فى مثل هذه الأحوال دائما تلجأ الدول إلى الإقتراض لتمويل ما تحتاج إليه من سلاح وإجراءات نعبئة عامة. ولكن ما هى تلك الجهة التى تستطيع إقراض حكومة الولايات المتحدة الأمريكية حتى تستطيع تمويل المجهود الحربى؟
كانت الجهة الوحيدة القادرة على تمويل الحكومة الأمريكية هى الشعب الأمريكى نفسه. فقامت الخزانة الأمريكية بطرح سندات تبيعها للجمهور الأمريكى مضمونة بضمان الدولة الأمريكية نفسها وبفائدة تختلف على حسب طول مدة القرض. وهذه السندات كانت تباع عن طريق حملات إعلامية تليفزيونية وإذاعية عبر كل أرجاء البلاد وكذلك قامت الدولة بتجنيد فنانى هوليوود المشهورين للقيام برحلات بالقطار عبر البلاد لترويج بيع هذه السندات وكان القطار مكتوبا عليه من الخارج إشتروا سندات العم سام أو ساهموا مع العم سام فى الدفاع عن الحرية أو قطار العم سام أو أى شعار من تلك الشعارات التى تربط بين الوطنية والتقدم لشراء هذه السندات. وفى مصر قامت الدولة أيضا عقب هزيمة 67 بطرح عدد من تلك السندات فى الداخل والخارج وكان جزء كبير منها موجها للمصريين المقيمين خارج مصر وأذكر أن أبى الذى كان واحدا منهم قد قام بشراء تلك السندات بدافع من الحرص على المصلحة الوطنية وعن رضا واقتناع بأن شراءها واجب عليه.
نجحت حملة الترويج لهذه السندات وقامت الدولة فى ذلك الزمان بجمع مبلغ هائل من الشعب الأمريكى بلغ 185 مليار دولار وهو ما يعادل فى قدرته الشرائية بأسعار يومنا هذا 14 ضعفا أى حوالى 2500 مليار دولار، وهو ما يعادل 3 أمثال المبلغ الذى أخرجته الدولة الأمريكية عام 2008 لكى تنعش به الإقتصاد الأمريكى للخروج من أزمة فقاعة العقارات التى كادت أن تعصف بكل إقتصاديات العالم ولا تزال آثارها قائمة حتى اليوم.
وهذه السندات تعد أكثر وعاء إدخارى أمنا على وجه الأرض حيث أنه مضمون بالخزانة الأمريكية التى يسود إعتقاد عام بأنها لو أفلست فمعنى ذلك هو قيام الساعة !! ولذلك فإن تصنيف هذه السندات السيادية الأمريكية هو فى العادة وعلى مدى السبعين عاما المنصرمة كان دائما هو الأفضل حيث أنه لا يوجد مدين أكثر ضمانا من الخزانة الأمريكية.
ناهيك عن أن جميع وكالات التصنيف هى أمريكية.
وبسبب ذلك المركز الممتاز أصبحت كثير جدا من صناديق التأمين والمعاشات والبنوك والدول الأجنبية والشركات نحنفظ بقدر من أرصدتها على شكل سندات أمريكية مما جعل قدرا هائلا من المال يتدفق على الولايات المتحدة من كل أنحاء العالم. واليوم وصل حجم مديونية الولايات المتحدة 16 ألف مليار دولار أى حوالى خمس مرات قدر الأموال التى جمعتها الحكومة الأمريكية من السوق الداخلى لكي تمول العمليات العسكرية منذ 70 عاما. وأكبر دائن للولايات المتحدة اليوم هو حكومة الصين التى تحتفظ بأرصدة هائلة من الدولارات على هيئة سندات أمريكية على الخزانة.
وهكذا عن طريق هذه الترتيبات المالية ضمنت الولايات المتحدة بقاءها فى مركز متسيد للعالم بأسره إذ أنه بالإضافة إلى تلك السندات فقد إتفقت الدول على جعل الدولار الأمريكى هو العملة المرجعية التى تقوم بها كل السلع الاساسية كالذهب والقمح والبترول والسكر وغيرها. وجاء هذا الإتفاق فى معاهدة دولية كبيرة هى بريتون وودز التى كانت مؤتمرا عقد على الاراضى الأمريكية بمبادرة من الرئيس روزفلت عقب مرور أسابيع قليلة جدا على نجاح الإنزال المتحالف على الشواطىء الفرنسية فى نورماندي عام 1944. لقد كان الرئيس اللماح ذو الرؤية المستقبلية الثاقبة يرتب لأوضاع ما بعد الحرب فدعي الدول الغير معادية إلى هذا المؤتمر وحصل على مباركتهم جميعا لأن تصبح الولايات المتحدة هى القوة الأولى بلا منازع، وقد وقعوا جميعا بلا معارضة.
والآن وقد إنتهت الحرب بالنصر فقد أصبح للولايات المتحدة مركز متسيد كما أسلفت، فالمال متوافر، والصناعة العسكرية قد أنشئت، والإقبال على الدولار مرتفع بسبب مرجعيته الدولية وبالتالى بدأت الولايات المتحدة تقوم بدور القوة العظمى منذ ذلك التاريخ.
وهناك نقطة هامة للغاية لا يمكن إغفالها فى هذا السياق، وهى أن الولايات المتحدة لكي تستكمل عناصر قوتها العظمى كان لابد لها من تحقيق قصب السبق فى المجال التكنولوجى إذ أنها لم تكن على المستوى المطلوب. ولتحقيق هذا الغرض قامت بخطوتين فى غاية الأهمية.
كانت الخطوة الأولى هى تجميع عدد من العلماء والباحثين فى مشروع فيدرالى سري موحد هو مشروع مانهاتن فى لوس آلاموس بغرض بحث وتطوير ثم إنتاج القنبلة الذرية. وقد إستمر هذا المشروع حتى ما بعد إستسلام ألمانيا فى مايو 45 وإلى أن تم دك مدينتى هيروشيما وناجازاكى بالقنبلتين الذريتين وهذا موضوع قد سبق بحثه.
ثم كانت الخطوة الثانية هى تكوين طاقم من رجال المخابرات الخاصة مهمته وضع قوائم بأسماء العلماء الألمان الباحثين فى مجالات التكنولوجيا المختلفة من طيران وصواريخ وأبحاث ذرية وعلم أبحاث البيولوجى وأبحاث المواد (اللدائن بالذات) بغرض معرفة الأماكن المحتملة لوجودهم تمهيدا لخطفهم أو التحفظ عليهم عند نهاية الحرب تحرزا لاحتمال أن يأخذهم الإتحاد السوفيتى سبقا للولايات المتحدة، رغم أنهما كانا حليفين.
وقد نجح هذا الطاقم المخابراتى فى الحصول على معظم علماء ألمانيا وكذلك على البروتوتايب لطائرات لم تكن قد أنتجت بعد لها خواص إيروديناميك تختلف عن كل المألوف من الطائرات فى وقتها مثل طائرة هورتن Horten التى هى أساس الطائرة الشبح التى نعرفها اليوم.
وفى سياق هذه الخطوة الثانية قامت الولايات المتحدة بإدراج بند فى إتفاقية التسليم مع ألمانيا ينص على تنازل ألمانيا عن جميع الحقوق والبراءات المتعلقة باختراعات أو تطويرات أو نماذج منفعة لمنتجات، تنازلا لا رجعة عنه للحلفاء. وبذلك إكتملت دائرة التفوق الأمريكى الكاسح والتى عاش العالم داخلها لمدة نصف قرن من الزمان وحتى نهاية الحرب الباردة ونهاية الشيوعية.
ولكن...