كما عرفنا من قبل فإن الإدارة الأمريكية تحترم فى العادة القوانين واللوائح الصادرة عن الكونجرس والإدارات السابقة. إلا إذا..
إلا إذا كان الأمر يتعلق بمفهوم مطاط لا حدود له يدعى الأمن القومى. فالسيد/ فيرنهير فون براون كان عذوا فى الحزب النازى وكان يضع شارة الإس إس وكانت الإس إس هى الجهة المشرفة على أبحاثه وتجاربه فى مجال الصواريخ وكانت تجاربه فى مجال الصواريخ تحتاج إلى كثير من العمال للحفر والنقل وصب خرسانات القواعد وخلاف ذلك من الأعمال التى تحتاج إلى قوة بشرية كبيرة. وفى ظروف الحرب ونقص الرجال بسب وجودهم على الجبهة كان من يقوم بهذا العمل هم الأسرى من الأعداء أو المدنيون من الدول التى دخلها الجيش الألمانى وكانوا ينامون فى العراء بلا خنادق تقيهم شر الغارات الجوية بينما الخنادق والمخابىء يستعملها فقط الألمان المشرفون عليهم وكانت حصص الطعام لهم أقل من الألمان وكذلك نصيبهم فى الرعاية الطبية.
وهذه وحدها جريمة فى حق الإنسانية خلافا لجريمة الإنضمام لتنظيم إجرامى مثل الإس إس.
والقانون الأمريكى يمنع النازيين من الحصول على تأشيرة دخول الولايات المتحدة وعلى ذلك فأضعف الإيمان كان عدم السماح لفيرنهر فون براون بدخول الولايات المتحدة إن لم يكن تقديمه للمحاكمة.
إلا أن...
إلا أن شيئا من هذا لم يقع بل على العكس. فقد تم العثور عليه بسهولة، حيث أنه كان يريد التوصل إلى الجانب الأمريكى تفضيلا له على الجانب الروسي، ترحيله إلى الولايات المتحدة وإعفاؤه من المحاكمة وتوفير قدر معقول من الراحة له تحت رقابة الجيش إلى أن تم تكليفه هو وكثير من أفراد طاقمه بإنشاء مشروع الصواريخ الأمريكى. إذ أن أبحاثه فى ألمانيا كانت متقدمة عن المعروف فى أمريكا بحوالى 25 عاما فى ذلك الوقت.. وهذه الثغرة البحثية كان على فون براون أن يسدها نظير حريته.. وقد فعل وحصل على الجنسية الأمريكية رغم نازيته وماضيه المعروف..
والآن يجب على المرء لكي يتفهم العقلية الأمريكية التى كانت سائدة فى تلك الفترة لابد أن يضع نفسه محل أحد الضباط الكبار الأمريكيين فى ذلك الزمان.
أنت قد شهدت بلادك تضرب من قوة آسيوية ويتحطم أسطولها وتهدد بالغزو البرى وبأن يستعبد اليابانيون السكان البيض وعرفت أن بلادك لا حول لها ولا قوة وأنها على المرتبة رقم 16 بين دول العالم عسكريا. ولكن فى خلال عامين بالضبط من التركيز المالى والتسليحى والمخابراتى أمكن لك أن ترى بلادك وقد نجحت فى الهبوط الصعب على شواطئ فرنسا بعد أن هبطت هبوطا سهلا على شواطئ جنوب إيطاليا (بمساعدة عصابات المافيا) وأحكمت الكماشة من الغرب والجنوب على ألمانيا بينما الحليف الروسي يتقدم من الشرق وبالتالى وقعت ألمانيا فى مصيدة لا مهرب منها. كل ذلك كما أسلفت فى نطاق عامين إثنين. كما أنك رأيت بلادك تتسيد الجو بتفوق ساحق فى الطيران (بلغ عدد الطائرات الأمريكية من كل الأنواع ما لا يقل عن 300 ألف طائرة) وكلها من صنع مهندسيك ةمصانعك ومن خامات موجودة على أرضك وبتمويل إقتراضى من شعبك، أى أنك لا تحتاج إلى أحد.
إن الحرب العالمية الثانية وضعت أساسا جديدا للتصارع بين الكنتل البشرية، فلم تعد الشجاعة أو الخطة الحسنة أو الإستعمال الجيد للمعدات أو الخداع الستراتيجى هى روشتة النصر، وإنما تفوق الإمكانيات العددية والتكنولوجية. وأظن أن هذه الطريقة هى التى تتبعها إسرائيل فى الشرق الأوسط.
أما وأن الحال هكذا، فلماذا لا يفكر أى ضابط أمريكى كبير فى قيادة الأركان فى السيطرة العسكرية على العالم؟ لقد تكلفت القنبلتين الذريتين بكل الأبحاث التى أجريت خلال كل هذه السنوات فقط مبلغ 2 مليار دولار، بينما بلغ مقدار ما جمعته عملية الإقتراض السندى داخل أمريكا 185 مليار دولا، أى أن حوالى 1% فقط من حجم الأموال المتاحة قد وفر لك القنبلتين. وبهاتين القنبلتين تمت لأمريكا السيطرة على العالم عسكريا وأدبيا حيث لم يكن هناك من قوة تمتلك هذا السلاح الجديد غير العم سام الذى كان قبل 4 سنوات فقط غير قادر على أى عملية عسكرية كبيرة بسبب نقص التدريب والمعدات والخبرة.
ما أرخصه من عالم يمكن السيطرة عليه بسعر زهيد جدا !!!
وللمرء ان يتصور اثر هذه المعلومات عن قوة أمريكا العسكرية علي تفكير شباب ضباط جيش في نهايات العشرينات من العمر أسماءهم جمال وأنور وعبد الحكيم وصلاح وعبد اللطيف الخ.. وبالتالى فقد كان خيارهم واضحا.
ولكن بعد كل هذا التفوق والنجاح المكتسح لكل ما أمامه فى خلال 3 أعوام فقط كانت هناك الحاجة إلى التغطية الفكرية لهذه السيادة على العالم والتى لم تكن بعد قد وجدت. فمن بعد المال والعتاد والعسكر والسيطرة لابد من جعل هذه السيطرة جذابة فكريا.
فى كتاب محمد حسنين هيكل بين الصحافة والسياسة، وهو كتاب كرس بصفحاته التى تعدت 500 صفحة على ما أذكر، كرس للهجوم على مصطفى أمين ولتبرير إعتقاله لمدة تربو على 8 سنوات، قال هيكل أن الولايات المتحدة فى سعيها إلى نشر فكرها وطريقة حياتها ربما تكون قد ساهمت فى تمويل إنشاء عدد من الصحف فى العالم كله الهدف منها كسر التبعية لانجلترا وإنشاء التعاطف مع الفكر الأمريكى الذى لم يكن معروفا فى ذلك الوقت. وقال هيكل أن صحف أخبار اليوم وكيهان فى إيران قد أنشئوا فى نفس الوقت ومن جانب شباب لا ينتمى للمؤسسة القائمة (كان عمر مصطفى أمين 30 عاما عندما أنشأ اخبار اليوم).
وبصرف النظر إن كانت هذه المعلومة مضللة أو صحيحة إلا أن المنطق السليم يجعل من صحتها هو السياق الطبيعى للأحداث. فالولايات المتحدة لم تكن مشتبكة فقط فى حرب مع ألمانيا واليابان، وإنما كانت أيضا فى حالة حساب تكلفة وأرباح فى كل ما تفعل وما فعلت.