فإنَّ حصيلةَ هذا القرن، الذي يُعتَـبَرُ أكثرَ القرون السابقة تقدُّمًا، بل القَرن الذي حقَّق للبشريَّةِ أعظمَ المُنجزاتِ على الصَعيدَين العلميِّ والتِّقانيّ—أقولُ حصيلتهُ من الضحايا البشريَّةِ والكوارث الإنسانيَّة، الناتجة عن الصراعاتِ المباشرةِ وغير المباشَرة، بما فيها المسلَّحة والإيديولوجيَّة، قد بلغَتْ حدًّا لم يسبق له مثيلٌ في أيِّ قرنٍ سابق.
ذلك لأنَّ عددَ ضحايا الحربَين العالميَّتَين، الأولى والثانية فقط، يُقدَّرُ بـ61 مليونًا من القتلى، بما فيهم 33مليونًا من المدنيِّين و28 مليونًا من العسكريِّين، من الجانبَين. وتُصبحُ الحصيلةُ 76 مليونًا، إذا أضفنا 15مليونًا من ضحايا الحربِ الصينيَّةِ اليابانيَّةِ التي اندلعَتْ قبل الحرب العالميَّة الثانية مُباشرة. ويُضاف إلى كلِّ تلك الملايين من الضحايا ستَّة ملايين أُخرى من المدَنيِّين في الحروبِ الإقليميَّة؛ بل يُقدِّر ”بريجنسكي“ Z. Brezeneski مجموع عدد ضحايا حروب القرن العشرين بـ87 مليونًا من القتلى فقط، هذا بالإضافةِ إلى أضعافٍ مُضاعفةٍ لهذا العدد من الجرحى والمُعاقين والمشرَّدين.7
ومنذ نهايةِ الحرب العالميَّة الثانية، بلغ عددُ الحروب والصراعات المحلِّـيَّة والأهليَّة ما بين 150 و160 صراعًا، قُدِّرت ضحاياها بـأكثرَ من سبعةِ ملايين قتيل، دون إحصاءِ عدد الجرحى والمشوَّهي.
أمَّا الصراعاتُ غير المباشرة، بما فيها القوميَّة والدينيَّة والعِرقيَّة والإيديولوجيَّة، فيُقدَّر ضحاياها بـ80 مليونًا من القتلى فقط، أي بدونِ حساب المُصابين والمعاقين. وهكذا فإنَّ مُجمل حصيلة القرن الأخير من الإبادة الجماعيَّة يبلغ 167مليونًا، حسب التقدير المتحفِّظ. وقد يصل إلى 175مليونًا، حسب بعض التقديرات. ويُعادل هذا الرقمُ عددَ نُفوس فرنسا وإيطاليا وبريطانيا مجتمعةً تقريبًا.(انظر "بريجنسكي، "الفوضى"ترجمة مالك فاضل، "فصل الموت الملاييني"ص13-23)
ومع أهمِّـيَّة هذه الأرقام المذهلة، فإنَّ الدَلالةَ العدَديَّة لهذه الظاهرة تأتي ثانويَّةَ بالنسبةِ لدلالاتها النوعيَّة والمعنويَّة، فضلاً عن أبعادها العَميقة، خاصَّةً من جهةِ علاقتها بالتقدُّم الحضاريّ، ولاسيَّما العلميُّ والتِّقانيّ، الذي تحقَّق في القرن العشرين، وما أفرزَهُ من نتائجَ صالحةٍ وطالحةٍ في نفس الوقت، الأمرُ الذي يُشكِّلُ العمودَ الفِقَريَّ لموضوعنا.
ذلك لأنَّ التقدُّمَ العلميَّ والتِّقانيَّ قد أسفرَ عن تطوُّرٍ نوعيٍّ وكمِّيٍّ في القدرةِ على إبادةِ ”الآخَر“. فقبل اكتشافِ البارودِ وتطويرِ الأسلحة التقليديَّة وغير التقليديَّة المتنوِّعة كانت وسائلُ الحرب بدائيَّةً وبسيطة، مثل السيف والرمْح والفأس والقوس والسَهم والمنجنيق، وما إلى ذلك. وكانت جميعُ تلك الوَسائل تعتمدُ على القوَّة العضَليَّة، بوجهٍ خاصّ، والاستعدادِ النفسيِّ للقَتل، بصرفِ النظرِ عن مشروعيَّته أو عَدَمِها، الأمرُ الذي يمكنُ أن يُسفِرَ عن قَتل العشراتِ وربَّما المئات، في أقسى الأحوال، وبجهودٍ كبيرة، بسبِ محدوديَّة القُدرةِ الجسديَّة والنفسيَّة للمتحاربين. أمَّا اليوم فقد أصبحَ بالإمكان قيامُ شخصٍ واحدٍ فقط (القائدُ الأعلى للقوَّاتِ المسلَّحة مثلاً)، بإبادةِ ملايين البشر، بمجرَّد إصدار أمرٍ لا يزيدُ على كلمتَين، أو بإعلان ساعة الصِفر، وهو جالسٌ في مكتبه الفَخم، يحتسي قهوتَه الصباحيَّة، أو بالضغْط على زرٍّ صغيرٍ وهو مُستلقٍ على سريرهِ الناعم. وعلى الصَعيد الأَدنى، وفي حالةِ الاكتفاءِ باستخدام الأسلحةِ التقليديَّة، فإنًّ التقنيَّات المتقدِّمة للحَرب الحديثةِ الراهنة تُتيح للمحاربِ المدرَّب، في الجانبِ المتفوِّق حضاريًّا، وبالتالي عِلميًّا وتقانيًّا، أن يُدمِّرَ مئاتِ المُنشآتِ والمعدَّات المُستهدفة، بمن فيها من آلافِ الأشخاص، وهو جالسٌ في مقصورتهِ الأنيقةِ بأمان، في إحدى قِطعِ الأسطول، أو في القاعدةِ العسكريَّة، التي تبعدُ مئاتِ أو آلافَ الكيلومتراتِ عن الهدَف، أي دون أن يُضطرَّ إلى أن يُلوِّثَ يَدَيه بدماءِ قَتلاه أو يشهدَ تطايُرَ أشلاءِ ضَحاياه، كما كان يحدثُ في السابق، الأمرُ الذي قد يُعكِّر عليه صَفوَ ضميرهِ أو حَياته. بل أصبحَ بعضُ المقاتلين يَرَون في ضربِ مُنشآتِ العدوِّ وتدميرها بمَن فيها، مُتعةً أو لعبةً تُضاهي، أو تفوق كثيرًا، متعةَ ألعابِ الفيديو المشابهةِ لحرب النجوم الخياليَّة. وتُشير التقاريرُ الرسميَّة الأمريكيَّة إلى أنَّ مِقدار المتفجراتِ التي أُلقيت في حربِ الخليج الثانية قد بلغتْ 88 ألف طن،ّ أي ما يُعادل أربعَ قنابل نوَويَّة ونصفَ القنبلة تقريبًا، من حجم القنبلةِ التي أُلقيَت على هيروشيما اليابانيَّة. فهذه الكوارثُ التي شهدَتها أواخرُ القرن الماضي وأوائلُ القرن الحاليّ تُضيفُ شواهدَ أُخرى تُؤكِّد أنَّ الحضارةَ الحديثة، وما سبَّبته من ردودِ أفعالٍ مُتفاوتة، قد جَلبتْ معها ويلاتٍ لم تحدُثْ في أكثر الحِقب همَجيَّةً في التاريخ.
هذا التحليلُ المقرون بالشواهدِ الإحصائيَّة يثيرُ عدَّةَ تساؤلاتٍ تفصيليَّةٍ وجديدة، جديرةٍ بالتأمُّل، منها:
-هل ستُؤدِّي، زيادةُ التقدُّم العِلميِّ والتِّقانيّ، بالضرورة، إلى مُضاعفة عَددِ الضحايا، وإلى التدمير المُنظَّم للمُدن والمُنشآتِ، والبُنى التحتيَّة عمومًا، أو إلى زيادةِ حدَّة الصِراعات؟
-أم إنَّ المسألةَ لا تتعلَّق بالعلم والتِقانة، بقدْر ما تتعلَّق بالصِراع بين الجمَاعاتِ أو الأُمَم، لأسبابٍ مُختلفة، منها تحقيقُ الغَلَبـَة أو السلطة؛ أو بسبب تبنِّي أفكار أو عقائدَ مُتطرِّفة تُبرِّر الإرهَاب والقَتل، حسبَ رأي حَمَلتِها؛ أو بسبب الحاجة؛ أو الجَشع لكَسْب مَزيدٍ من المال؛ أو لمجرَّد التعطُّش إلى سَفك الدِماء لدى بعض المهووسين أو المجرمين بالطبيعة، كما يسميهم "لومبروزو"؛ أو من أجل الدِفاع عن مصالحَ حيويَّة مُعيَّنة تتعلَّقُ بالأرض أو الموارد الطبيعيَّة؛ أو للدفاع عن قوميَّةٍ أو ثقافةٍ أو إيديولوجيَّةٍ أو دين، وما إلى ذلك؟
-وبعد أن كانت صِراعاتُ القَرن الماضي بين القوميَّات/الإيديولوجيَّات، هل تحوَّلت الصراعاتُ اليوم فعلاً إلى صراعاتٍ بين الحضارات/ الثقافات، كما يقول صاموئيل هانْتِـنغتون S. Huntington؟
-وهل يمكنُ تحويل هذا الصراع، المفتَرَض، بين الحضارات، إلى ”حوارٍ“ بينها، كما تدعو إليه بعضُ الأصوات؟
-وهل يمكنُ أن يكونَ الحوار مُجديًا إذا تمَّ بين حضارةٍ قويَّة، بل مُسيطرة على جميع خيوطِ اللُعبة، وأُخرى ضعيفةٍ لا تعرف ولا تملك منها شيئًا؟ أم إنَّ شرطَ الحوارِ المُثمِر الأوَّل هو أن يكونَ قائمًا أصلاً على أساس الندِّيـَّة والمساواةِ الكاملة؟
وهذا سؤالٌ متوقَّعٌ من جانب مُمثِّل الحضارةِ الضعيفة. أمَّا مُمثِّل الحضارةِ المتفوِّقة، فإنَّه يرفضُ هذا الطَرح، ويُصِرُّ على أنَّ المسألة لا تتعلَّق بفارقِ القوَّةِ بين الطرفَين بقَدْرِ ما تتعلَّق بالفارقِ بين لُغةِ الحوار نفسِها التي تُحيله إلى حِوار طُرشان، ويتساءل:
-كيف يُمكن أن يكونَ ذلك الحوارُ مُجدِيًا إذا كان أحدُ الطرفَين يتحدَّثُ بلُغةِ القَرن الحادي والعشرين، بينما يتحدَّثُ الآخَرُ بلُغة القرنِ الثامن أو التاسع؟
وباختصار؛
لقد أصبحت نُظمُ المعرفةِ والعلم والتِّقانة وسيلةً للتدميرِ المنظَّم والسريع والشامل بقَدْرِ ما أصبحَتْ وسيلةً للتقدُّم الاقتصاديِّ والعُمرانيّ، ووسيلةَ قتلٍ جماعيٍّ للبشر بقَدرِ ما أصبحَت وسيلةً لإنقاذِ حياةِ البشر من الأمراض والجراثيم القاتِلة، ووسيلةً لتدمير البيئةِ والقضاءِ على التوازُن الطبيعيِّ لعناصرها الأساسيَّة بقَدْرِ ما أصبحَت واسطةً لتوفير الرفاهيَّةِ والمتعةِ المادِّيـَّة للفئةِ المحظوظة من البشر، ووسيلةً للاستعبادِ والتحكُّم والقَهر بقدْرِ ما أصبحتْ سبيلاً للدفاع عن حقوقِ الإنسان وحرِّيـَّةِ الفكر والتعبير، والتشجيع على الإبداع والابتكار.
وفي خضمّ هذه التناقضات العنيفة، أين تقفُ الأكثريَّةُ الساحقةُ من البشرِ الذين يعيشونَ في البلدان الناميةِ والفقيرة، بل ماذا سيكونُ مصيرُ الإنسانيَّةِ بأَسرها؟