تأليف : محمد السويسي
شهد العام 2011 ارتفاعاً هائلاً بأسعار الذهب بشكل غير مسبوق أو متوقع مع إقبال عامة الناس في كل انحاء العالم على إقتنائه دون وعي لما رافقه من دعايات مضللة بأنه أفضل ملاذ آمن للإدخار ؟! وبذلك ساهموا عن غير وعي منهم في ارتفاع أسعاره . فهل أن الذهب هو فعلاً المكان الملائم والأفضل للمدخرات والمحافظة على قيمها بالنسبة لأصحاب الدخل المحدود والموظفين والطبقات الوسطى ؟!
هذا ما سأحاول الإجابة عنه بعد تبيان أسباب الإرتفاع ، وفق التالي :
أسباب إرتفاع الذهب : يعتبر الذهب إحدى أهم المعادن الرئيسية الثمينة منذ القدم نظراً لاعتماده كوحدة نقدية عالمية قيمة ، لندرة استخراجه ومرونته في السحب والطرق وثبات معدنه ، إلى أن تم اعتماد النقد الورقي الأمريكي كوحدة متداولة عالمياً كما الذهب على أبواب الحرب العالمية الثانية عقب أزمة الكساد السلعي التي ضربت أمريكا وأدت إلى إتفاقية بريتون وودز .
وبدلاً من تراجع قيم الذهب وتداولاته مع تقدم النقد الورقي عليه ، إلا إن حاجة التوسع الصناعي له في بعض أنواع السلع وإقبال النساء على إقتنائه ، جعله محافظاً على ثبات سعره لفترة طويلة إلى أن أصبح خاضعاً للتقلبات السياسية كأداة ضغط أمريكية ووسيلة غادرة مدروسة لجني الأرباح الفاحشة من قبل المؤسسات المالية وقد أضحى جزءاً من أعمال البورصة الإحتيالية التي تقوم على الدعاية المغلوطة كما دعايات الأسهم تحت إشراف وتوجيه أسواق وول ستريت الأمريكية .
ولكن السؤال يبقى مطروحاً لما هذا الإرتفاع الكبير المفاجىء لأسعار الذهب ؟ وهل سيستمر ؟! وإلى متى؟!
لم تكن تلك المرة الأولى الذي ترتفع فيها أسعار الذهب عالياً . فلقد سبق أن تضاعف سعره في الثمانينات ثم ليعود إلى الإنخفاض بعد فترة وجيزة . إلا أنه لم يكن ليستقر مع التذبذب الدائم ضمن هامش مقبول .
اما أسباب إرتفاع أسعاره الى هذا المستوى في الفترة الأخيرة فإن ذلك ترافق مع إرتفاع أسعار برميل النفط الذي قفز من ثلاثين دولاراً حتى كاد أن يلامس المئتي دولار بسرعة خارقة لو ظل على نفس الوتيرة في الإرتفاع التي اوقفتها الضجة العالية لأصحاب المصانع الأمريكية والأوروبية في الضرر الذي لحق بتكلفة إنتاجهم . وماارتفاع أسعار النفط إلا إحدى التخطيطات الأمريكية الخاطئة أثناء ولاية الرئيس جورج بوش الأبن إلذي أخذ برأي مستشاريه من أمثال ديك تشيني بأن رفع اسعار النفط هي أفضل وسيلة لضرب الإقتصاد الصيني وتطويعه للإرادة الأمريكية لإجبار الصين على رفع أسعار عملتها الوطنية /اليوان/ إلى أقصى حد ممكن بما يزيد من تكلفة السلع الصينية الإغراقية بحيث يتيح للسلع الأمريكية من مواجهتها ومنافستها ؟! . وقد فات امريكا أنه لو رفع سعر برميل النفط إلى خمسمئة دولار فإن ذلك سيكون بمثابة سيف ذا حدين لأنه سيزيد أيضاً من تكلفة تصنيع السلع الأمريكية والأوروبية .
وعليه فإن المشكلة المزمنة ليست في رخص أسعار النفط بل في تدني اجور العامل الصيني الذي يعادل أجره الشهري أجر عامل أمريكي في يوم واحد ؟! لذا ، فكيف يمكن منافسة السلع الصينية بالسعي إلى رفع أسعار النفط ، وأجر العامل الأمريكي مرتفعة جداً قياساً بأجر العامل الصيني ؟!
لقد كان احتلال العراق من قبل أمريكا في العام 2003 لهدف أساسي وهو رفع أسعار النفط مع رفض حكومته وقتذاك التقيد باسعار منظمة أوبيك . بل أن العراق قد عمد وقتذاك إلى بيع برميل النفط بخمسة عشر دولاراً في محاولة منه لمعاداة الغرب وقهر صناعاته والإضرار بها وفق مفهومه ، كما الإلتفاف على قرارات الأمم المتحدة التي وضعت يدها على نفط العراق وبيعه من قبلها وفق معادلة النفط مقابل الغذاء لتعويض الكويت عن الأضرار التي لحقت بها وبدول أخرى من جراء إحتلاله للكويت .
إن الضرر الذي لحق بالصناعات الأمريكية والغربية من جراء هذا التدبير برفع اسعار النفط بما لايحتمل جعل أمريكا تتراجع سريعاً عن هذا التدبير وخفضه الى المئة دولار وما دون ، خاصة وان الصين تملك من الآبار النفطية مايجعل رفع اسعار النفط بلا جدوى في مضايقة كلفة إنتاج سلعها الرخيصة الثمن .
إلا أن امريكا لم تتراجع ولاتزال عن محاولات إحتواء الإقتصاد الصيني ومحاولات إجبار الصين على رفع سعر عملتها الوطنية أو رفع كلفة سلعها الإغراقية ، لذا اعتمدت اسلوباً آخر تمثل بإرهاق الإقتصاد الصيني ككل وهو التخلي عن السير برفع أسعار برميل النفط إلى ثلاثمئة دولار كما كان مخططاً له واستبداله بخطة أخرى لاتقل عنها سؤاً وهو برفع اسعار الحبوب والمواد الغذائية إلى عدة أضعاف كما رفع اسعار الذهب بنفس الوتيرة بعد تنشيطه في أسواق البورصة بالدعايات المخادعة لجني الأرباح الفاحشة بأنه افضل ملاذ آمن للإدخار ؟! وبأنه إلى ارتفاع بلا حدود ؟!
وبذلك ضاعت اموال المشترين ، المخدوعين بالتهافت على شراء الذهب ، لأن قيمها لن تختلف على المدى الطويل في شراء حاجياتها ولكنها تدنت مع التلاعب باسعار الذهب الذي جعلوه مخزناً لقيم مدخراتهم للمحافظة على ثباتها ، إلا أنها ضاعت بين ارتفاع وهبوط كما هو متوقع وفقاً لأسلوب أسواق البورصة بالتلاعب بالأسهم القائمة على أعمال الإحتيال والسرقة والنهب لأموال صغار المساهمين الذين يدخل معظمهم في لعبة الشراء بروح المقامرة طمعاً في الربح السريع وبالتالي يفقدون أموالهم أو جزءاً منها كما في صالات القمار .
ومع إدراج الذهب في أسواق البورصة فإن نهج التلاعب بأسعاره هي ذاتها المعتمدة في الأسهم ، إلا أنه أكثر إغراء لأنه أكثر اتساعاً في مواقع التدوال لسهولته في عمليات البيع والشراء خارج سوق البورصة أيضاً .
تأثيرات رفع أسعار الذهب على الصين ؟ الواقع إن تصرفات أمريكا في رفع أسعار الذهب هي مواقف تتصف بعدم الإتزان وقلة التبصر والتقدير لأن ضررها عاماً ولا يقتصر على الصينيين فقط كما ولا يؤدي إلى رفع اسعار العملة الصينية أو سلعها كما تشتهي أمريكا ، لذا فقد اقتصرت الفائدة منها على مافيا البورصة وأثرياؤها . فالصين وإن كانت تستعمل المشغولات الذهبية المقلدة التي تستهلك عشرات الأطنان سنوياً إلا أنها لاترقى إلى زيادة الكلفة بمضاعفة اسعارها كما وأن استهلاك الشعب الصيني للذهب كاستعمال شخصي يظل محدوداً ودون التأثير على إقتصاده .
إلا أن أمريكا قد توسعت عمداً في الأزمة المالية وإطالة أمدها للإستيلاء على أموال كبار المساهمين المودعة في مصارفها من أشخاص ودول لآلآف المليارات من الدولارات كنهج متبع كل عقد من الزمن من أجل كبح تضخم نقدها للمحافظة على قوة الدولار كعملة متدوالة ومقياس عالمي مقبول بين الدول في أعمال البيع والشراء الذي يعني هيمنة أمريكا وقوتها الإقتصادية والمالية .
وبالخلاصة فإنه مع فشل محاصرة الإقتصاد الصيني وإضعافه من قبل أمريكا لصالح النهوض باقتصادها فإنها إضطرت مرغمة إلى استبدال الإستمرار في رفع اسعار النفط بخطة فاشلة أخرى اعتمدت رفع اسعار الحبوب والذهب لامتصاص التضخم المالي لديها تعويضاً لفارق تخفيض أسعار النفط التي ماكانت لتتراجع عنه لولا إنعكاسها السلبي على الداخل الأمريكي مع وصول سعر البرميل الى المئة وسبعون دولاراً.
تأثيرات رفع أسعار الحبوب على الصين : لقد استفادت الصين بشكل كبير من إرتفاع اسعار الحبوب بشكل فاحش غير مسبوق بما عاد عليها بفائدة كبيرة على غير ماتوقعت الولايات المتحدة والغرب . إذ كانت تعتقد بأن الصين ستضطر إلى رفع الأجور لعمالها بشكل عال تعويضاً عن غلاء أسعار الحبوب بجانب غلاء أسعار النفط مما سيرفع من كلفة التصنيع لتعويض فارق أسعار النقل وفارق أسعار الغذاء .
إلا أن الأمر جاء على عكس ماتشتهي أمريكا بما ينطبق عليه المثل "رب ضارة نافعة "وقد استغلت الصين هذا الأمر بشكل إيجابي كبير إذ كان قد بدأ يظهر لديها مشكلة النزوح من الريف نحو بكين والمواقع الصناعية الأخرى بشكل كثيف بغرض العمل بما يزيد عن حاجة المصانع مما أدى الى بروز مظاهر الفقر والبطالة التي بدأت ترسم خطوطها ضمن هذه المدن وتطبعها بطابع مزعج مما أقلق السلطات الصينية التي أخذت تفكر في حلول جدية لمنع تفاقم هذه الحالة المستجدة حيث كانت قد فشلت معظم محاولاتها لحثهم بالعودة إلى قراهم التي تعتمد معظمها على الزراعة التي لاتعود على قاطنيها بفائدة تذكر سوى سد حاجتهم من الطعام الضروري اللازم مع عمليات التبادل والمقايضة فيما بينهم بالإنتقال من قرية إلى أخرى . كما وأن الأمر كان متعباً مع ضآلة المردود المادي ومشقة السفر والتنقل بين المدن بوسائل بدائية في دولة مترامية الأطراف لبيع ماتبقى من محاصيلهم .
ولكن مع إرتفاع اسعار الحبوب عالمياً بما فيه من ربح وفير فقد بدأت وفود النازحين للمدن ومعظمهم من المزارعين بالعودة إلى قراهم بتشجيع من الحكومة التي اخذت تولي الإهتمام للريف بشق الطرقات وربط القرى فيما بينها بالطرق المعبدة والسكك الحديدية ، كما وتقديم القروض السكنية وقروض استصلاح الأراضي والتوسع في الزراعة الكثيفة وتقديم الخدمات المجانية لمساعدة المزارعين على تحسين إنتاجهم وتأمين البذور بأدنى سعر ممكن مع استحداث مراكز لشراء محاصيلهم بسعر مجز ، عدا التوسع في التأمينات الإجتماعية والصحية . إلى حد أنه بدأ الخوف من توجه الكثير من عمال المصانع المهرة للعودة إلى قراهم للمساهمة في الزراعة التي أضحت أكثر ربحاً من العمل في المصانع مما اضطر الشركات إلى زيادة الرواتب في قطاعات عدة تحتاج لعمال مهرة خوفاً من إنتشار حمى التسرب نحو القرى بما يعطل أعمالهم .
أمريكا المستفيد الأول : إن التذبذبات في أسعار النفط والحبوب والذهب وارتفاع اسعارها بشكل مقلق ومزعج أدى إلى سلبيات أودت باقتصاد أوروبا والدول الصغيرة مع تراكم الديون عليها إزاء هذه الزيادات في السعر التي زادت من كساد السلع المصنعة محلياً وبالتالي تنامي البطالة التي انعكست تردياً إجتماعياً إلى حد الإنفجار الشعبي بفعل الضيق المادي في الدول الغير نفطية مع غياب التأمينات الإجتماعية والصحية أو ندرتها . لذا فإن الإنفجار الشعبي في دول عدة كان نتيجة طبيعية وحتمية لهذا الأمر الذي كان المقصود منه في الأساس ، وفقاً للأهداف الأمريكية بتفجير الوضع الإقتصادي والإجتماعي في الصين قبل أي بلد آخر . ولكن تجري الرياح بما لاتشتهي السفن مع ملائمة ماجرى والمصلحة الصينية الداخلية مما يدل على ضعف الإجتهادات الأمريكية وقصور نظرتها الإقتصادية ، إلا أنها تظل المستفيد الأول والأخير فيما يجري ، لسبب وحيد وهو أن النفط بشكل عام والذهب بشكل خاص لايتم التدوال به إلا بالدولار مما يزيد من قوته ويحد من تضخمه .
متى سينخفض سعر الذهب ؟ ويبقى التساؤل الملح الأخير المطروح من الجميع وهو هل سينخفض سعر الذهب ؟ ومتى ؟ :
والجواب أنه في الواقع فإن أوقية الذهب قد انخفضت من الألفي دولار تقريباً الى الألف وستمئة عند كتابة هذا المقال في 5/1/2012 إلا أنه لايعتبر انخفاضاً مستقراً ، إذ أنه وفقاً لما عرضناه أعلاه مرتبط بتذبذبات أسعار النفط وفق الآلية التالية :
إن ارتفعت أسعار النفط فإن اسعار الذهب تنخفض لتعويض فارق السعر وتوازنه بين سعر البرميل وسعر الذهب للجم التضخم عند حدود معينة . وإن انخفضت أسعار برميل النفط فإن أسعار الذهب سترتفع حتماً لضبط هذا التوازن الذي أشرنا اليه في لجم التضخم . إلا أن هذه المعادلة قابلة للتعديل بشكل مؤقت إن تصاعد الخلاف على موضوع معين بين أمريكا والكرملين فعندها قد تعمد وول ستريت إلى تخفيض سعر اوقية الذهب دون الألف دولار لإزعاج الروس عند عرضهم لبيع بضع مئات من أطنان الذهب التي يقدمون عليها كل عدة سنوات من مخزونهم إن احتاجوا لبعض السيولة من النقد الأجنبي أي من الدولار .