرة المواطنين في دولة غنية بعائدات نفطها ، بما يتعارض ودستورها الإسلامي والنص القرآني في قوله تعالى : (والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم ) ]سورة المعارج : 24-25 [ .
كما ورد هذا التأكيد لإعانة فقراء المسلمين في سور عدة منها : البقرة ، الحشر ، الإنسان ، التوبة ،المؤمنون ، الأنفال ..وغيرها كثير ؛ عدا آيات الزكاة التي تحض على أعمال الخير بإعانة الفقراء والمحتاجين من المسلمين .
ولكن لابد من التساؤل عن الأسباب التي أدت إلى التأخر في إقرار هذه الإصلاحات الإجتماعية المهمة حتى الآن ، رغم التعليمات الإسلامية والنصوص القرآنية الواضحة الملزمة في هذا الشأن ؟!
لنكن منصفين ، لابد من العودة قليلاً إلى الوراء عندما تولى الملك عبد الله ولاية العهد في زمن أخيه الملك فهد بن عبد العزيز إذ دعا حينه مجلس الشورى وبعض العلماء والفعاليات الإقتصادية والمالية والعلمية للبحث في ضرورة مكافحة الفقر بدفع تعويضات بطالة للعاطلين عن العمل لقطع الطريق على تفشي الإرهاب في المملكة ، إلا أن جواب المجتمعين كان مذهلاً ومعيباً في القول بأن الإرهاب ليس من عمل الفقراء يل من عمل المتمولين الأغنياء . وقد ضلوا بهذا الرأي وزادوا الأمر سؤاً ، كالذي يقول "لاتقربوا الصلاة "، ليحرف الناس عن القيام بفرض ملزم لهم ، مع تجاهله المتعمد لبقية الآية "وأنتم سكارى " .
والواقع أن من ينادي بالإرهاب ويموله هم الأغنياء فعلاً من الدول أو المنظمات أو الأفراد ، إلا أن أعضاء مجلس الشورى نسوا أو تناسوا أن أدواته هم من الفقراء ، إذ لولا هذه البطون الجائعة لما وُجد من يحمل السلاح لقتل الناس ، بما يخالف تعاليم الإسلام وعقيدة الجهاد ، بعمل كافر صريح لشدة حاجتهم وفقرهم بما ينطبق عليه القول "كاد الفقر أن يكون كفراً"وقد أضحى كفراً فيما رأينا من أعمال إرهابية ضد بلاد المسلمين من أشخاص لايفقهون في الدين ، وإلا لما تجرأوا على الله بقتل إخوانهم من المسلمين وقد كفّروهم ، متبعين خطوات الخوارج في فجر الإسلام ، حقداً على الأنظمة والحكام بدافع الجوع والعوز وقد وجدوا لهم السند والتمويل من بعض الجهات المتعاطفة معهم مستغلين سؤ تصرف الحكام وتقصيرهم وظلمهم .
كما قرأنا وشاهدنا واستمعنا إلى ندوات ومحاضرات عدة ، لاتغنى ولا تسمن من جوع في فحواها لاقتصارها على القول دون الفعل في مكافحة الإرهاب ، إذ كانت تقوم على التثقيف والتوعية والدعوة إلى الأمن الإجتماعي دون أن يقترح أحداً من المشاركين بضرورة إقرار الضمانات الإجتماعية ودفع تعويضات البطالة للعاطلين عن العمل ، بل ومعارضة ذلك بادعاء عدم الحاجة لهذا التدبير !. وليس هذا التصرف أو الراي سوى نوع من النفاق والمخادعة لأصحاب الشأن في غير محله ،إعتقاداً منهم بأنهم بذلك يوفرون المال على الخزينة ليرضى عنهم أولي الأمر في الإستمرار بمناصبهم "حسداً من عند أنفسسهم "لمواطنيهم دون أن يدروا بأنهم بهذه المواقف الخاطئة إنما كانوا يزيدون من مخاطر الإرهاب المحتملة ضد المجتمع السعودي والوطن بتفريخ أدواته من الفقراء وإعاقة النهوض الإقتصادي في البلاد الذي من أسسه توفير السيولة والمقدرة الشرائية لدى المواطنين بدفع تعويضات البطالة أو التوظيف للعاطلين عن العمل وتأمين كافة التقديمات الإجتماعية لمن يحتاج من كافة شرائح المجتمع .
لذا فإن خطوات جلالة الملك عبدالله ،الصادرة في الصحف بتاريخ 19/3/2011 بإقرار حزمة من التأمينات الإجتماعية ، من تعويضات البطالة للعاطلين عن العمل ورفع الحد الأدنى للأجور وبناء نصف مليون وحدة سكنية للفقراء ومحدودي الدخل ، إنما كانت خطوة شخصية ذكية شجاعة وواعية من الملك تدل على حصافة وبعد نظر وقد وضعت حداً لإخفاق مجلس الشورى والمستشارين من البطانة لعدم كفاءتهم ومقدرتهم على اللحاق بموكب العصر وجهلهم بتعاليم الإسلام ومقاصد الشريعة مع معارضتهم لهذا الأمر بدعاوى مضللة وقد عرض الأمرعليهم لمرات عدة في وقت سابق ، مما يدل على خطل رأيهم في أمور كثيرة أخرى وعدم كفاءتهم كمستشارين وناصحين للنهوض بالوطن وتقدمه .
الإصلاحات والتضخم : إن أكثر دعاوى الرفض للإصلاحات الإجتماعية ودفع تعويضات البطالة وإقرار الضمان الصحي لجميع المواطنين كانت تغلف بالخوف من التضخم المالي في المملكة ، وكان يقود هذا الرأي مستشاري الملك وبعض اصحاب المال ومعظم الكتاب الصحافيين من بني جهل من المتزلفين والمتسلقين من موزعي الألقاب المجانية مع فقدانهم الوازع الوطني والديني . أما أسوأ الآراء فكانت تأتي من مجلس الشورى مع إنعدام الإحساس بالمسؤولية الوطنية لديه وعدم الإختصاص .
أما المتخصصين من حملة الشهادات العليا من الجامعات الأمريكية أو الغربية فكانوا الأسوأ بإهمالهم ، إذ لم يتقدموا على مدى عقود بأي مقترح مفيد لنهوض الوطن . ولذا فإن تخويفهم اولي الأمر من التضخم في حال إقرار التقديمات الإجتماعية وتعويضات البطالة فيدل على جهلهم المطبق وعدم إستيعابهم العلوم التي تلقوها في الإقتصاد وتقيدهم بنصوصه الجامدة دون فهم أبعادها لفقدانهم ملكة الإستنباط والبراعة في التخطيط الإقتصادي . وهم في تصرفهم هذا كما صاحب البذلة المستوردة من الخارج بقياس معين يريد إلباسها لكل الأجسام والأحجام ؟ فهل بالإمكان ذلك ؟ بالطبع لا ، إلا إذا تم تعديل قياساتها من رجل إلى آخر .
وكذلك علم الإقتصاد الذي هو علم مرن قائم بذاته ، وليس نصاً جامداً كما يعتقد البعض ، يحتاج إلى معالجة وتطوير وتعديل في كل وقت ومرحلة بما يتلائم والحاجات والمتغيرات وإلا كان الأمر سلباً في نتائجه .
إن التضخم المالي لايمكن أن ينشأ إلا بعد إشباع في مجتمع علمي وصناعي . ورغم توفر العائدات المالية السنوية للمملكة من النفط إلا أنها تفتقر إلى النهوض الصناعي وفائض الإنتاج وتنوعه بحيث أن الميزان التجاري في عجز دائم لصالح الإستيراد - إذا استثنينا النفط كسلعة نقدية مضمونة في عائداتها تستخرج دون جهد نسبياً – لذا فإن الإعتقاد الخاطىء من البعض بخطر التضخم المالي من تأثيرات هذه التقديمات الإجتماعية الملكية فأمر خاطىء يدل على عدم الكفاءة والقصور وفقدان الرؤيا .
حتى وإن تسببت هذه التدابير بالتضخم فإن الأمر قابل للمعالجة ، كما السهول العطشي إن سكبت بها كوب من الماء لإرواء عطشها فالأمر سيان إذ تحتاج إلى دفق كبير من الماء أو نهر لإشباعها لكبر حجمها واتساعها . وكذلك المجتمع السعودي بما فيه من بطالة وفقر ، فإنه لن تعيق خزينته العامة هذا التقديمات أبداً ، بل انها ستنعكس إيجاباً على كل الصعد الإقتصادية والنواحي المعيشية والحياتية . ومع ذلك فإنه لايمكن الركون لهذا الواقع المستجد، مع مرور الوقت وتغير الظروف والأحوال ، أوفي حال تراجع قيمة الصادرات النفطية إن اقتضت المصالح الغربية تخفيض أسعارالبترول للنهوض بصناعاتها .
لذا كان لابد من تحصين الوضع الإقتصادي والمالي للمملكة بانتهاج نظام ضرائبي تصاعدي ملائم في مطارحه بجباية الأموال من الأغنياء دون الفقراء بترافق مع التقديمات الأخيرة سريعاً قبل فوات الأوان من اعتياد المواطن عليها واعتبارها كمسلمات غير قابلة للإنتقاص في أي تدبير ضريبي مستقبلاً .
وهذا النظام الضريبي يجب أن يستتبعه تحصيل أموال الزكاة كفرض عين سنوياً على كل قادر بالطريقة التي اتبعها الرسول الكريم وأصر عليها أبي بكر ومن ثم الخلفاء الراشدون ومن اتبع نهجهم السليم فيما بعد . أما تركها لصاحب المال يوزعها كيفما يشاء فإنه قد ينتقص من حجمها ويسىء توزيعها على غير مقاصدها ولو بحسن نية .
وعدم تحصيل أموال الزكاة مباشرة من قبل الدولة فيه إهمال وترك لركن من أركان الدولة الإسلامية ومخالفة صريحة للسنّة النبوية التي وضعها الرسول الكريم في طريقة وأسلوب جبايتها وضمها إلى بيت مال المسلمين لتوزيعها على الفقراء وأصحاب الحاجة وفق نصوص قرآنية صريحة متعددة . إذ كان الرسول الكريم يبعث الجباة في أرجاء الجزيرة العربية لاستيفاء الزكاة من الموسرين القادرين عليها لتوزيعها وفقاً للنص القرآني الغير قابل للجدل . وقد اتبع الخلفاء الراشدون سنة الرسول في هذا الأمر ، مما يدل على أنه عمل من شأن الحاكم لرفد خزينة الدولة للنهوض بالمجتمع الإسلامي وانتشاله من الفقر والعوز والحاجة ، بحيث يتساوى الناس في الكرامة والإعتزاز في الكفاية المادية بما يبعث على الإطمئنان واستقرار الذهن بعدم الإنشغال بالأمور الدنيوية المعيشية للتفرغ لعبادة الله الواحد القهار .
إن التشدد في الجباية، من ضريبة عادية وتصاعدية ، مباشرة وغير مباشرة ،بالإضافة للزكاة، هي وسيلة فعالة لمنع التضخم المالي مستقبلاً بما يحفظ من قوة النقد ودوام التقديمات الإجتماعية واستقرار الأمن وانحسار الجريمة . إلا أن الإقتصار عليها غير كاف لبناء دولة عصرية حديثة للحاق بالدول المتقدمة ، إذ أن ذلك يقتضي تطوير الإدارة الرسمية بتفعيل دور مجلس الخدمة المدنية في إعداد وتدريب الموظفين القياديين وبالتالي تفعيل الرقابة بشكل مغاير للإسلوب المتبع حالياً لأن عملها بما نراه على أرض الواقع لم يؤد إلى النتيجة المتوخاة في وقف الفساد واستئصاله، بل زاد الأمر تفاقماً وأضحى الأمر سائباً .
لذا كان من الضروري إعادة وضع خطط جديدة للرقابة وإصلاح الإدارة وإعادة تأهيل المراقبين على أسس جدية حديثة فعالة وتطوير دورهم في مساعدة الإدارة على السلوك الإداري السليم وليس الإقتصار على العقوبات فقط . ولايمكن النجاح في تحديث الإدارة بدءاً ،إلا بالتشدد في مراقبة الدوام وتطبيقه لأنه المدخل الأساسي لحثه على الإنتظام الإداري وحسن السلوك ، كا لا يمكن تحقيق ذلك الإصلاح من داخل الإدارة لعجزها عن إدارة نفسها ، لذا كان من الأفضل خصخصة قطاع الرقابة الإدارية أو الإستعانة بالعسكريين المتقاعدين ، على أن ترفع نتائج العمل بتقارير للمحافظ الذي يتولى بدوره رفعها إلى المراجع المختصة لاتخاذ الإجراء اللازم .
المواصلات :كما ينبغي لمزيد من رفاهية المواطن وتحديث المجتمع وتطويره أن يصار إلى تحسين وسائل المواصلات باستحداث باصات نقل عام مشترك في كل المدن الر ئيسية بشكل عصري متطور ، لما في ذلك من أهمية في تسهيل عمل المواطن والتخفيف من حدة السير وكثافته بالإضافة لخط سكة حديد يربط بين المدن الرئيسية والبلدات لنقل الركاب والبضائع بما يخفض كلفة نقلها وبالتالي إنخفاض أسعارها ، وفي ذلك تعزيز لنهوض الطبقة الوسطى في تيسير أعمالها ونشاط تجارتها .
الطبقة الوسطى : إن نجاح اي خطط إنمائية للدولة والنهوض بها يعتمد بشكل كثير على نجاح أعمال الطبقة الوسطى وتسهيل عملها لميزات عدة ، إذ أنها الوعاء الأوسع لأستيعاب الأيدي العاملة والأقدر على إدارة المشاريع وإنجاحها في القطاع الخاص الذي تملكه نظراً لملكة التطور والمقدرة لديها على ضبط موظفيها وحثهم على العمل لغياب الروتين الإداري الفاسد عن إدارتها مع سرعة اتخاذ القرارات دون أي من المعوقات التي تعرف بها الإدارات الرسمية الجامدة بخلاف القطاع الخاص الذي هو في تطور دائم . لذا كان من الضروري إعتناء الدولة بهذه الطبقة بتسهيل أعمالها في التطوير وحمايتها من تعسف الإدارة الفاسدة .
الأسواق المالية أو البورصة : هنا تكمن العلة في تطور المجتمعات أو تدهورها إقتصادياً و إجتماعياً قياساً لنشاط البورصة وطرق عملها سلباً أو إيجاباً . إذ أن البورصة هي الباب الأساسي للتضخم المالي إن لم يحسن إدارتها وتنظيمها بما يحقق للمسيطرين عليها من خلف الكواليس الأرباح الطائلة بما يفيض عن حاجاتهم وبالتالي إحداث حالة من التضخم غيرمقبولة بما يعيق نهضة البلاد مع تكديس الأموال بيد فئة قليلة جعلت همها التربح من أعمال البورصة وقد جعلت من ردهاتها صالات للقمارفي أسلوب عملها بما يشبه النهب المنظم الذي يؤدي إلى شل إمكانيات الطبقة الوسطى المساهمة الرئيسية في البورصة ، وبالتالي تنامي البطالة وعرقلة النهوض الإقتصادي الوطني .
لذا فإنه لا يمكن تحقيق إصلاح البورصة إلا بالتخلي عن الأساليب البالية المتبعة في النظم الغربية كما بورصة نيويورك التي تعتمد التلاعب بأسعار الأسهم الذي يجرى بفساد معلن بقصد الربح الفاحش لصالح المهيمنين من أصحاب القرار في أسواق البورصة بأعمال الدعاية والتضليل المقصود بحيث تضيع أموال المساهمين . وبورصة نيويورك تتحمل المسؤولية المالية الأساسية في التراجع الإقتصادي في أمريكا وإفلاس المصانع وتضخم والأجور .
ولن تتمكن أمريكا من إستعادة وضعها الإقتصادي أو المالي وتقليص البطالة فيها وإعادة النهوض بصناعاتها إلا بتثبيت أسعار الأسهم عند طرحها ومنع التلاعب أو المقامرة بها حتى لايضيع مال صغار المساهمين . وهذا مايجب أن تفعله الدول العربية بتثبيت أسعار الأسهم لديها إذا كانت تسعى للنهوض بإقتصادها على كل الصعد ، وهو قرار ليس هين إذ أن كبار الأغنياء بما جمعوا من مال بمختلف الأساليب الفاسدة وشراكتهم مع الطبقة الحاكمة في أغلب الأحيان ،فإنهم ما زالوا أصحاب القرار الأقوى في الضغط من أجل مصالحهم في إبقاء أسواق البورصة على ماعليه من فساد ونهب لأموال المساهمين غير عابئين لابالشعب او الوطن ، وتلك علة وتركة ثقيلة في إبقاء الدول العربية على حالة من التخلف لن تعرف نهايتها .