هذه كانت عجالة تصف حال الولايات المتحدة بعد الحرب مباشرة ثم بعد صدمتى عام 1949 والآن قد جاء الدور عليها لتأخذ زمام المبادأة وتثبت أحقيتها فى زعامة العالم، فكيف كان ذلك؟
كان السوفيت يعتقدون أنهم ماضون من نصر إلى نصر ذلك أن الصين الشعبية التى أعلن ماوتسى تونج عن قيامها فى أكتوبر من عام 1949 كانت بلدا يدور فى الفلك السوفيتى بصفة كاملة.
وهكذا تم إستئذان القائد الإشتراكي الأول جوزيف ستالين فى البدء فى عملية تحدي الغرب فى كوريا فوافق بشرط واحد قال به لماوتسى تونج وكيم إيل سونج، أنا أقرر كل شىء ولكننى لا أساهم بشىء!!!
أى أن التضحيات والحرب سوف تكون على الجانب الآسيوى (كوريا والصين) بينما إدارة المعركة سوف تكون إمتيازا له وحده من موقعه فى الإتحاد السوفيتى، ووافق الزعيمان الآسيويان..
وهكذا بدأت الحرب فى كوريا فى يونيو 1950 بغزو شمالى للجنوب وحصار لكل مدنه وخزى وعار للعسكرية الأمريكية (وهو خطأ فى التقدير من الجنرال ماك أرثر الذى طمأن الرئيس إلى أن الصين لن تدخل المعركة) مما جعل الرئيس ترومان يأمر بالرد الحاسم.. وبالفعل نجحت القوات الأمريكية فى صد الغزو بل وأجبرت قوات الشمال على التقهقر إلى داخل حدود الصين الشعبية مما أغرى الأمريكيين باختراق الحدود الصينية ودخول أرضى الشيوعيين. ولكن الوعد الصينى للرئيس كيم إيل سونج قد تم تنفيذه بالكامل، ففوجئت القوات الأمريكية بجيش صينى يبلغ قوامه ما بين 300 و400 ألف رجل يحاصرها من كل الجهات ولا يخيفه القصف الجوى ولا المدفعى وقد تسلل بينما الأمريكيون فى غفلة من أمرهم.
وقد وقعت إصابات هائلة فى صفوف القوات الأمريكية ليس بسبب القتال بل أثناء محاولة الإنسحاب من هذا الجحيم، خصوصا وأن شتاء ذلك العام قد حل والقوات غير مستعدة بأى تجهيزات.
وفي هذا الموقف العصيب لم يجد ترومان بدا من إعلان حالة الطوارىء ورفع ميزانية الدفاع إلى أربعة أمثالها لمواجهة الخطر الأحمر.
وهذا الرفع الهائل للميزانية العسكرية يعنى بالطبع ما يعتيه للمؤسسة الصناعية العسكرية إذ فتحت الدولة من جديد خزائنها نظرا لأحكام الضرورة كما كانت قد فعلت قبل 9 سنوات ولم تبخل على تلك الشركات بأى شىء من عدة ومال وأبحاث ورجال ومجندين.
ويعد هذا الموقف ربما أكثر المواقف حرجا للولايات المتحدة منذ غارة بيرل هاربور إذ أن تلك الغارة جاءت خسائرها فادحة بفعل المفاجأة والغدر من جانب اليابان. أما فى حالة كوريا فقد كانت القوات بالفعل فى حالة حرب ومشتبكة مع قوات كوريا الشمالية وعلى مسافة هائلة من الولايات المتحدة وكان ينبغى لها أن تكون أكثر حرصا وأقل إستهتارا. وهذا الإستهتار كان سببه ربما الإقلال من قدر الآسيويين من بعد النجاح فى تحطيم إرادتهم فى هيروشيما وناجازاكى بالإضافة إلى الشحن الإعلامى الهائل الذى ساد الولايات المتحدة عقب سقوط الصين فى أيدى النظام الماركسى وهو ما أدى إلى حملة مسعورة داخل الولايات المتحدة تلاحق وتطارد كل من تحوم حوله شكوك أنه كان يوما قد تعامل أو تعاطف أو حتى تلاقى جسديا مع شخص له ميول شيوعية، إنها حملة ماكارثى التى على قدر ما كانت مدمرة لعلاقات إجتماعية وقاطعة لعقود عمل الكثيرين بلا سبب إلا الإشتباه، فتلك الحملة المسعورة لم تجىء إلا خيرا على المؤسسة العسكرية الصناعية إذ أن العقود التى كانت تبرمها معها حكومة الولايات المتحدة (المديونة) كانت أرباحها على ما يبدو خيالية.
واستمر الوضع ساخنا على جبهة كوريا واستمر تدفق المليارات على التسليح حتى حل موعد الإنتخابات فى نهاية عام 1952 وفاز الجنرال المتقاعد دوايت آيزنهاور بالبيت الأبيض وكان أساس إنتخابه هو أنه تعامل من قبل مع القيادة ويستطيع أن يقود أمريكا فى تلك الظروف العصيبة إذ أنه قد خاض غمار الحروب ودفع فيها الثمن وبالتالى فهو مؤتمن على الولايات المتحدة فى حالة الحرب القائمة هذه. وهكذا إنتهت فترة رئاسة الرئيس هارى ترومان الذى قرر ألا يستعين بالقنابل الذرية فى حربه ضد الصين فى كوريا بل وأحال الجنرال الذى طالب بهذا الإستخدام الذرى العسكرى إلى التقاعد فى خطاب شهير إلى الأمة قال فيه أن قضية السلام هى أعلى من كل شخص مهما كانت عبقريته العسكرية، قاصدا الجنرال دوجلاس ماك آرثر بالطبع.
أما آيزنهاور فقد كان مؤمنا بأن خوض حرب بجنود أمريكيين فى آسيا هو من الأخطاء الفادحة حيث أن الآسيويين لا يمكن أن يهزموا على أرضهم، كما يروى عنه أنه قال أن الأمريكيين لا يعرفون كيف يفرقون بين العدو والصديق فى آسيا وأن الأفضل لأمريكا أن تظل بعيدة عن آسيا عسكريا وتدعمها فقط بالمال وإمدادات السلاح.
وآيزنهاور كان قد خدم فى الحرب مع ضباط إنجليز كثيرين أشهرهم مونتجومرى الذى كان مرؤوسا لآيزنهاور القائد العام. والعلاقات بينهما لم تكن على ما يرام بسبب التنافسية وبسبب تباهى مونتجومرى بنفسه ومحاولاته التعدى فى بعض الأحيان على سلطة رئيسه الأمريكى.
وآيزنهاور كرس مدتى رئاسته لكي يقلص من نفوذ إنجلترا فى العالم كله وبالذات فى الشرق الأوسط موطن البترول.
وبما أن عملية تقليص نفوذ إنجلترا لم تكن عملية عسكرية بل هى سياسية مالية مخابراتية فلم تكن لديه حاجة إلى مؤسسة عسكرية إقتصادية صناعية مالية تتحكم فى قراره.
أما فى تعامله مع الإتحاد السوفيتى فلم يكن ميالا للمواجهة وإنما لإيجاد وضع متزن لا يخل بالمصالح الأمريكية كقوة عظمى وفى نفس الوقت لا يجازف بوقوع حرب إذ أنه كان يكره الحروب بعد أن خاض غمارها بنفسه. وهذه الظاهرة هى غالبة فى كل من خاض حربا، إذ يلحظ المرء أنهم جميعا لا يريدون تكرار هذه التجربة أبدا ولا يريدون لغيرهم أن يدخل فيها بل ويتحاشون مجرد الحديث عنها من الأساس.
والمؤسسة الصناعية العسكرية الأمريكية كانت تمارس ضغوطا على آيزنهاور حتى يزيد من ميزانية الدفاع باستخدام حجج كثيرة جدا كان آخرها نجاح الإتحاد السوفيتى فى إطلاق أول قمر صناعى فى عام 1957 فى سبق واضح على الولايات المتحدة. والملاحظ أيضا أن برنامج غزو الفضاء الأمريكي لم يبدأ حقا فى التحرك صوب التنفيذ إلا بعد أن رحل آيزنهاور من البيت الأبيض فتبناه كيندى الذى سأل فون براون فى لقائهما معا فى بداية رئاسة كيندى عن تقديره لتكاليف المشروع فرد فون براون بتقدير يصل إلى 25 مليار دولار، أى ما يعادل أربعة أمثال تكاليف مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة الذرية بحساب فرق الأسعار والتضخم عبر الزمان، فوافق الرئيس فورا..
وآيزنهاور لم يكن على ما يبدو محبوبا من هذه المؤسسة الصناعية إذ أن الإعلام الموالى لها كان دائما يستهدفه فى تعليقاته وسخرياته. وهو قد رأى مبكرا جدا أن التغيير الذى أصاب الإقتصاد الأمريكى بالإعتماد على المؤسسة الصناعية العسكرية فى إيجاد فرص العمل لا يبشر بالخير لأن الأمة لا ينبغى لها أن تنزلق إلى سباق مجنون فى التسلح بدون وجود عدو حقيقي واقف على الابواب، وإلا أصبحت الحرية معرضة للخطر. وهو قد أصاب الحقيقة فى تحليله هذا. وهذا الذى تنبأ به آيزنهاور هو ما حدث بعد ذلك فى فيتنام، وهو ما كان أصل فكرة كتابة هذه الملاحظات، وقصة فيتنام قد عرفناها وما وقع بعد ذلك فهو حدث آخر وله حديث آخر..
إنتهت الملاحظات..