ثم يقول: "ولا يتسنى لزاعم متزمت اتهامي بأني أنكرت نصًّا من القرآن؛ لأني جعلته أقصى العقوبات الزواجر، وأقصى الروادع، التي يلجأ إليها، وذلك على نحو من التأويل المقبول الذي لا يحمّل النص ما لا يحتمل" (١).
ثم يقول: "ومهما يكن فالرأي عندي في الحدود مطلقًا أنها في الشريعة العملية ليست مقصودة بأعيانها، بل بغاياتها، ولا يلجأ إليها إلا عند اليأس مما عداها" (٢).
* فهمي هويدي: "الحق أحب إِلينا منه":
"كتابه مواطنون لا ذميون"
مع أن له مواقف مشهورة في الذود عن الإسلام إلاّ أن له سقطات شنيعة لا يجوز بحال من الأحوال السكوت عنها.
فهو يعتبر أن الرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة عبادة لهذه النصوص، ويصف أن العقول التي تتعلق بالنصوص قد تعطلت وأن هذه "وثنية جديدة"ذلك أن الوثنية ليست عبادة الأصنام فقط، ولكن وثنية هذا الزمان صارت تتمثل في عبادة القوالب والرموز، وفي عبادة النصوص والطقوس" (٢).
لقد تجرأ على رفض النصوص الشرعية، واتهم من يرجع إليها بالجمود والوثنية، اللَّهم لطفك وغفرانك.
* مواطنون لا ذميون:
أكثر فهمي هويدي من الحديث حول أهل الذمة، وأظهر أن الأحكام المضروبة عليهم والمعروفة باسم "أحكام أهل الذمة"قد كانت لظروف خلت
.وأن تطور العصر يرفضها. وممن تصدّى لهذه المسألة وخصص لها كتابًا: فهمي هويدى بعنوان "مواطنون لا ذميون" (١) نقتطف منه بعض الفقرات.
- يقول في فصل "ذميون .. لا يزالون"؟:
"إن تعبير أهل الذمة وإن استخدم في أحاديث النبي وعهوده إلا أنه كان جزءًا من لغة الخطاب في تعامل القبائل العربية قبل الإسلام، إذ كانت عقود الذمّة والأمانة هي صيغة التعايش التي تعارف عليها عرب الجاهلية .. ".
"أي أننا نقف في حقيقة الأمر، في مواجهة صيغة لا تستند إلى نص قرآني، واستخدامها في السنّة النبوية كان من قبيل الوصف لا التعريف، الأمر الذي لا يصنفه في أي من درجات الحكم الشرعي الملزم، بالإضافة إلى ذلك فإن الوصف .. وإن لم يكن الوحيد الذي استخدم في خطاب الآخرين، إلا أنه كان تعبيرًا عن حالة "تعاهدية"تعارف عليها عرب الجاهلية في تنظيم علاقات القبائل والأفراد، استمر إلى ما بعد الإسلام ضمن ما أخذ به من تقاليد وأعراف" (٢).
- وتحت خضوع شديد لضغط الواقع يقول:
"وبعد هذا وذاك أليس غريبًا أن يجيز الفقهاء، أن يخوض المسلمون الحرب دفاعًا عن "أهل ذمتهم" (٣)، ثم يحجب البعض عن هؤلاء حق التصويت في انتخابات مجلس الشورى مثلاً؟ ". ثم يقول: "أما تعبير أهل الذمة، فلا نرى وجهًا للالتزام به، إزاء متغيرات حدثت، .. وإذا كان التعبير قد استخدم في الأحاديث النبوية، فإن استخدامه كان من قبيل الوصف، وليس التعريف، فضلاً عن أنه كان بمثابة استخدام للغة ومفردات وصياغات
.سادت في جزيرة العرب، قبل الإسلام، ويبقى مع ذلك أن هذا الوصف "تاريخيًّا"، لا يشترط الإصرار عليه دائمًا" (١).
- فالكاتب يحاول إلغاء الأحكام بلا دليل، إلا زعمه أن ذلك أمر تاريخي فقط، وكأن الاجتهاد في الإسلام تحول إلى لعب أطفال، أو خيال كتاب، وأوهام مبتدعة.
- وفي فصل "الجزية .. التي كانت"يقول:
"ومن غرائب ما قيل في هذا الصدد تعريف ابن القيم للجزية بأنها هي الخراج المضروب على رءوس الكفار إذلالاً وصغارًا، وأن هذا يتنافي مع روح الإسلام، ودعوته للمسامحة بين الناس جميعًا" (٢) -إن أكرمكم عند الله أتقاكم-.
- وللأستاذ فهمي هويدي اجتهاد مبتكر في فهمه للأحاديث النبوية والنصوص الأخرى المتعلقة بمعاملة المسلمين لغير المسلمين. يقول الكاتب تحت عنوان "شبهات وأباطيل":
يهمنا ذلك في محاولة لفهم وقراءة هذه النصوص وهي على وجه التحديد.
١ - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها"متفق عليه.
٢ - ما أخرجه الإمام مالك في "الموطأ": "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان".
٣ - عهد عمر - رضي الله عنه - في معاملة غير المسلمين .. (١).
- يقول فهمي هويدي: "لا يؤخذ من الأحاديث عادة إلا ما كان مقصودًا به التشريع العام والاقتداء".
"والأحاديث السابقة، كانت إجراءًا استثنائيًّا في ظروف استثنائية، فالحديث الأول: يخالف نصوصًا أخرى تدعو إلى رد التحية بأحسن منها، ولكن اليهود كانوا يتظاهرون بالتحية للرسول وأصحابه بعبارة "السام عليكم"أي الموت. أما عهد عمر - رضي الله عنه -، فالكاتب يشكك في صحته تاريخيًّا من حيث السند!! (٢).
- لقد حكمت الشريعة الإسلامية بضعة عشر قرنًا من عمرها، لم يعرف في التاريخ عدلاً وإنصافًا ورحمة بأقليات دينية كما عرفها في تلك القرون تحت مظلة الشريعة، بل كانت الطوائف تفر من بطش أبناء دينها لتنعم بالأمن والاستقرار في ظل عدل الإسلام وإنصاف المسلمين.
* فهمي هويدي والقتال في سبيل الله والتعايش السلبي بين الشعوب:
- ويكتب فهمي هويدي كثيرًا عن هذا الموضوع ويردد آراء المستشرقين الحاقدين. ويعتبر أن القتال يعطل رسالة التبلغ، يقول: "ومنذ البداية سلح الله المسلمين بالكلمة، وكان أول ما أنزل الله على نبيه هو: (اقرأ وليس اضرب)، أو (ابطش)، فكان كتاب المسلمين هو "القرآن الكريم".
"لم يكن سلاح المسلمين سيفًا ولا سوطًا، ولم تكن شريعتهم قانون حرب .. ".
"إن القتال في التصور الإسلامي ينبغي أن يظل منعطفًا يُكرَه إليه المسلمون، أو نوعًا من "الهبوط الاضطراري"، الذي يعترض المسار الطبيعي لرحلة التبليغ الإسلامية.
من هنا فإن الإسلام يظل ضرورة لازمة، كي يؤدي المسلمون رسالة التبليغ، ويظل القتال عنصرًا معطلاً لأداء هذا التكليف الإلهي" (١).
- وفي فصل: "عندما يشهر سيف الإسلام"يقول: "وهكذا تتابعت الفتوح بحكم الضرورات الحربية وحدها .. وجاهد المسلمون أنفسهم والناس جهادًا كبيرًا ليؤمنوا دولتهم" (٢).
وفي تأويله للحديث الشريف "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله" (٣). يقول: "وحقيقة الأمر أن المعنى بالناس هنا ليس كل البشر، وإنما هم جماعة من البشر"؟!!.
وحديث: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق" (٤).
- يقول في هذا الحديث: "الحديث لا يدين كل مسلم لا يقاتل في سبيل الله، الأمر الذي قد تشتم منه رائحة التحريض، التي يحاول البعض اصطيادها من السياق ..
ولا نرى في الحديث وجهًا لاستثارة المسلمين على غيرهم، ذلك أن. الأمر كله كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. " (١).
أي أن هذه الأحاديث كانت لمناسبات تاريخية انتهى زمنها.
* أخطر أقواله:
ومن أخطر أقواله قوله: "إنه ليس صحيحًا أن المسلمين صنف متميز ومتفوق لكونهم مسلمين، وليس صحيحًا أن الإسلام يعطي أفضلية لهم، ويخص غيرهم بالدونية لأنهم كفار" (٢).
وفي ذلك دعوة لمبدأ الإنسانية الماسوني، وهو صورة واضحة من صور الولاء للكفار؛ لأنه يكسر التميز الذى يبنى عليه الولاء والبراء، والحب والبغض حسب المقياس الإسلامي الصحيح (٣).
* د. أحمد كمال أبو المجد يدعو إلى الاجتهاد في الأصول:
يدعو الدكتور أحمد كمال أبو المجد إلى الاجتهاد في الأصول، إذ كتب يقول: "والاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم، ويحتاج إليه المسلمون، ليس اجتهادًا في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول .. ولا يعني امتناع الاجتهاد في الأصول، إلا التزامًا بما لا يلزم، وتقصيرًا في بذل الجهد بحثًا عما ينفع الناس" (٤).
* ومن أخطر أقواله:
- ينعي الدكتور أحمد كمال أبو المجد على الذين يسرفون في القول
.بتميز الإسلام على غيره، كاليهود والنصارى، فذلك مخالف للقرآن الكريم ذاته -كما يزعم-.
يقول: "والذين يسرفون في الإلحاح على تميز الإسلام والمسلمين تميزًا شاملاً مطلقًا محجوجون بنصوص القرآن الكريم، التي تصف أنبياء الله بوصف الإسلام: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: ٦٧].
وهم محجوجون كذلك بحقيقة وحدة الإنسانية، ووحدة مصدر الأديان السماوية، وبأن العهد الذي أخذ بحمل الأمانة إنما أخذ على آدم أبي البشرية، وعلى بنيه مسلمين وغير مسلمين {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: ١٧٢] (١).
* د. عبد العزيز كامل وزير الأوقاف السابق والقول "بوحدة الأديان":
لقد تحمّس العصرانيون الجدد إلى القول بوحدة الأديان، وتجاوزوا فيها كل حد.
- قال الدكتور عبد العزيز كامل: "ونحن في منطقة الشرق الأوسط، نؤمن بالتوحيد بطريقة أو بأخرى، وأقولها واضحة، يستوي في هذا: الإسلام والمسيحية واليهودية، حتى الإيمان بالأقانيم الثلاثة في الفكر المسيحي يختم بإله واحد. هذه منطقة توحيد، والصور تختلف، وتفسيرها الفلسفي يختلف" (٢).
.
* الدكتور عبد المنعم ماجد وتزوير التاريخ:
يعجب الدكتور عبد المنعم ماجد من توهم بعض المستشرقين الذين يرون أن العرب المسلمين فتحوا البلدان بدافع إسلامي ويقول: "لا نوافق بعض المستشرقين في قولهم: إن العرب كانوا مدفوعين نحو الفتوح بالحماس الديني، فمن غير المعقول أن يخرج البدوي وهو الذي لا يهتم بالدين لينشر الإسلام" (١).
"فلمصلحة من هذا الافتراء؟! لقد أصبح الدكتور مستشرقًا أكثر من آساتذته، يغير ويزوّر لمصلحة أعداء أمته" (٢).
* الدكتور محمد جابر الأنصاري يتهم العثمانيين بأنهم همج متوحشون:
يحرص الدكتور محمد جابر الأنصاري على تجريد العثمانيين من كل فضيلة حتى غدوا في نظره "جماعة من الهمج المتوحشين الذين دمروا الحضارة العربية الزاهية" (٣).
- "وهو ينزعج بشدة من تلك المحاولات العجيبة التي تحاول إعادة الاعتبار للتاريخ العثماني، ولتاريخ السلاطين الأتراك باعتبارهم رموز للجامعة الإسلامية، وللكيان الإسلامي الواحد" (٤).
* مالك بن نبي "الحق أحب إِلينا منه":
- يقول الأستاذ محمد العبدة في مجلة البيان العدد ٢٣ (ص ٢٩):
..
."إن أفكار الأستاذ مالك بن نبي عن أمراض العالم الإسلامي وشروط النهضة هي أفكار تستحق الدراسة والتأمل، ونتمنى أن يستفيد منها المسلمون في كل مكان، فقد أصاب فيها المحز، ووضع الأصبع على الجرح، ورغم مرور سنين على طرحها، لكن مشكلة المسلمين لا زالت كما حللها وكتب عنها.
وكل يُؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وللأستاذ مالك بن نبي أخطاء أحببنا أن ننبه عليها.
- يقول الأستاذ محمد العبدة في مجلة البيان:
"إن الأخطاء التي سنتكلم عنها ليست أخطاء عادية مما يقع لكل كاتب، فكان لا بد من ذكرها والتنبيه عليها.
* النظرة السطحية للأحداث والشخصيات:
كان مالك بن نبي عميقًا في فهم غور الاستعمار وأساليبه الخفية للتسلط على العالم الإسلامي، وعميقًا في معالجة (القابلية للاستعمار) عند المسلمين، ولكنه في عالم الواقع والسياسة فيه سذاجة أو طفولة سياسية، وهذا ليس غريبًا فقديمًا تعجب الإمام الجوزي من شخصية أبي حامد الغزالي، كيف يجمع بين الفقه والذكاء من جهة، وبين الصوفية وحكايات العجائب والخرافات من جهة أخرى.
١ - أعجب مالك بثورة ٢٣ يوليو في مصر، ومدحها ووضح أماله فيها من ناحية الإصلاح الزراعي والصناعة، وإنشاء وزارة الثقافة والإرشاد، والحياد الإيجابي، وكل الدجل والشعارات التي أطلقها مهرج هذه الثورة.
فثورة يوليو ١٩٥٢ عند مالك: "من أهم الحوادث بالنسبة للصراع الفكري، وكان لهذا الحدث تأثير شرارة كهربائية انطلقت في وعي البلاد العربية والعالم الإسلامي" (١) "وكل عربي يعلم أن نظرة الرئيس جمال عبد الناصر خطت للنهضة العربية الاتجاه الصحيح الذي يحقق الشرط الأول للانسجام مع القانون العام .. " (٢).
كيف يكون هذا الزعيم بهذه الصفات ونحن لا نعلم أن هناك زعيمًا آخر في العصر الحديث ترك بلاده خرابًا مثل جمال عبد الناصر؟ كيف لا يدري مالك بن نبي وهو من هو في فهم اللعبة الاستعمارية أن عبد الناصر كان ضمن (لعبة الأمم)، وأنهم ساعدوه على صنع هذه البطولة المزيفة، وحتى لو كانت هناك بعض الإصلاحات المادية -وهي لم تتحق فعلاً- فأين الحديث عن الاستبداد السياسي وكرامة الشعب المسحوقة؟ بل أين تطبيق الإسلام؟.
٢ - علق مالك بن نبي آمالاً كبيرة على مؤتمر باندونغ، واعتبره كتلة سلام للعالم، واعتبر هذا التنوع الذي يضم تسعًا وعشرين دولة، تضم تراثًا شكريًا متفاوتًا "يمكن بطبيعة الحال أن يقدم العناصر اللازمة لبناء قاعدة متينة للسلام .. " (٣). هذه نظرته لهذا المؤتمر، والحقيقة أنه كان يحب التكتلات الكبيرة لمواجهة الغرب، وقد يكون معه بعض الحق في هذا، ولكن مثل هذا التكتل كان يحمل بذور فشله، وقضية الحياد التي يرفعها لم تكن صحيحة، فكل دولة منحازة، والهند التي كانت من أبرز أعضاء المؤتمر وتدعي السلام والروحانية كانت تحمل بين جوانحها الكره العميق للمسلمين، بل إن صورة الهند العدوانية كانت من البديهيات عند الشباب المسلم في الستينات، ولم ينخدعوا بكلام الدبلوماسي الهندي "ليس لدينا من الخشوع ما يكفينا ونحن ذاهبون إلى باندونغ" (١)، ويصدق مالك بن نبي أن نهرو حمل رسالة اللاعنف التي سلمه إياها غاندي، ونهرو هذا يكتب في (المجلة العصرية) مقالتين ينكر فيهما على الجمعيات المسلمة الحركة ضد القاديانية ويؤيد جانب القاديانية" (٢)، وهند نهرو هي التي احتلت كشمير وأخذتها بالقوة، فأين المسلم وأين الديمقراطية التي تدعيها؟ وما الفرق بين الهند وباكستان في (القابلية للاستعمار).
وقد أدرك مالك أخيرًا عدم جدوى أي محاولة تجمع ليست عناصره منسجمة (٣)، كما كان يلمح في آخر حياته بأن ثورة ٢٣ يوليو لم تقم بالواجب، ولا شك أن الكبار من أمثال مالك بن نبي يتراجعون إذا عرفوا الحق.
٣ - كانت روسيا بعد الثورة الشيوعية تدعي أنها دولة صديقة للشعوب وللعالم الثالث، وأنها ليست دولة استعمارية، وقد صدق مالك بن نبي هذه المقولة، يقول: "فالمناخ الاستعماري الذي تكون في أوربا وأمريكا على حد سواء، وفي الاتحاد السوفييتي قبل الثورة أيضًا"، ولكن الحقيقة أن روسيا مستعمرة قبل الثورة وبعدها، ولم تتخل عن جشع الدول الكبرى، وهي وجه آخر للحضارة الغربية.
٤ - نقد مالك الانتخابات السياسية التي تطالب بالحقوق فقط وتنسى الواجبات، وتعتمد أسلوب المظاهرات والحفلات، وهو محق في هذا، ولكنه شارك في هذه الوسائل، وساعد (مصالي الحاج) في قيام الحزب الوطني، مع أنه ينتقده هو وحزبه، ولكنه حب الحركة ثم يكتشف الأخطاء بعدئذ.
.* اللاعنف:
أعجب مالك بن نبي بقصة (اللاعنف) عند غاندي، فهو يذكرها دائمًا، بل يذكرها بخشوع، ويبني عليها أحلامه الفلسفية في السلام العالمي، واتجاه العالم نحو مناقشة قضاياه بالمسلم والحوار والفكر، يقول عن منطقة جنوب شرقي آسيا: "هي مجال إشعاع الفكر الإسلامي وفكرة اللاعنف، أي مجال إشعاع حضارتين: الحضارة الإسلامية والحضارة الهندوكية، الحضارتان اللتان تختزنان أكبر ذخيرة روحية للإنسان اليوم" (١).
ويحلق في الخيال والطوباوية عندما يقول: "فكذلك رفات غاندي التي ذروها فإن الأيام ستجمعها في أعماق ضمير الإنسان من حيث سينطلق يومًا انتصار اللاعنف ونشيد السلام العالمي" (٢). "هذا الرجل (غاندى) كان يتقمص إلى درجة بليغة الضمير الإنساني في القرن العشرين" (٣).
إن فكرة (السلم العالمي) بمعنى أن يحل السلام في العالم بشكل دائم، أو أن العالم يتجه نحو هذا الهدف، هذه الفكرة غير واقعية وغير شرعية، وهي فكرة خيالية محضة، فهي تنافي مبدأ الصراع الذي ذكره القرآن الكريم {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: ٢٥١]، كما تنافي مبدأ الجهاد في الإسلام، وهي غير واقعية لأن من طبيعة البشر التغالب والعدوان إن لم يردعهم رادع، والدول الكبيرة القوية تأكل الضعيفة إن لم يكن عسكريًّا فاقتصاديًّا. والبشرية لن تبلغ رشدها في عمرها الثالث فتصبح الفكرة ذات قيمة في حد ذاتها كما يتصور مالك بن نبي (٤)، بل إنها كثيرًا ما تتردى من الناحية الإنسانية، والبشرية لا تبلغ رشدها إلا إذا حكمها الإسلام.
إن فكرة (اللاعنف) و (الإنسانية) من الأفكار الخطيرة التي بدرها مالك ووسعها بعدئذ تلامذته، وحاولوا اللف والدوران كثيرًا حول مبدأ الجهاد الإسلامي.
* الإِنسانية والعالمية:
وقريب من مبدأ (السلام العالمي) كان مالك يحلم بأن تتوحد الإنسانية في مجتمع عالمي، ويظن بأن البشرية تسير بهذا الاتجاه، "فالعالم قد دخل إذن في مرحلة لا يمكن أن تحل فيها أغلبية مشكلاته إلا على أساس نظم الأفكار" (١)، "وحين اتجه العالم إلى إنشاء منظمة اليونسكو، كان يهدف إلى (تركيب) ثقافة إنسانية على المدى البعيد" (٢) "وما محكمة العدل في لاهاي والقانون الدولي، والقانون البحري إلا مظاهر خاصة لذلك الاتجاه العام الذي لا يفتأ يمهد الطريق لتوحيد العالم" (٣).
هذا المفهوم للإنسانية مفهوم وهمي يراد به محو الشخصية الثقافية الحقيقية لكل مجتمع ولكل أمة، وإذا كان العالم قد تقارب وانتشرت الأفكار في كل مكان، وقد يستفيد المسلمون من ذلك في نشر دينهم الذي يملك عناصر التأثير والقوة، ولكن أن يتوحد العالم في مجتمع واحد فهذا مفهوم ذهني مجرد، وإذا كان هو نفسه شعر بأن فكرة الأفروآسيوية صعبة التحقيق، ولذلك عاد وكتب عن (الكومنولث الإسلامي)؛ فكيف يظن أن العالم يسير نحو الوحدة؟!.
.* ضعف ثقافته الشرعية:
لم يتصل مالك بن نبي بعلماء عصره ليستفيد منهم، ورغم اعترافه بأهمية جمعية العلماء في الجزائر التي كان على رأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس؛ إلا أن علاقته بها كانت فاترة ويعترف هو بعد ذلك أنه كان مخطئًا في هذا (١)، ولذلك كانت دراسته للإسلام نابعة من قراءاته الشخصية وهي قليلة إذا قيست بقراءاته في الفكر الغربي، وهذا ما جعله يخطئ في أمور كثيرة سواء كانت في الفقه والأحكام أو في النظرة لبعض جوانب التاريخ الإسلامي، فمن رموز الثقافة عنده الفارابي، وابن سينا، وابن رشد (٢) ..
"والمجتمع الإسلامي في عصر الفارابي كان يخلق أفكارًا وفي عهد ابن رشد يبلغها إلى أوربا وبعد ابن خلدون لم يعد قادرًا على الخلق ولا على التبليغ" (٣).
وفي العصر الحديث فإن من رموز الثقافة عنده جمال الدين الأفغاني، وهو موقظ الشرق، وهو رجل الفطرة .. إلخ. وإطلاقه هذا القول جزافًا يدل على ضعف ثقافته الشرعية.
وفي التاريخ يلمز كثيرًا بني أمية دون وضع الضوابط للإنصاف والتقويم الصحيح. وبسبب عدم وضوح توحيد الألوهية ظن أنه من الممكن اتصال العالم الإسلامي بروحانية الهند "وليس بوسعنا أن نغض من قيمة الدور الذي يمكن أن يؤديه اتصال العالم الإسلامي بروحانية الهند" (٤).
ولم يشر في كتبه إلى موضوع تحكيم الشريعة الإسلامية، وكان معجبًا. .بدولة الوحدة عام ١٩٥٨ مع أنها لا تطبق شرع الله، وهناك أخطاء جزئية لا نريد التفصيل فيها ونعتقد أنه لو نبه عليها لتراجع.
- وقبل أن ننهي هذه القراءة لفكر مالك بن نبي لا بد من التنبه لأمور:
١ - هذه السلبيات والأخطاء يجب أن لا تمنعنا من الاستفادة من الإيجابيات، فهذا المفكر خبير في نهضة المجتمعات وأمراض المسلم المعاصر.
وكأني أسمع بعض المسلمين يقولون: ما دامت هذه آراؤه فما الفائدة من قراءة كتبه؟ وهذا خطأ فادح منهم، فنحن نقرأ لأعداء الإسلام ونستفيد منهم؛ فكيف بمفكر كان يسعى -حسب جهده- لخير المسلمين، وإن أخطأ في مواضع.
٢ - إن مالك بن نبي شخصية كبيرة، فهو يتراجع عن الخطأ إذا تبين له، لقد نصح جمعية العلماء في الجزائر بصدق وقال كلامًا دقيقًا في هذا "لقد كان على الحركة الإسلامية أن تبقى متعالية على أوحال السياسة والمعامع الانتخابية" (١) "وبأي غنيمة أراد العلماء أن يرجعوا من هناك وهم يعلمون أن مفتاح القضية في روح الأمة لا في مكان آخر" (٢)، وهو يقصد سير العلماء في القافلة السياسية عام ١٩٣٦.
ويقول: "فيما يخصني لقد بذلت شطرًا من حياتي في سبيل الحركة الإصلاحية، وشهدت في مناسبات مختلفة بالفضل لجمعية العلماء" (٣)، ويتأسف لأن الجمعية لم تدعه للمساهمة في شئونها الإدارية، ومع ذلك فقد تراجع واعترف أن موقفه من الجمعية لم يكن طبيعيًّا بسبب نظرته الخاصة للشيخ ابن باديس. ٣ - رغم معرفة مالك الدقيقة بالفكر الغربي، وتأثره به في بعض الأحيان إلا أن أمله في التغيير بقي معلقًا في الأصالة الإسلامية، وبالرجوع إلى المنبع الأساسي للمسلمين "فالعالم الإسلامي لا يستطيع أن يجد هداه خارج حدوده بل لا يمكنه في كل حال أن يلتمسه في العالم الغربي الذي اقتربت قيامته، ولكن لا يقطع علاقته بحضارة تمثل أحد التجارب الإنسانية الكبرى، بل المهم أن ينظم العلاقة معها" (١)، "والمسلم لا يزال يحتفظ بالقيمة الخلقية، وهو ما ينقص الفكر الحديث، فالعالم الإسلامي لديه قدر كبير من الشباب الضروري لحمل مسئولياته ماديًّا وروحيًّا".
فهل يتحمل الشباب هذه المسئوليات؟ نرجو ذلك (٢).
* مالك بن نبي غفر الله له وإعجابه بفكر السلام العالمي الموهوم:
"ممّن نفّر من العنف، وأعجب بفكرة السلام العالمي الموهوم، الكاتب الإسلامي: مالك بن نبي -رحمه الله-.
وقد أبرز هذه الفكرة في عدد من كتبه، فهو يرى مثلاً: "أن الإسلام والهندوسية تنفيان سيف العقيدة" (٣).
ولا يخفي مالك بن نبي إعجابه بغاندي العظيم؟! ويخصه بمقال مملوء بالإكبار، فهو بطل السلام، قاوم الإنجليز مقاومة سلبية: "إذ رجعت الدبابات إلى الوراء، وتقهقرت عند تلك الأجسام التي انفرشت على الأرض أمامها، تقهقرت أمام أفواه ترتل بعض الأذكار المقدسة، وأمام أرواح منغمسة في صلوات صامتة؟! إن جهاز الاستعمار الضخم وقف عند حدوده وباء بالخسران أمام معزة غاندى وسرباله ومغزله، وصلواته وصيامه مع الجماهير وفي خلواته".
"إن رفات غاندي التي ذروها في مياه الغانج المقدسة، ستجمعها الأيام في أعماق ضمير الإنسانية، كيما ينطلق يومًا أنتصار اللاعنف ونشيد السلم العالمي" (١).
"وفي فصل آخر يتحدث عن إعجابه بنهرو وطاغور، لسبب نفسه ثم يتساءل: هل من بين هؤلاء الزراع لفكرة اللاعنف في القرن العشرين .. هل من بينهم مسلمون؟ (ويجيب)، ويؤسفنا أن لا نجد من بينهم .. " (٢).
إن التعلق بالسلام أمر طيب، والتنفير من الحروب شعور نبيل، إلا أنه حلم مثالي شاعري بعيد عن الواقع وطبيعة البشر، وفكرة غير شرعية تنافي مبدأ الصراع الذي ذكره الله في كتابه {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا} [الحج: ٤٠].
- والإعجاب بالوثنيين ومحبتهم، يناقض ما كان عليه السلف، ويناقض نصوص الشرع الحنيف {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: ٢٢]. وقد أثبتت الأيام أن الهنود دعاة السلام من أتباع غاندي قد داست دباباتهم جنود باكستان المسلمة، في اعتداء صارخ على ديار المسلمين، فضاعت الشعارات، وما نفع رفات غاندي الملقى في مياه الغانج المقدسة؟!. - إن ثقافة مالك الشرعية كانت ضعيفة، إذا قيست بقراءاته الغربية، وهذا ما جعله يخطئ في عدة أمور تتعلق بالأحكام الشرعية.
ورغم ذلك كله كان مالك -رحمه الله- عميقًا في فهم غدر الاستعمار وأساليبه الخفية، وعميقًا في معالجة القابلية للاستعمار عند المسلمين .. فهو مفكر خبير في نهضة المجتمعات وأمراض المسلم المعاصر، إلا أن هذه الإيجابيات لا تمنعنا من ذكر بعض السلبيات، ولعل آلامه مما كان يعانيه الشعب الجزائري من الاستعمار الفرنسي، جعلته يحن إلى فكرة اللاعنف بهذا المنظور (١).
- إلا أن أفكار الأستاذ مالك التي بذرها، وسّعها بعض تلامذته المتأثرين به، فانحرفوا بعيدًا عن جادة الصواب في مفهوم الجهاد في سبيل الله.
من هؤلاء الشيخ جودت سعيد في كتابه: مذهب ابن آدم الأدل، فقد وقع في أخطاء واضطراب في عرضه لمفهوم الجهاد في سبيل الله.
* الطبيب خالص جلبي وفكرة اللاعنف ومهاجمته لفتوحات بني أمية والفتوحات العثمانية:
- وممن تعلق بفكرة اللاعنف، وشكك بمبدأ الجهاد، من أتباع هذه المدرسة الطبيب خالص جلبي: فقد هاجم خلافة بني أمية مرددًا في ذلك أحقاد المستشرقين، وفضل عليها خلافة بني العباس.
إذ أن خلفاء بني أمية حملوا راية الجهاد وفتحوا كثيرًا من البلدان، ودخلت كثير من الشعوب الإسلام على أيديهم وأيدي ولاتهم.
.- يقول خالص جلبي: "وبفعل الانحراف الأموي، فإن الملكية الاستبدادية نقلت وطعمت وألصقت إلى الجسم الغريب" (١).
أما الفتوحات العثمانية: فقد هاجمها الكاتب هجومًا عنيفًا مرددًا أقوال المستشرقين من أساتذته، يقول في ذلك: "والعالم الإسلامي، بدأ بالثورة الروحية العقلية، منذ الوحي في غار حراء، وانتهى بالعسكرية التركية، التي أنهت كل دفعة حيوية في العالم الإسلامي .. والعسكرتارية بالبارود والنار دخلت شرق أوروبا، ولكن فرق كبير بين دخول الإسلام إلى الشرق الأوسط والهند مثلاً، وبين دخوله على يد الأتراك إلى شرق أوروبا ومَنْ يتأمل يدرك"!! (٢).
فالعثمانيون لهم أخطاؤهم ولا شك، ولكن الفتوحات تعتبر من مفاخرهم التي لا ينكرها إلا مَنْ حقد على اجتياح شرق أوروبا وسقوط استانبول على يد محمد الفاتح -رحمه الله-.
لقد شارك الكاتب بقية رجال المدرسة العصرانية، عندما هاجموا الفتوحات العثمانية، متهمين إياها بالهمجية والتوحش.
- يقول الأستاذ محمد قطب: "ويكفي العثمانيين -في ميزان الله- أنهم توغلوا في أوربا الصليبية، وفتحوا للإسلام ما فتحوا من أراض وقلوب .. ويكفيهم أنهم حموا العالم الإسلامي من غارات الصليبيين خمسة قرون متوالية، ويكفيهم أنهم منعوا قيام الدولة اليهودية على أرض الإسلام .. " (٣).
* عبد اللطيف غزالي يدعو إِلى الانفتاح على حضارة الغرب بلا قيود ويعطل مفهوم الجهاد، ويتعجب من قول المسلمين بدخولهم الجنة دون غيرهم:
- يقول عبد اللطيف غزالي مقارنًا تخلف علوم المسلمين، بتقدم علوم الإغريق، ويدعو إلى الانفتاح على حضارة الغرب بلا قيود. انظر إليه يقول:
"وما أبعد إحياء تراث الإغريق في العصور الوسطى عن إحياء تراث سلف المسلمين اليوم. إن علوم الإغريق حين أخذ الأوربيون يبعثونها كانت شيئًا متقدمًا غاية التقدم، بالنسبة لما كان لديهم من علوم كلها خرافات، أما علوم السلف اليوم، فهي شيء متخلف غاية التخلف بالنسبة لما لدينا، ولا أقول كما لدى الأوربيين من هذه العلوم، ومع ذلك فإن الآثار الدينية هذه تتضمن محاولة الرجوع للقهقرى إذا لم تتناول بفهم وذوق يضبطان النقل والرأي في ضوء الفكر العصري" (١).
* أخطر أقواله:
- يقول عبد اللطيف غزالي: "لمَ يعتقد أتباع كل دين أن الله يختصهم بالجنة، ويذر غيرهم وأكثر الناس في النار؟ إن إلهًا هذا شأنه وإن صح -وحاشا أن يصح- لا يكون إله طائفة قليلة بالنسبة لسائر الناس؛ لأنه ليس ثمة دين يضم أكثر البشر .. إن العمل الصالح لهو اليوم أفضل جهاد في سبيل الله" (٢).
.- ويقول: "إن العمل الصالح هو العمل المنتج مثل أن يكون هو العبادة" (١).
ويقول: "ولقد صار البديل عن الجهاد هو العمل، ولقد صار البديل عن الحرب هو التعايش السلمي (٢).
* القذافي يطعن في السنَّة ويمدح أتاتورك:
- يقول القذافي: "الصحابة كانوا باستمرار يقولون له يا نبي الله، يا رسول الله، وعمره ما قال لهم اتبعوا حديثي أو كلامي؟ أين هذه موجودة؟ هل فيه نص في القرآن كله، ستين حزب، هل فيه ما ينص على النبي قال لكم الكلام الذي أنا قلته لازم تتبعوه؟ طيب .. أربعين عامًا قبل البعثة، أين الكلام الذي كان يقول فيه؟ هل كان لا يتكلم؟ كان يتكلم وأين الكلام الذي قاله؟ لما جاء في إحدى الغزوات وقال لهم خلي نزلوا في هذا المكان، قالوا له هذا وحي واجتهاد أو كلامك أنت؟ قال لهم: كلامي أنا. قالوا له: لا إن الحرب مكيدة، ما ننزل في هذا المكان لكن هو باستمرار، باستمرار يؤكد التمسك بالقرآن فقط، لو كان هو قدّس حديثه، وجعل لحديثه أهمية مثل القرآن أو قريبة منها، معناه هو يخلق كتابًا آخر يحلّ محل القرآن .. الذي أتى لنا وقال حديث النبي هذا لا بد تمشوا به وتقدسوه مثل القرآن، هذا شرك طبعًا، لا تعد تقل لي البخاري ومسلم هو الصحيح؛ لأن البخاري ومسلم فيهما أشياء لا تتفق مع أصول القرآن. إذن لنجمع كل ما قيل أنه حديث، ونقارنه بالقرآن، والذي يتفق معه زين، نقبله، والذي لا يتفق معه نشطبه ولا نعد نقول البخاري ومسلم" (٣).
- ويمدح القذافي أتاتورك قائلاً: "عندما جاء أتاتورك .. وكان على.
.الأقل مش كيف هو حاصل الآن، قال والله ما نبقى نفصل الدين عن الدولة، هو مسلم، اسمه مصطفى كمال أتاتورك، اسمه مصطفى على اسم النبي، لم يقل أن تركيا يجب أن تكون ملحدة، قال: تركيا دولة إسلامية، وتبقوا مسلمين. ولكن قال: أنا عندي طلب واحد. قال لهم أريد أن أفصل الدين عن الدولة .. كيف؟ إن الدولة وهي دولة وضعية تعالج مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية وفقًا للعصر التي هي فيه، أما الدين خلّوا كل واحد، يصلي ويحج ويصوم .. يصلي بالمسجد، يبني مسجدًا.
جاء المتعصبون الذين سموا أنفسهم علماء في ذلك الوقت، وقالوا له مستحيل، هذا كفر إذا فصلت الدين عن الدولة هذا كفر، ناداهم وقال لهم: أرجوكم هاتوا لي فتوى، فقط فتوىَ تجعلني أعلن باسم الإسلام، وإن الإسلام يبيح لي فصل الحكومة عن الدين، اجعلوا الحكومة لوحدها، واتركونا مسلمين كما كنا، قالوا له مستحيل .. هذا كفر .. قال لهم طالما هو كفر، فأنا ذاهب إلى قمة الكفر. وهذا هو القرآن، وهذا هو الإسلام .. وأحضر لي السيف لأقطع رقابهم وهرب من الشبابيك علماء الإسلام كلهم .. ومن تلك اللحظة كانت نكبة على الإسلام، أعلن الإلحاد والكفر قال: هذا الدين الذي يكبلني ولم يتركني أتصرف في تركيا لكي تواجه أعداءها وتنهض من جديد. قال: أنا لا أريد هذا الدين وأتاتورك مظلوم" (١).
وفي هذا من الدجل والكذب وتزييف الحقائق ما فيه، وفي القذافي وأتاتورك يصدق قول القائل:
ومن جعل الغراب له دليلاً ... يمر بهم على جيف الكلاب
* محمد أسد: نسخة أوربية لرائد العصرانية سيد خان منكر السنة:
محمد أسد (أو ليوبولد فايس) مستشرق نمسوي الأصل، كان في أول. أمره مراسلاً للصحف الأوربية في الشرق الأوسط، وبعد تجوال في ربوعه وبخاصة في جزيرة العرب هداه الله فأعلن إسلامه في عام ١٩٢٦ م. وبعد فترة من العيش بالمملكة السعودية انتقل للهند، ومكث فيها مدة طويلة، وكانت له صلات قوية بالحركة الفكرية فيها، وبعد إنشاء حكومة باكستان عمل في خدمة حكومتها، حتى استقال من خدمتها عام ١٩٥٢ م وكان يشغل منصب ممثلها في الأمم المتحدة (١).
وقد عرفه العالم العربي من خلال أول كتاب ترجم له إلى اللغة العربية بعنوان "الإسلام على مفترق الطرق"، وصدرت الترجمة عام ١٩٤٦، واشتهر وذاع صيته بسبب هذا الكتاب الذي لاقى انتشارًا واسعًا يتضح من تعدد طبعاته. ومن خلال الكتاب -يبدو فكر المؤلف ناصعًا ورؤيته واضحة، وبخاصة لمعايب الحضارة الغربية ولأخطار تقليدها على المسلمين، ولمزايا الإسلام عليها ولأهمية التمسك بأسسه وأصوله: الكتاب والسنّة. ولمّا كان المؤلف من أبناء الغرب وأهله أحدث نقده للحضارة الغربية، وشهادته للإسلام بغض النظر عن قيمة محتواه، تأثيرًا قويًا ولاقى رواجًا وإعجابًا.
ولكن كتب المؤلف الأخرى لا تعطي الانطباع الذي يعطيه كتابه السالف، وإذا استبعدنا كتابه "الطريق إلى مكة"الذي هو قصة أدبية رائعة عن الثلاثين سنة الأولى من حياته واعتناقه الإسلام، ولا يعد كتابًا فكريًّا، فإن كتبه الأخرى (٢) تنضح بفكر عصراني خالص، حتى أن المرء لا يجانب الصواب كثيرًا إذا وصفه -وبخاصة في ترجمته لمعاني القرآن والحواشي والهوامش التي ضمتها الترجمة- بأنه نسخة أوربية لسيد خان، أعظم مفكري
.العصرانية المسلمين. ولا غرو فإنه لتأثره بالمادية الغربية التي لا تؤمن بما وراء المحسوس المشاهد، لم يستطع أن يتخلص من بقاياه الجاهلية، فأقبل في الإسلام على العصرانية يؤول ويفسر كل شيء في حدود عالم الحس وأذواق الغرب. ويقدم لنا محمد أسد -تمامًا كسيد خان- نموذجًا متكاملاً للفكر العصراني الإسلامي، إذ لم يقتصر فكره في دائرة واحدة من دوائر الإسلام، بل شمل العقائد والتفسير والحديث والفقه. ونقدم هنا أمثلة قليلة من ذلك.
المفتاح الأساسي لفهم القرآن في نظره هو في الآية السابعة من آل عمران {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يقول: "فهذه الآية هي التي تجعل رسالة القرآن سهلة التناول (لقوم يتفكرون) "وهو يعرف المتشابه بأنه تلك الآيات التي جاء التعبير فيها بطريقة مجازية، والتي تتضمن معنى رمزيًّا لا يمكن الإفصاح عنه مباشرة، ولو في كلمات كثيرة. أما لماذا يحتوي القرآن على المتشابه فيقول؛ لأنه يتحدث عن عالم "الغيب"ذلك العالم الذي هو وراء إدراك البشر الحسي، ولمّا كان العقل البشري لا يدرك الأشياء، ولا تكون عنده معرفة إلا من خلال تجاربه الماضية (هكذا يقول)، فلا يمكن نقل معاني "الغيب"له إلا باستعارة أمثلة وتشبيهات تؤخذ من نفس هذه التجارب، أو كما يقول الزمخشري: "تمثيلاً لما غاب عنا بما نشاهد"، ثم يقفز من ذلك إلى النتيجة التالية "وهكذا يبين لنا القرآن بوضوح أن كثيرًا من تعبيراته وآياته يجب أن تفهم باعتبار أنها متشابهة، لسبب بسيط وهو أنها لتخاطب العقل البشري فلا يمكن أن تخاطبه بغير هذه الطريقة، فإذا أخذنا كل تعبير في القرآن وكل كلمة وكل آية بمعناها الظاهري الحرفي، وغضضنا الطرف عن احتمال أن تكون متشابهة، أو رمزًا أو مثالاً، فإننا نسيء إلى روح النص القرآني ذاته" (١).
ومن خلال اعتبار كثير من نصوص القرآن رموزًا وأمثلة، يمكن لأي امرئ أن يفسر ما شاء كيف شاء، ولم لا؟ فهل يمكن الادعاء أن للرمز معنى واحدًا بعينه هو المعنى المقصود دون غيره؟ وهذا ما فعله محمد أسد، فقد أوّل ما شاء كيف شاء ضاربًا بقواعد اللغة وبكثير من تفسيرات السلف عرض الحائط، ولم يتقيد بها -كما يقول- أليس من "مزايا القرآن الفذة أنه كلما ازدادت معرفتنا بهذا العالم، وازدادت تجاربنا كلما تكشفت لنا آياته عن معاني كثيرة جديدة لم تخطر من قبل"وهذا في ظاهره صحيح إذا أريد به أن معاني القرآن الأولية، يمكن أن تتسع للفهم بازدياد معرفة البشر، ولكن اتساع الفهم لا يناقض المعنى الأولي الأساسي، فهل هذا الذي يقصده محمد أسد؟ من عباراته التالية يبدو أن الذي يقصد إليه أن النص الواحد يمكن أن تكون له معاني متعددة، بل ومتناقضة حسب ثقافة المفسر المتاحة له في عصره، فهو يستمر ليقول:
"لقد أدرك أسلافنا العظماء هذه الحقيقة إدراكًا كاملاً، وفي تفسيرهم القرآن اقتربوا من نصوصه من خلال "عقولهم"، أو بعبارة أدق حاولوا شرح معاني القرآن على ضوء اللغة العربية والسنّة جنبًا إلى جنب مع المعارف العامة المتاحة لهم، مما تجمع لدى المجتمع الإنساني حتى عصرهم من تجارب وثقافة، ولهذا كان من الطبيعي أن يختلف في أحيان كثيرة فهم أحد المفسرين لآية من القرآن عن فهم من سبقوه، وقد يكون ذلك الاختلاف -وغالبًا ما يكون- حادًا وواسعًا، ويناقض بعض المفسرين بعضهم بعضًا، ولكن ذلك لم يخلق عداء بينهم، لإدراكهم لعنصر النسبية في التفكير البشري، وأنه لا أحد يبلغ الكمال (١).
ولنأخذ مثلاً كيف يفسر محمد أسد صفات الله الواردة في القرآن.
يقول: "بما أن الله عز وجل كائن لا تحده حدود الزمان والمكان فإن كل ما يمكننا أن ندركه عنه ما يسمى بالصفات السلبية What he is not، أما صفاته الثبوتية فلا يمكن أن نكون عنها إلا فكرة ناقصة عن طريق استعارات وأمثلة عامة ومجملة. ولهذا فهو يعتبر هذه الصفات مجازات لا بد من تأويلها، فيقول عندما يوصف الله تعالى بأنه في السماء أو أنه {عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى}، فإن هذه ليست إلا أداة لغوية لتقرب لنا معنى فوق إدراك البشر، وهو قدرة الله الواسعة وسلطانه القاهر فوق كل شيء. وكذلك عندما يوصف الله بأنه "السميع""البصير"فإن ذلك لا يمت بصلة إلى ظاهرة السمع والبصر العضوية، ولكنه فقط يصور بطريقة مفهومة للعقل البشري حضور الله عند كل شيء وكل حدث. وكذلك كثير من الصفات التي يبدو لأول وهلة أنها تعني التجسيم، مثل الغضب والفرح والحب و {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ}، وأمثالها فهي لا تعدو أن تكون "تراجم"في لغة بشرية ورموزًا لأفعال الله (١).
ونفس الرموز -في رأي أسد- موجودة في وصف القرآن لليوم الآخر والحياة الثانية، والجنة والنار. وكل ما جاء من وصف لهذه ما هو إلا رموز مأخوذة من تجاربنا، فكأن القرآن يقول لنا: "تخيلوا كل ما يمكن لكم تخيله مما ينعم به الإنسان نفسيًّا وبدنيًّا، وتخيلوا نعيمًا فوق ما تتخيلون بأضعاف مضاعفة، ونعيمًا في ذات الوقت مختلفًا عن كل ما تتخيلون، فإنكم فقط حينئذ تكونون قد أدركتم لمحة وإن كانت غامضة عما يسمى "الفردوس".
ونفس الأمر صادق أيضًا عن وصف القرآن أن للنار (٢). وهو بذلك يعني أن وصف القرآن للجنة النار لا ينبغي أن يؤخذ على ظاهره، أو على أنه وصف. لحقائق واقعة، بل هو مجرد تمثيل وتصوير.
وهو ينظر إلى بقية أمور الغيب والسمعيات الأخرى، مثل الجن والملائكة والمعجزات، بنفس النظرة أي أنها كلها رموز وأمثلة. وبكل "تمحل"يعطيها تفسيرات في حدود عالم الحس وليس له من دليل إلا الحدس والتخمين والخيال الواسع.
فقصة أهل الكهف -مثلاً- ونومهم لمدة ثلاثمائة عام ثم استيقاظهم يرى أنها ليست إلا "أسطورة"، واعتمادًا على الاكتشاف الحديث لما سمي مخطوطات البحر الميت عز وجلead Sea Scrolls، يرى أن المقصود بأهل الكهف مجموعة من اليهود كانت تعزل نفسها في الكهوف تفرغًا لدراسة ونقل وكتابة الصحف المقدسة. ولمّا كان الناس من حولهم يعظمونهم وينظرون إليهم نظرة قدسية، فمن المحتمل جدًا أن يكونوا قد نسجوا حولهم بسبب عزلتهم التامة عن العالم، أسطورة النوم لمدة طويلة ثم "الاستيقاظ"بعد أن يكونوا قد أكملوا مهمتهم المقدسة. أي أن القرآن يحكي فقط أسطورة شائعة، ولكن لماذا يحكيها القرآن؟
- يقول: إن القرآن يستخدمها بطريقة رمزية بحته ليوضح أولاً قدرة الله الكاملة على الإماتة - "النوم" - والإحياء - "الاستيقاظ"ويشير ثانيًا من خلالها إلى التضحية التي يمكن أن يدفع إليها الإيمان، فيعتزل قوم أتقياء العالم الفاسد نجاة من شروره (١).
وكذلك يرى أن قصة سليمان عليه السلام التي يحكيها القرآن والمعجزات التي تصاحبها كلها كانت أساطير شائعة عند العرب وأهل الكتاب من يهود ونصارى حين نزول القرآن، ومن الممكن إعطاؤها تفسيرات "عقلية" .(هكذا يقول فلديه تفسيرات جاهزة لكل شيء)، ولكن لا فائدة في ذلك؛ لأن القرآن وجد هذه الأساطير في البيئة التي نزل فيها، فحكاها كما هي دون أن يؤكد صحتها أو يدحضها فاستخدمها لأنها كانت ضاربة بجذورها في عقول الناس، ليبث من خلالها بعض مفاهيمه العقدية والأخلاقية (١).
وإذا كانت هذه أمثلة لواحدة من وسائله لرفض العجزات باعتبارها أساطير فقط، إلا أن في أحيان أخرى يعطيها تأويلات تبعدها أن تكون خارقة للعادة. من ذلك مثلاً قصة إبراهيم، مع الطيور الأربعة، ففي نظره أن إبراهيم لم يقتل الطيور ولم يقطعها أجزاء ثم أحياها الله بعد ذلك، بل كل ما في الأمر أنه علّم الطيور ودرّبها على طاعته وإجابة أوامره، وهذا عنده هو معنى {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}، ثم إن إبراهيم وضع كل طائر على جبل، ثم حين دعاها أجابته. والمغزى من ذلك أنه إذا كانت الطيور بمثل هذا التعليم والتدريب تطيع الإنسان ولا تعصي أمره، فكذلك الله عز وجل الذي يطيعه كل شيء، فهو قادر على أن يحيي الموتى بأمرهم بكلمة منه "كن" (٢).
- ويقول عن الحوت الذي التقم يونس عليه السلام أن القرآن يذكره بأداة التعريف "الحوت"لأن أسطورته كانت معروفة فهو بذلك حوت معروف معهود. وفي هذه المرة لا يكتفي بالقول أنه أسطورة بل يعطيه تفسيرًا من تفسيراته "العقلانية"من بنات أفكاره، فيقول: مما لا شك فيه أن التقام الحوت هنا ما هو إلا رمز للغم والكرب الذي وقع فيه يونس (٣).
ويفسر حجارة السجيل في سورة الفيل مثل تفسير محمد عبده، الذي صرح في مقدمة الكتاب أنه تأثر به كثيرًا واقتبس منه في عدة مواطن (١)، فسبب هلاك أصحاب الفيل كان وباء الجدري أو الحصبة، والطير الأبابيل في تفسيره هي ناقلات ذلك الوباء (٢).
والأمثلة كثيرة ومتعددة، وبإيجاز يمكن القول أن أيّ معجزة في القرآن ضاق عقل أسد المادي عن إدراكها، راح يؤولها بهذه الجرأة وبهذا الخرص والخبط.
* الفقه من خلال ذوقه الأوربي:
وإذا كانت هذه نظرة أسد إلى أمور العقيدة ومنهجه في تفسيرها، فكيف ينظر إلى مسائل الفقه التي لا يستسيغها "ذوقه"الأوربي؟ ويأتي أولاً السؤال ما الذي لا يستسيغه "الذوق"الأوربي من الفقه الإسلامي ثم ننظر ثانيًا في "المنهج العلمي"الذي يقدمه أسد لتأويله ليوافق "ذوق"الغرب المتحضر.
نختار ثلاث دوائر من التي يكثر اعتراض الغرب عليها في الإسلام: وضع المرأة والحدود والربا والأمثلة عن هذه تكفي.
أما عن المرأة فنكتفي برأي أسد في الحجاب. يقول عن قوله تعالى في ذلك في سورة النور {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أن المقصود بها "اللباس المحتشم وستر الزينة إلا ما يظهره الإنسان في العادة الجارية" (٣)، أي العادة الجارية في مجتمعه. ويعيب على المفسرين الأوائل أنهم قصروا ما يظهر على الوجه والكفين فقط وأحيانًا أقل، ويقول أن معنى "إلا ما ظهر منها"أوسع من ذلك، ويرى أنه لفظ عام، وأنه بعمومه قصد منه أن يفتح المجال للتغيرات التي تحدث في حياة الإنسان الخلقية والاجتماعية في كل زمان. إن الأمر البالغ الأهمية هو في "غض البصر وحفظ الفرج"وما يحقق هذه الغاية في كل زمان هو الذي يحدد ما يعد من "الحشمة"أو ما لا يعد في مظهر الإنسان الخارجي (١)، أي أن المقياس والمعيار الأساسي هو الحشمة، وليس لذلك حدود إلا ما تحدده عادة المجتمع الجارية وليس بالضرورة أن يكون ذلك ستر ما عدا الوجه والكفين.
- وفي مجال الحدود نأخذ مثالاً رأيه في عقوبة الحرابة، وخلاصة رأيه أن من يظن أن "العقوبات الوحشية"الواردة في الآية {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} - من يظنها عقوبات شرعية، فقد وقع خطأ بالغ، وأن ما ذهب إليه المفسرون من أن المقصود بهذه الآية فرض عقوبات جنائية رأي مرفوض مطلقًا، مهما كانت الأسماء التي قالت بهذا الرأي كبيرة ومشهورة. ويؤكد أن الآية لا تنشئ أمرًا ولا تقصد تنفيذ طلب بل هي تقرير لحقيقة ويسوق لتأييد رأيه بعض الحجج، ومن ذلك أن الأفعال الواردة في هذه الآية "يقتلوا""يصلبوا""تقطع""ينفوا"واردة بصيغة المضارع، ولا يفهم منها الأمر والطلب (وهذا مثال لأحد المواضع التي يظهر فيها ضعفه في اللغة) ومن الحجج أيضًا أن صيغة هذه الأفعال تدل على المبالغة ويفهم هو من ذلك أن المقصود أن القتل والصلب والقطع هو لأعداد كبيرة، فهل يمكن أن يكون المقصود أن يعاقب عدد كبير من المحاربين ويعفى عن البقية؟ وكيف الحال إذا كان المقصود أن يعاقب عدد كبير من المحاربين. ويعفى عن البقية؟ وكيف الحال إذا كان المحارب واحدًا أو فئة قليلة؟ ثم ما معنى "ينفوا من الأرض"؟ إذا كان القصد السجن فليس ذلك نفيًا من كل الأرض وإذا كان المقصود النفي من دار الإسلام فدار الإسلام ليست هي كل الأرض. ومن أقوى الأدلة عنده على أن الآية لا تقرر عقوبات شرعية، أن العقوبات الواردة فيها قد ذكرها القرآن على لسان فرعون الذي هو مثال الطغيان والشر والعدوان في القرآن، حين قال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} فهل يعقل أن يجعل القرآن هذه عقوبات شرعية للمجتمع المسلم، وقد اعتبرها في موضع آخر جريمة نكراء من جرائم عدو الله فرعون؟.
ويخلص من ذلك إلى أن التفسير الصحيح للآية أنها تقرر حقيقة، وهي أنه لا مهرب لمن يحاربون الله ورسوله من العقاب الذي يجرونه على أنفسهم بأنفسهم وذلك أنه بسبب ما يحدث من الصراع بينهم، فإنهم يقتلون أنفسهم بأعداد كبيرة، ويعذبون ويشوهون بعضهم بعضًا بأعداد كبيرة، إلى الحد الذي يقطعون فيهم دابر بعضهم بعضًا أحيانًا (ينفوا من الأرض) ويرى أن هذا التفسير هو الذي يستقيم مع سياق الآية وتزول به الأعتراضات التي يعترض بها على التفسير الأول (١).
- وعن الربا يقول أن تعريفه لم يزل أمرًا مشكلاً للفقهاء، وأنهم عرفوه بحسب الظروف الاقتصادية السائدة في عصورهم، وأنه بالنظر إلى الاقتصاد السائد عند العرب عند نزول تحريم الربا يمكن تعريفه في ضوء ذلك عمومًا بأنه الفائدة التي تجنى من الدين استغلالاً لحاجة الفقير المحتاج، من غني قادر، وأنه بالنظر إليه من خلال ذلك يبدو أن مسألة تحديد المعاملات التي
.يمكن أن تعتبر داخلة تحت الربا، هي مسألة أخلاقية في المقام الأول، وتعتمد أساسًا على الدوافع والبواعث التي تقوم عليها العلاقة الاجتماعية والاقتصادية بين الدائن والمدين، وإلى أيّ مدى يتحملان معًا الربح والخسارة. وذلك كما هو واضح يتغير تبعًا لتغير النمو الاقتصادي والاجتماعي والتقني، وعلى هذا فإن كل جيل من المسلمين هو الذي يضع بحسب ظروف عصره المعنى الجديد للربا والدوائر التي يشملها (١) "اهـ (٢).
***
إسلاميون ولكن
- ولاؤنا المطلق للإسلام. وكل من قدم خدمة للإسلام أو دافع عنه في جانب من جوانبه فهو حبيب إلينا بقدر تمسكه بالإسلام وقربه منه ..
نعم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وليس من قصد الحق فأخطأه كمن تعمّد قصد الباطل ولكن ننبه على أخطاء المدافعين عن الإسلام نُصحًا لله ولرسوله.
الحق أحب إلينا منه ..
* هو الدكتور محمد عمارة رأس من رءوس المدرسة العقلية الحديثة .. عصراني يقول بعدم كفر اليهود والنصارى، ويمجِّد المعتزلة، ويثني على المبتدعة، ويمدح ثورة الزنج والفاطميين، ويدعو إِلى التقريب بين الشيعة والسنة، ووحدة الأديان، والوطنية، والقومية وجهاد الدفع فقط دون جهاد الطلب:
محمد عمارة مفكر ينتمي إلى المدرسة العقلية الحديثة ومن كبار المدافعين عنها، وهو وريث الشيخ محمد الغزالي يسير على نهجه، قال عنه الشيخ محمد الغزالي: "إن محمد عمارة قلعة من قلاع الإسلام في القاهرة" (١).
ونحن لا ننكر أن للرجل مجالات في الدفاع عن الإسلام أوردنا منها رده على المستشار العشماوي، ولكن الحق أحب إلينا منه .. له كتابات ومواقف سيئة لابد من التنبيه عليها نُصحًا للأمة.
* جرعات أولاً قبل الغوص في فكره:
- يرفض الدكتور محمد عمارة أن تعود المرأة مكبلة بحجابها ويؤكد: "أن جذور هذه القضية ترتبط بالتمدن والتحضر والاستنارة أكثر مما هي مرتبطة بالدين" (١).
- أما ولاية المرأة للقضاء وحتى الولاية العامة: فهي جائزة عند العصرانيين بإطلاق. يقول محمد عمارة: "إن ما لدينا في تراثنا حول قضية ولاية المرأة لمنصب القضاء، هو فكر إسلامي وآراء فقهية .. وليس دينًا وضعه الله، وأوحى به إلى رسوله عليه الصلاة والسلام ..
وليس هناك إجماع فقهي فيها حتى يكون هنالك إلزام للخلف بإجماع السلف فهي من قضايا الاجتهاد المعاصر، أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"فهو نبوءة سياسية من الرسول بفشل الفرس المجوس، أولئك الذين ملكوا عليهم امرأة، وليس حكمًا بتحريم ولاية المرأة للقضاء، فلا ولايتها العامة ولا الخاصة كانت بالقضية المطروحة، حتى على مجتمع النبوّة، كي تقال فيها الأحاديث" (٢).
* وانظر إِلى هذه السقطة الكبيرة:
فإذا حكمنا (كساسة) بما يحقق مصلحة الأمة، كنا مقتدين بالرسول، حتى ولو خالفت نظمنا وقوانينا ما روي عنه في السياسة من أحاديث؛ لأن المصلحة، بطبيعتها متغيرة ومتطورة" (١).
بل يعبر عمارة بصراحة أشد عن عدم ملاءمة الشريعة لقضايا العصر، عندما يقول: "فإن أحدًا لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عند، ما يقرره نبي لعصره" (٢).
ويدعو عمارة كذلك إلى مدنية السلطة، وجعل حق التشريع في يد جمهور الأمة عندما يقول: "فأصحاب السلطة الدينية قد احتقروا جمهور الأمة، عندما سلبوها حقها في التشريع، وسلطاتها في الحكم"على حين قرر القائلون بمدنية السلطة: "أن الثقة كل الثقة بمجموع الأمة، بل جعلوها معصومة من الخطأ والضلال" (٣).
- ويتابع الدكتور عمارة، فيصف الفتح العثماني بأنه: "طوفان الدمار التركي، وأرجال الجيش العثماني الذي لف العالم العربي بردائه الأسود أكثر من أربعة قرون" (٤).
حتى السلطان صلاح الدين الأيوبي لم يسلم من أذى هؤلاء القوم فيصفه الدكتور محمد عمارة بأنه "القائد الإقطاعي البارز؟ " (٥).
ويأسف الدكتور لانتصار المسلمين في الحروب الصليبية لأنها أعادت الحيوية للإقطاع العربي "فلقد كانت الحروب الصليبية مرحلة من الأحداث الكبرى التي أتاحت للإقطاع العربي فترة من استرداد الحيوية والنشاط" (٦).
- وللدكتور محمد عمارة نظريته في وحدة الأديان، أعلنها تحت شعار
.
.."وحدة الدين الإلهي"، فهو يرفض تقسيم الناس على هذا الأساس (المتخلف)، إلى مؤمنين وكفار؛ لأن ذلك التقسيم، قد ارتبط بالعصور الوسطى وعهود الظلام" (١).
ويرى أن رفاعة الطهطاوي قدم فكرًا مستنيرًا في هذا الجانب حيث قدم "تقسيمًا جديدًا، لا يقوم على معايير الكفر والإيمان، وإنما يقوم على مقاييس، التحضر والخشونة" (٢).
"والفروق بين المسلمين وأهل الكتاب، ليست من الخطر، بحيث تخرج الكتابيين من إطار الإيمان والتدين بالدين الإلهي" (٣).
- ومحمد عمارة يدعو إلى العلمانية الصريحة في كتابه "الإسلام والسلطة الدينية". إذ يقول: "أما إسلامنا فهو علماني ومن ثم فإن مصطلح العلمانية لا يمثل عدوانًا على ديننا بل على العكس، يمثل العودة بديننا إلى موقفه الأصيل" (٤).
- وقديمًا قال محمد عمارة مثل ما قال محمد أحمد خلف الله "من أن البشرية قد بلغت سن الرشد، وقد آن لها أن تباشر شئونها بنفسها بعيدًا عن وصاية السماء" (٥).
وسنقول بملء فمنا بعد استقراء كتب عمارة أنه قد "حرّف"و"كذب"و"لبّس"و"هاجم"و"استهزأ"و"تناقض"ودعا إلى بدعته.
.* نحكم على عمارة من خلال كتبه:
- وهذه الكتب هي:
١ - "القومية العربية ومؤامرات أمريكا ضد وحدة العرب"طبعة أولى، وثانية: القاهرة. دار الفكر ١٩٥٨ م.
٢ - "فجر اليقظة القومية"طبعة أولى: دار الكاتب العربي. القاهرة ١٩٦٧ م. طبعة ثانية: دار القاهرة للثقافة العربية، القاهرة ١٩٧٥ م طبعة ثالثة: دار الوحدة. بيروت ١٩٨١ م. طبعة رابعة. دار الوحدة. بيروت ١٩٨٤ م.
٣ - "العروبة في العصر الحديث"طبعة أولى: دار الكاتب العربي.
القاهرة ١٩٦٧ م. طبعة ثانية: دار الوحدة بيروت ١٩٨١ م. طبعة ثالثة. دار الوحدة. بيروت ١٩٨٤ م.
٤ - "الأمة العربية وقضية الوحدة"طبعة أولى: الدار المصرية للتأليف والترجمة. القاهرة ١٩٦٦ م. طبعة ثانية: دار الوحدة. بيروت ١٩٨١ م طبعة ثالثة: دار الوحدة بيروت ١٩٨٤ م.
٥ - "إسرائيل .. هل هي سامية؟ ". طبعة أولى: دار الكاتب العربي القاهرة ١٩٦٧ م.
٦ - "مسلمون ثوار"طبعة أولى: دار الهلال ١٩٧١ م. طبعة ثانية: بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر ١٩٧٤ م. طبعة ثالثة بيروت.
المؤسسة العربية ١٩٧٩ م.
٧ - "عمر بن عبد العزيز. خامس الخلفاء الراشدين"طبعة أولى: دار الهلال. القاهرة ١٩٧٨ م. طبعة ثانية: بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر ١٩٧٩ م. طبعة ثالثة: دار الوحدة. بيروت ١٩٨٥ م.
٨ - "الإسلام والوحدة الوطنية". طبعة أولى: دار الهلال. القاهرة
١٩٧٩ م. طبعة ثانية: بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر ١٩٧٩ م.
٩ - "قاسم أمين وتحرير المرأة". طبعة أولى: القاهرة - دار الهلال ١٩٨٠ م. طبعة ثانية. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر ١٩٨٠ م. طبعة ثالثة. دار الوحدة. بيروت ١٩٨٥ م.
١٠ - "محمد عبده. مجدد الإسلام". طبعة أولى: دار الهلال. القاهرة ١٩٨٠ م. طبعة ثانية: المؤسسة العربية بيروت ١٩٨١ م. طبعة ثالثة: دار الوحدة. بيروت ١٩٨٥ م.
١١ - "جمال الدين الأفغاني، موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام". طبعة أولى: بيروت. دار الوحدة ١٩٨٤ م. ودار المستقبل العربي. القاهرة ١٩٨٤ م.
١٢ - "عبد الرحمن الكواكبي: شهيد الحرية ومجدد الإسلام"طبعة أولى: بيروت - دار الوحدة ١٩٨٤ م، ودار المستقبل العربي. القاهرة ١٩٨٤ م.
١٣ - "علي مبارك، مؤرخ المجتمع ومهندس العمران". طبعة أولى: بيروت. دار الوحدة ١٩٨٤ م. ودار المستقبل العربي. القاهرة ١٩٨٤ م.
١٤ - "رفاعة الطهطاوي. رائد التنوير في العصر الحديث". طبعة أولى: بيروت. دار الوحدة ١٩٨٤ م. ودار المستقبل العربي. القاهرة ١٩٨٤.
١٥ - "المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية". طبعة أولى: بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر ١٩٧٢ م.
١٦ - "الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية". طبعة أولى: بيروت. المؤسسة العربية ١٩٧٧ م. طبعة ثانية: بيروت. المؤسسة العربية ١٩٧٩ م.
[ضمن مجلد "الإسلام وفلسفة الحكم"]. طبعة ثالثة: القاهرة. دار الهلال ١٩٨٣ م.
١٧ - "المعتزلة وأصول الحكم". طبعة أولى: بيروت المؤسسة العربية ١٩٧٧ م. طبعة ثانية: بيروت. المؤسسة العربية ١٩٧٩ م. [ضمن مجموعة "الإسلام وفلسفة الحكم"]. طبعة ثالثة: القاهرة. دار الهلال ١٩٨٤ م.
١٨ - "المعتزلة والثورة". طبعة أولى: بيروت المؤسسة العربية ١٩٧٧ م.
طبعة ثانية: بيروت. المؤسسة العربية ١٩٧٩ [ضمن مجموعة "الإسلام وفلسفة الحكم"]. طبعة ثانية: بيروت المؤسسة العربية.
١٩ - "نظرة جديدة إلى التراث"طبعة أولى: بيروت. المؤسسة العربية ١٩٧٤. طبعة ثانية: بيروت. المؤسسة العربية.
٢٠ - "عندما أصبحت مصر عربية". طبعة أولى: بيروت. المؤسسة العربية ١٩٧٤ م.
٢١ - "الجامعة الإسلامية والفكرة القومية عند مصطفى كامل". طبعة أولى: بيروت. المؤسسة العربية ١٩٧٦ م.
٢٢ - "معارك العرب ضد الغزاة". طبعة أولى: بيروت. المؤسسة العربية ١٩٧٢ م. طبعة ثانية. بيروت. المؤسسة العربية ١٩٧٥ م.
٢٣ - "محمد عبده. سيرته وأعماله". طبعة أولى: بيروت. دار القدس ١٩٧٨ م.
٢٤ - "المادية والمثالية في فلسفة ابن رشد". طبعة أولى: القاهرة. دار المعارف ١٩٧١ م.
٢٥ - "العرب والتحدي". طبعة أولى: الكويت ١٨٩٠ م. طبعة ثانية: بيروت. المؤسسة العربية ١٩٨٢ م. طبعة ثالثة: القاهرة. دار الهلال ١٩٨٢ م.
٢٦ - "الفكر الاجتماعي لعلي بن أبي طالب". طبعة أولى: القاهرة. دار الثقافة الجديدة ١٩٧٧ م.
٢٧ - "العدل الاجتماعي لعمر بن الخطاب". طبعة أولى: القاهرة. دار الثقافة الجديدة ١٩٧٨ م.
٢٨ - "نظرية الخلافة الإسلامية". طبعة أولى: القاهرة. دار الثقافة الجديدة ١٩٨٠ م.
٢٩ - "الإسلام والثورة". طبعة أولى. القاهرة. دار الثقافة الجديدة ١٩٧٩ م. طبعة ثانية: بيروت. المؤسسة العربية ١٩٨٠ م.
٣٠ - "الإسلام والسلطة الدينية". طبعة أولى: القاهرة. دار الثقافة الجديدة ١٩٧٩ م. طبعة ثانية: بيروت. المؤسسة العربية ١٩٨٠ م.
٣١ - "الإسلام والحرب الدينية". طبعة أولى: بيروت. دار الوحدة ١٩٨٢ م.
٣٢ - "ثورة الزنج". طبعة أولى: بيروت. دار الوحدة ١٩٨٠ م [سبقتها طبعة شعبية في طرابلس - ليبيا].
٣٣ - "التراث في ضوء العقل". طبعة أولى: بيروت. دار الوحدة ١٩٨٠ م. طبعة ثانية. دار الوحدة بيروت ١٩٨٤ م.
٣٤ - "الإسلام وقضايا العصر". طبعة أولى: بيروت. دار الوحدة ١٩٨٠ م. طبعة ثانية. دار الوحدة. بيروت ١٩٨٤ م.
٣٥ - "الإسلام والعروبة والعلمانية"طبعة أولى: بيروت. دار الوحدة ١٩٨٠ م. طبعة ثانية: دار الوحدة. بيروت ١٩٨٤ م.
٣٦ - "دراسات في الوعي بالتاريخ". طبعة أولى: بيروت. دار الوحدة ١٩٨١ م. طبعة ثانية. دار الوحدة. بيروت ١٩٨٤ م.
٣٧ - "الإسلام وأصول الحكم". دراسة ووثائق - طبعة أولى: بيروت. المؤسسة العربية ١٩٧٢ م.
٣٨ - "تيارات الفكر الإسلامي". طبعة أولى: القاهرة. دار الهلال ١٩٨٢ م. طبعة ثانية: القاهرة. دار المستقبل العربي ١٩٨٤ م. طبعة ثالثة دار الوحدة. بيروت ١٩٨٥ م.
٣٩ - "تيارات اليقظة الإسلامية والتحدي الحضاري". طبعة أولى: القاهرة. دار الهلال ١٩٨٢ م.
٤٠ - "الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري". طبعة أولى: القاهرة. دار المستقبل العربي ١٩٨٥ م.
٤١ - "الفريضة الغائبة، عرض وحوار وتقييم". طبعة أولى: القاهرة. دار ثابت ١٩٨٢ م. طبعة ثانية: بيروت. دار الوحدة ١٩٨٣ م.
٤٢ - "الفكر القائد للثورة الإيرانية". طبعة أولى: القاهرة دار ثابت ١٩٨٢ م.
٤٣ - "الإسلام بين العلمانية والسلطة الدينية". طبعة أولى: القاهرة. دار ثابت ١٩٨٢ م.
٤٤ - "ماذا يعني الاستقلال الحضاري لأمتنا العربية الإسلامية؟ ". طبعة أولى: القاهرة. دار ثابت ١٩٨٣ م.
٤٥ - "جمال الدين الأفغاني المفترى عليه". طبعة أولى: القاهرة. دار الشروق ١٩٨٤ م.
٤٦ - "الإسلام والمستقبل". طبعة أولى: القاهرة. دار الشروق ١٩٨٥ م.
٤٧ - "العلمانية ونهضتنا الحديثة". طبعة أولى دار الشروق ١٩٨٥ م.
٤٨ - "الإسلام وحقوق الإنسان". طبعة أولى الكويت سنة ١٩٨٥ م.
٤٩ - "الاستقلال الحضاري".
٥٠ - "معالم المنهج الإسلامي". طبعة أولى. دار الشروق ١٤١١ هـ. المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
٥١ - "الإسلام والفنون الجميلة". دار الشروق ١٤١١ هـ.
٥٢ - "الشيخ محمد الغزالي". الهيئة المصرية ١٩٩٢.
وكتابي الدكتور عمارة "تيارات الفكر الإسلامي"و"الإسلام والمستقبل"وهما حاويان لمعظم ما يدعو إليه الدكتور في كتبه ومقالاته الأخرى.
- يقول سُليمان الخراشي مؤلف كتاب "محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة" (ص ٦٩):
"وبعد قراءتٍ لي كثيرة في كتب ومقالات الدكتور ... أستطيع أن أحصر القضايا التي تسيطر على ذهن الدكتور والتي نريد أن نحاوره فيها
في الآتي:
١ - العقل والعقلانية.
٢ - المعتزلة.
٣ - تيار الأفغاني: ويشمل عددًا من الأفكار الجزئية:
١ - وحدة الأديان.
٢ - الوطنية.
٣ - القومية.
٤ - العلمانية.
٥ - الاشتراكية.
٦ - التقريب بين السنة والشيعة.
٧ - تحرير المرأة.
٨ - الحرب الدفاعية.
٩ - خبر الآحاد.
١ - العقل والعقلانية:
- يقول الدكتور محمد عمارة:
"إن مقام العقل -الذي هو أداة العلم في الإسلام- مقام لا تخطئه البصيرة بل ولا البصر .. فمعجزته القرآن تتوجه إلى العقل .. وهو الحاكم بين ظواهر النصوص وبين البراهين العقلية إذا ما لاح التعارض بينهما""التراث في ضوء العقل" (ص ١٨٣).
"لا بد من عرض النصوص المروية على البرهان العقلي. فإذا تعارضت معه وجب تأويلها كي تتفق مع برهان العقل""التراث في ضوء العقل" (ص ٢٧٠).
"لقد بلغ تقديس الإسلام للحرية الإنسانية إلى الحد الذي جعل السبيل
إلى إدراك وجود الذات الإلهية هو العقل الإنساني فحرر سبيل الإيمان من تأثير الخوارق والمعجزات بل ومن سيطرة الرسل والأنبياء""الإسلام وحقوق الإنسان" (ص ٢٣).
- "إن البشرية قد بلغت عنده وبه (أي الإسلام) مرحلة النضج وسن الرشد ومن ثم فلقد أصبحت أمور دنياها موكولة إلى عقلها ولم تعد أمرًا سماويًّا يأتيها به نبي جديد كلما انحرفت عن الطريق المستقيم""الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية" (ص ٦٥).
- "بالعقل انتصرت العروبة وانتشر الإسلام""العرب والتحدي" (ص ٧١).
- "حضارتنا العربية الإسلامية متميزه في عقلانيتها عن الحضارة الغربية تميزًا لا سبيل إلى إنكاره أو التشكيك فيه .. " (مقال العقلانية الإسلامية مجلة الهلال مايو ١٩٨٨).
ونصوص أخرى كثيرة مثل هذه لا نثقل الكتاب بنقلها فقد مضى منها ما يغني ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الدكتور عمارة أو مقال من مقالاته العديدة دون الإشارة إلى دور العقل في تراثنا ودون إطراء لأصحابه من المعتزلة وأتباع المدرسة العقلية في الزمن المعاصر" (١).
- وقديمًا قال الملحد جميل صدقي الزهاوي:
قالوا اترك العقل ولا تعمل به ... حتى يؤيد حكمة المنقول
قلت اترك المنقول لا تعمل به ... حتى يؤيد حكمة المعقول (٢)
.- يقول الدكتور: "إننا نجد القرآن الكريم معجزة عقلية تتوجه إلى العقل وتحتكم إليه وتجعله مناط التكليف بل ومعيار إنسانية الإنسان ثم تقيمه حاكمًا على كل النصوص والمأثورات! وفي السنة النبوية نجد الانحياز إلى العقل حتى لقد جعلت الشك النهجي هو محض الإيمان؛ لأنه هو الطريق إلى اليقين الذي لا يتأتى الإيمان بدونه؟! ""الإسلام والمستقبل" (ص ٢١). إذن العقل حاكم على (كل) النصوص والمأثورات! لأن القرآن عقلي والسنة انحازت للعقل.
- ويقول في موضع آخر عن المعتزلة وهم (فرسان العقلانية) في نظره.
مؤيدًا لهم أنهم: "قالوا إن الأدلة أولها دلالة العقل؛ لأن به يميز بين الحسن والقبيح؛ ولأن به يعرف أن الكتاب حجة وكذلك السنة والاجماع""الطريق" (ص ١٠٠). فالعقل أولاً ثم النص. لماذا؟ لأن العقل يميز بين الحسن والقبيح ولأن به يعرف الكتاب والسنة.
- ويقول أيضًا: "إن مقام العقل -الذي هو أداة العلم- في الإسلام مقام لا تخطئه البصيرة بل ولا البصر فمعجزته القرآن تتوجه إلى العقل وهو الحاكم بين ظواهر النصوص وبين البراهين العقلية إذا ما لاح التعارض بينهما""التراث" (ص ١٨٣). فإذا ما عارض النص العقل .. قدم العقل.
- ويقول أيضًا: "أما عن العلاقة بين العقل وبراهينه ومعطياته وبين ظواهر النصوص فإننا نجد الأفغاني يحتكم إلى معطيات العقل والبرهان ويقطع بوجوب الاحتكام للعلم في كل ما يعرض من شبهات خلافية لأن القرآن قد أتى بالكليات والعموميات فيما يتعلق بهذا الحقل وتفسير هذه الكليات والإشارات إنما يكون على ضوء أحكام العقل ومعجزات العلوم والتأويل فظواهر النصوص هي السبيل إلى هذا التوفيق المنشود فإذا لم نر في القرآن ما يوافق صريح العلم اكتفينا بما جاء فيه من الإشارة ورجعنا إلى
التأويل إذ لا يمكن أن تأتي العلوم والمخترعات بالقرآن صريحة واضحة وهي في زمن التنزيل مجهولة من الخلق كامنة في الخفاء لم تخرج لحيز الوجود كما أن القرآن يجب أن يجل عن مخالفته العلم الحقيقي خصوصًا في الكليات""مسلمون ثوار" (٤١٢). إذن عندما يوهم نص ما تعارضه مع اكتشاف علمي أو نظرية جديدة يجب أن يؤول ذلك النص بما يوافق ذلك الاكتشاف أو تلك النظرية؛ لأن القرآن جاء بالعموميات فقط.
- ويقول: "الإسلام لا يمد نطاق علوم الوحي والشرع إلى كل الميادين الدنيوية التي ترك الفصل فيها والتفسير لعلوم العقل والتجربة الإنسانية "الدولة الإسلامية" (ص ١٧٢) فالنصوص الإسلامية الشرعية لا مدخل لها في بعض الميادين المدنيوية .. ما هي هذه الميادين؟ .. لم يحدد الدكتور!.
- ويقول أيضًا: "إن الإسلام الدين لم يعترف لبشر بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسلطة دينية فلقد انقضى زمن الوحي وبلغت الإنسانية سن الرشد وأوكلها الله إلى وكيليه عندها الكتاب -وهو القرآن الكريم- والعقل - الذي جعله الله من أجل القوى الإنسانية. بل أجلها على الإطلاق""الدولة الإسلامية" (ص ١٧٧) فمرجعنا إذن القرآن والعقل! (١).
* وهذه مواضع يقدم فيها محمد عمارة موقفه من قضية العقل:
الأول: أنه يقدم العقل على كل نص يدل على معجزة خارقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من البشر ويكتفي بالمعجزة العقلية الوحيدة للرسول" - صلى الله عليه وسلم - وهي القرآن الكريم. انظر مقال (ماذا تعني بشرية الرسول) (الهلال. ديسمبر ١٩٨٤) كاملاً.
.الثاني: إنكاره مجيء جبريل في صورة دحية الكلبي - رضي الله عنه -. يقول: "هل حقًّا أن بعض الصحابة قد رأى الملك جبريل وهو في صورة دحية الكلجي أثناء لقائه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إن في رواية البخاري عن أبي عثمان ما يدل على أن أم سلمة زوج النبي قد رأته وأنها قد حسبته دحية الكلبي حتى أنبأها النبي أنه جبريل وفي مسند أحمد بن حنبل ما يدل على أن عبد الله بن عباس قد رآه والرسول يناجيه .. لكننا لو عرضنا ذلك على معنى الوحي الذي هو إعلام في خفاء عمن عدا النبي وعلى معنى الناموس الذي سمى به جبريل لاستتاره عن غير النبي ملنا عن التسليم بأن أحدًا غير الرسول قد رأى الوحي والناموس ويدفع عنا الحرج في هذا الميل أن هذين الحديثين ككل أحاديث الوحي هي أحاديث آحاد". (مقال: الوحي الإلهي - الهلال ديسمبر ١٩٨٥).
الثالث: رده حديث افتراق الأمم المشهور عقلاً ولأنه حديث آحاد كما مر معنا في كتاب "تيارات الفكر الإسلامي".
الرابع: إنكاره الهدي. قال: "لقد كانت المهدية إبداعًا يستلهم الأسطورية التراثية التي جعلت من المهدي ذلك البطل الأسطوري الذي تُعده السماء لينتشل المجتمع من أزمته ويخلصه من مأزقه فيملأ الأرض عدلاً بعد أن امتلأت بالجور والفساد! ""الطريق" (١٨٣). وقد صرح بذلك في كتابه "عمر بن عبد العزيز" (ص ١٥٠).
الخامس: إنكاره لحديث سحر اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ورد في "الصحيح"بدعوى أنه ظني متابعًا في ذلك الغزالي (١) أثناء ندوة عقدتها جريدة المسلمون - العدد (٢٧٦).
هذا ما عثرت عليه من أقواله التي عارض فيها العقل بالنقل تفصيلاً.
* ثناؤه على المعتزلة (١):
لم يصل الدكتور عمارة في تعظيمه للعقل كما رأيت إلا بعد أن تشرب بمبادئ المعتزلة وأُعجب بعقولهم. ويمكن أن يُعكس هذا فيقال إنه محبة عمارة للعقل وإيمانه بقدرته على قيادة الإنسان للهدى ساقه إلى تعظيم المعتزلة وإطرائهم وصرف أبصار قرائه إليهم لأنه وجد فيهم بغيته. وهكذا يقال في تيار الأفغاني كما سيأتي:
١ - يقول الدكتور في كتاب "نظرة جديدة إلى التراث" (ص ٩١): "كان التوحيد بمعناه النقي المبرأ من الشبهات هو الذي دعا المعتزلة لنفي القدم عن القرآن لأنهم ينفون الصفات عن الذات العلية حتى لا يكون هناك إقرار بقدم بهذه الصفات فيكون مع القديم قديم آخر".
٢ - يخصص الدكتور عمارة كتابًا كاملاً. هو "المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية"لنصرة قولهم بالقدر.
٣ - يكتب الدكتور فصلاً كاملاً بعنوان (المنزلة بين المنزلتين) في آخر كتاب "الإسلام والمستقبل" (ص ٢٥٦) لنصر قولهم بهذه البدعة، ويقول في آخره بلهجة داعية: "هل تستحق فكرة المنزلة بين المنزلتين هنا ما لم تظفر به فيما تقدم من التاريخ؟ ".
٤ - أما رجال المعتزلة (والقدرية قبلهم) فإن الدكتور يثني عليهم ثناءً حارًا وعلى مواقفهم ويعتبرهم من أفذاذ رجال الإسلام، وأصحاب الفكر
.المستنير في تراثنا.
- يقول عن غيلان الدمشي: "كانت حياة غيلان نموذجًا فريدًا يجسد الموقف الثوري من سلبيات مجتمعه كذلك كان مماته نموذجًا فريدًا يجسد سلبيات هذا المجتمع ويدين هذه السلبيات""مسلمون ثوار" (ص ١٤٩).
- ويقول عن عمرو بن عبيد أحد رءوس المعتزلة أنه: "علامة بارزة على طريق تطور العقل العربي المسلم وعلم من الأعلام الذين صنعوا النشأة الأولى للتيار العقلاني في تراثنا .. ""مسلمون ثوار" (ص ١٦١).
- ويقول عن الماوردي: "واحد من مفكري العرب وعلماء الإسلام الذين يمثلون علامة من العلامات البارزة والمتميزة على درب تطورنا الحضاري وتبلور تراثنا .. ""التراث في ضوء العقل" (ص ٥٦).
- ويقول عن ابن جني: "الرائد العملاق" (نظرة جديدة ٦٨).
- ويقول عن الجاحظ: "من أبرز العلماء والمتكلمين والأدباء ومفكري السياسة والاجتماع في عصره""التراث" (ص ٢٦٢).
وغير هؤلاء من رجال المعتزلة. لهذا يعد موقف أهل السنة من المعتزلة موقفًا ضد الدكتور عمارة في نفس الوقت؛ لأنه يُعَدُّ رجلاً من رجالهم في العصر الحاضر. برغم أنه لم يكتف بذلك بل أضاف إليه كثيرًا من البدع المعاصرة الأخرى. فازداد بدعة على أخرى!.
* يقول الدكتور محمد عمارة في كتابه"تيارات الفكر الإِسلامي":
- لقد أصبح الواقع الفكري للحياة العربية الإسلامية يتطلب فرسانًا غير النصوصيين ويستدعي أسلحة غير النقول والمأثورات للدفاع عن الدين الإسلامي وعن حضارة العرب والمسلمين. وغدت الأمة العربية المسلمة تتطلع إلى نمطها الفلسفي المتميز الذي تدافع به عن بنائها الحضاري الخاص .. فلا بد من الاستجابة الإيجابية تجاه ما فرض عليها من تحديات" (ص ٦٧)، وكان المعتزلة "هم التجسيد للأسلحة الجديدة التي تسلحت بها الأمة دفاعًا عن حضارتها الوليدة ودينها الجديد أمام خصومها من أهل الملل والنحل والمذاهب والفلسفات الأخرى" (ص ٦٧).
- "يسلم الكثيرون بأن المعتزلة هم فرسان العقلانية في حضارتنا".
وأن هذه القسمة "قد تدعمت ونمت بترجمة فلسفة اليونان، ولكنها لم تبدأ بهذه الترجمة فالمعتزلة ومن قبلهم أسلافهم أهل العدل والتوحيد قد مثلوا في تطورنا الفكري بمراحله المبكرة عقل هذه الأمة الذي تأمل وتدبر كي يجيب على الأسئلة التي طرحتها الحياة على المجتمع والناس. فمنذ نشأتهم الأولى امتازوا وتميزوا بالنظر الفلسفي في أمور الدين. فهم إذن يمثلون تيارًا عقليًّا في الفكر العربي الإسلامي حتى قبل حركة الترجمة عن اليونان وغيرهم من القدماء" (ص ٦٩).
- "رفضوا طريق التقليد لأن التقليد كما يكون في الحق يكون في الباطل وكما يكون في الصحيح يكون في الفاسد، وكما يكون فيما ثبت بالدليل يكون فيما لا دليل عليه .. وهذا معلم هام من المعالم المميزة بينهم وبين أهل السنة وأصحاب الحديث" (ص ٧٢).
- "المعتزلة لم يكونوا فقط كما يظن الكثيرون. علماء في الدين وفلاسفة في الإلهيات وإنما كانوا فرسانًا في القتال وثوارًا في السياسة ومتبتلين في العبادة وزهادًا في عرض الدنيا ورجال دولة وأدباء وشعراء ورواة ونقاد""لقد كانوا أكثر من فرقة دينية كانوا علماء بالمعنى الحضاري بل وصناعًا للحضارة التي نفخر بها اليوم أليس عصرها الذهبي الذي نعتز به ونستدفئ بذكرياته وإنجازاته هو عصر الخلفاء الذين تمذهبوا بمذهب المعتزلة: المأمون والمعتصم والواثق" (ص ٧٢ - ٧٣).
- إن "المرجئة والجبرية الأموية كانوا أهل حشو يقفون عند ظواهر النصوص ومن ثم فلا جلد لهم ولا قدرة على جدل خصوم الإسلام بمنطق العقل وحكمة الفلسفة. أما المعتزلة فقد كانوا هم الفرقة الإسلامية التي تصدت للدفاع عن الإسلام ضد خصومه بل واتخذت موقع الهجوم على هؤلاء الخصوم" (ص ٧٣).
- ثم عقد الدكتور عمارة مبحثًا بعنوان "القوى الإيجابية التي مثلوها" (٧٥ - ٧٩) وخرج منه بأن "خريطة المواطن التي انتشر فيها فكر المعتزلة وسادتها نزعتهم العقلانية القومية كانت هي خريطة التجارة وطرقها ومواطن التجار ومحطاتهم" (ص ٧٩).
- ثم ذكر نماذج من مشاركاتهم السياسية وثوراتهم على حكام الجور وبين أن تلك الثورات تجسيد "لرفض القوى الاجتماعية المتقدمة لما أحدثه الأمويون من تغييرات في طبيعة السلطة العليا للدولة -الخلافة- تلك التغيرات التي بدلت فلسفة الحكم فبدلاً من الشورى والبيعة والاختيار أصبحت وراثة وملكًا عضودًا" (ص ٧٩ - ٨٠). ومنها: ثورة ابن الأشعث، ثورة الحارث بن سريج، ثورة زيد بن علي، ثورة يزيد بن الوليد، ثورة النفس الزكية، ثورة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، ثورات الزيدية.
- ثم تعرض لأبرز تياراتهم وهما اثنان:
١ - تيار المعتزلة البغداديين وهي مدرسة العلويين ومؤسسها (بشر بن المعتمر).
٢ - تيار المعتزلة البصريين: وهو التيار "الذي توثقت صلاته بالدولة العباسية فأثر فيها وأضفى على مواقفها من فكره وأسهم في صنع الإنجازات الحضارية التي سطرت صفحة العصر الذهبي لحضارتنا وتراثنا في ذلك التاريخ" (٨٣) ومن أبرز رجالها: ابن أبي دؤاد وثمامة بن أشرس.
- ثم يذكر الدكتور أنه "بموت الخليفة العباسي الواثق انتهى العصر الذهبي للمعتزلة بل العصر الذهبي للدولة العباسية، وبدأت النذر بمرحلة التراجع. ففي عهد المتوكل العباسي حدث الانقلاب ضد المعتزلة ونزعتهم العقلانية فاقتلعوا من مناصبهم في الدولة وأبعدوا عن مراكز التأثير الفكري وزج بالكثير من أعلامهم في السجون وأبيدت آثارهم الفكرية إلا ما ندر منها. فتقلص سلطان العقل العربي الإسلامي على الحياة الفكرية والعامة وعزلت معاييره" (٨٤) "فنفر من أهل الحديث الذين يقدمون الإسناد والنقل على الدراية والعقل. خرجوا من السجون فتولوا أزمة الدولة قضاءً وتدريبًا وإدارة ووضع المعتزلة بدلاً منهم في السجون" (٨٤) واستمر اضطهاد المعتزلة وازداد في عهد القادر الذي وضع "الاعتقاد القادري"ووقع عليه "علماء السنة وأهل الحديث" (٨٥)، "ولقد أدخل هذا الكتاب في الإسلام كهنوتًا اعتقاديًّا مستعارًا من قرارات المجامع الكنسية غريبًا عن روح الإسلام وطبيعته".
- وتحت عنوان "صحوة ثانية"يذكر الدكتور عمارة أن الدولة البويهية الشيعية أفسحت للمعتزلة مجال الحرية لاتفاقهم معها في الأصول. ومن أبرز آعلام هذه الصحوة القاضي عبد الجبار. فاستمرت "أصولهم الفكرية قائمة ومؤثرة في الواقع العربي الإسلامي من خلال وجود الزيدية التي لا تختلف وإياهم إلا في بعض المسائل الفرعية المتعلقة بمسألة الإمامة. كما بقيت بعض أصول المعتزلة تعيش في الواقع العربي الإسلامي حتى الآن من خلال تبني الشيعة الإمامية لها أو اقترابها من رأي المعتزلة فيها" (ص ٨٧)، "لقد انقضت المعتزلة كفرقة، ولكنها استمرت نزعة عقلية وفكرًا قوميًّا وأصولاً فكرية من خلال فرق أخرى تأثرت بها ومن خلال البصمات التي طبعتها على المجرى العام الخالد والمتدفق والمتطور لفكر العرب والمسلمين" (ص ٨٧).
* ثناؤه على تيار الأفغاني:
- يقول سليمان بن صالح الخراشي:
"قد اخترت تسميته بهذا الاسم دون أن أسميه كغيري (المدرسة العقلية)
أو (المدرسة الإصلاحية) أو (مدرسة التجديد الديني) .. لأني أظن أن ظهور هذا التيار بين الرجال الذين آمنوا به إنما كان لمجهود هذا الأفغاني الذي بشر بدعوته بينهم فاعتنقوها. ومن بين هؤلاء الرجال الذين اعتنقوا فكر هذا التيار بعنف ولكنه لم يحظ بمشاهدة رجاله الأوائل أي أنه من تابعيه لا من صحابته الدكتور عمارة الذي ولع قلبه بحب هذا التيار ورجاله وأصبح يلهج بذكرهم في كل محفل وفي كل فرصة تسنح له ومن تتبع كتبه ومقالاته علم أنه لا يحيد قيد شعرة عما قرره في شتّى المسائل: القومية، الوطنية، الاشتراكية، العقلانية .. إلخ. فهو معهم كمن قال في محبوبته السوداء:
أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب!
فتيارهم عنده هو "التيار السلفي العقلاني المستنير"وهو "الذي كان أبرز تيارات التجديد في حركة اليقظة العربية في العصر الحديث""العرب والتحدي" (٢٩١) " (١).
- وفي كتابه "تيارات الفكر الإسلامي"تحت عنوان "الجامعة الإسلامية السلفية .. العقلانية المستنيرة" (ص ٢٨٥ - ٣٤٠) قال:
"هذا التيار هو الذي بدأه فيلسوف الإسلام وموقظ الشرق جمال الدين الأفغاني وتجسّد فكرة وخاصة ما تعلق بتحرير العقل والإصلاح الديني في الآثار الفكرية والجهود العملية للإمام محمد عبده، وكان جناحه في المشرق العربي المفكر عبد الرحمن الكواكبي وفي المغرب العربي عبد الرحمن ابن باديس ومن حول هؤلاء جميعًا عرفت الأمة أقوى تيارات التجديد واليقظة في عصرها الحديث وأكثرها أصالة ومستقبلية أيضًا! " (ص ٢٨٥).
- بهذه العبارة بدأ الدكتور عمارة حديثه عن هذا التيار ثم أزال شبهة قد تعلق بذهن بعض الناس وهي تساؤله "كيف يكون هذا التيار الفكري سلفيًّا ومستنيرًا في ذات الوقت؟ والاستنارة تعني ضمن ما تعني المستقبلية وهو ما يبدو نقيضًا للسلفية بل وإياها على طرفي نقيض" (ص ٢٨٥) ولإزالة هذه الشبهة أخذ الدكتور عمارة يقارن بين سلفية جمال الدين الأفغاني وسلفية محمد بن عبد الوهاب أو الوهابية كالآتي:
"كانت السلفية عند الوهابية كما كانت عند تراثها في فكر أحمد بن حنبل وابن تيمية الوقوف عند ظواهر النصوص الدينية، وجعل المعاني المستفادة من هذه الظواهر المرجع في كل من أمور الدين وأمور الدنيا .. فهي قد وقفت عند مفهوم الإسلام كدين كما كان حال هذا المفهوم في عصر البداوة والبساطة للأمة العربية، وقبل التطورات العلمية والإضافات العقلية التي استدعتها صراعات الأمة الفكرية مع الملل والنحل غير الإسلامية بعد عصر الفتوحات ومن ثم فإن السلفية بهذا المعنى تسقط من تراثها العلوم العقلية والتصوف الفلسفي وتعتبر كل ذلك (بدعًا) طرأت على الإسلام كما فهمه السلف الصالح.
أما السلفية لدى التيار الذي تزعمه الأفغاني ومحمد عبده فإنها ليست كذلك تمامًا؛ لأنها تأخذ عقائد الدين وأصوله على النحو النقي المبرأ من الخرافات والإضافات وهي هنا سلفية تتفق مع الوهابية وخاصة في إزالة شبهات الشرك والوثنية والتوسل والوسائط عن عقيدة التوحيد لكنها لا تقتصر في فهمها للإسلام كحضارة وتراث على فهم السلف الصالح له لأن الإسلام كحضارة وعلومه العقلية والفلسفية ومذهبه في التصوف الفلسفي كل ذلك قد حدث بعد عصر السلف، وقد حدث لأن ضرورات موضوعية اقتضته ومن ثم فإن هذا التيار لا يسقط هذا التراث من تراث الإسلام ولا يعتبره بدعًا سيئة لأنه يحدد إطار البدع السيئة بما يجعلها خاصة بأصول الدين وعقائده الجوهرية. ففيها لا ابتداع ولا تطوير مهما اختلف الزمان والمكان. أما في الإسلام كحضارة وعلوم فإن التطور دائم والإضافات مستمرة ومن ثم فإن الابتداع هنا حسن وليس بالسيء كما هو الحال في أصول الدين" (ص ٢٨٦).
- "سلفية الوهابية التي وقفت عند المأثورات وحدها، وعند فهم السلف وحدهم لهذه المأثورات قد جعلت من المأثورات الكل الذي لا شيء وراءه، ونقطة البدء والمنتهى سواء في عقائد الدين أو في أمور الدنيا، وقد يكون لها العذر؛ لأن بداية مجتمعها لم تكن تطرح من القضايا والمعضلات ما يتجاوز إطار المأثورات .. أما التيار السلفي العقلاني المستنير فلم يكن ذلك حاله ولا موقفه؛ لأنه قد نبت في أكثر البيئات العربية الإسلامية تطورًا، وأشد مجتمعات الأمة تعقدًا، وهو قد استشرف بناء مجتمع عربي مسلم أكثر تطورًا وتحضرًا، ومن ثم أشد في درجات التعقيد" (ص ٢٨٧).
- "والتقليد الذي يفضي إلى الجهود .. لقد عابته سلفية الوهابية، ولكن غضها من قيمة العقل قد أوقعها في خطر التقليد وحبسها في إطاره على حين وجدنا إعلاء تيار الأفغاني وتلاميذه لشأن العقل قد جعلهم حربًا معلنة وضارية ضد التقليد والمقلدين" (ص ٢٨٨).
- "وسلفية الوهابية وقريب منها أو مثلها - سلفية الشيخ رضا لاعتمادها على النقل دون العقل أو أكثر من العقل ولتعميمها ذلك في شئون الدنيا أيضًا جعلت من التجديد دعوة للعودة إلى مجتمع السلف ونظمه وتشريعاته فضلاً عن فكره فهي عودة إلى السلف وإن تفاوتت صراحتها في هذه الدعوة بين دعاتها في البادية حيث كانت هذه العودة ليست بالأمر المستحيل وبين دعاتها في الحضر كما عند رشيد رضا حيث جعلها الغاية التي تؤدي إليها وسائل مغلقة بالغموض والتعميم! أما سلفية التيار العقلاني المستنير فهي لا تدعو للعودة إلى مجتمع السلف؛ لأنها تدرك استحالة ذلك فضلاً عن خطره وضرره، وإنما هي تدعو إلى استلهام ما هو جوهري ونقي -أي الدين الخالص- في تراثنا ليكون نقطة البدء والطاقة المحركة والنبع المقدس لدفع عجلة التطور إلى الأمام، ولبناء مجتمع جديد جدة الواقع والظروف والاحتياجات والملابسات فالسلفية هنا أساس بني عليها البناء الجديد"ص (٢٨٨).
- "على حين كانت السلفية الوهابية تضع التصوف والصوفية في عداد الشرك والمشركين هكذا بإطلاق رأينا الأفغاني ومحمد عبده يتحدثان عن ابن عربي بإجلال كبير فيلقبانه بالشيخ الأكبر ووجدنا الأفغاني يحتل مكان الفيلسوف المتصوف الذي امتزجت فيه حكمة الفيلسوف برياضات الصوفي فهو صوفي خلع الملابس المرقعة وعدل عن حمل المسبحة الطويلة وانخرط في حركة التجديد بالإصلاح وجعل من العقل -كما أراد الله سبحانه- أفضل القوى الإنسانية ومعيار إنسانية الإنسان فكان فيلسوفًا يسلك إلى التجديد والإصلاح والثورة للفرد والأمة مجاهدات ورياضات هي أشبه ما تكون بمراقي الصوفية الحكماء على الطريق" (ص ٣٠٦) فهو تيار "يتفق مع سلفية الوهابية في رفض البدع والوسائط التي شابهت عقيدة التوحيد عند الطرق الصوفية، ولكنه يختلف معها في تقييمه للتصوف كنمط تربية وسلوك وكحكمة فلسفية" (ص ٣٠٦).
- تيار يرى في السلطة الدينية "عقيدة من عقائد الكاثوليكية الأوربية جعلتها كنيستها أصلاً من أصول المسيحية وأتاحت بذلك للملوك أن يجمعوا السلطتين "المدنية السياسية، والدينية"في نظام واحد وشخص واحد" (ص ٣١٠).
"وهو يرد على الذين يزعمون أن الإسلام يشبه المسيحية في هذا، ويقول: أن زعمهم هذا ضلال منهم" (ص ٣١٠).
- على الرغم من أن أعلام هذا التيار التجديدي قد فكروا وعملوا تحت رايات دعوة "الجامعة الإسلامية"وحركتها إلا أنهم قد كانوا من أبرز طلائع الفكر القومي والفكرة العربية في ذلك التاريخ (ص ٣١١)؛ لأن العروبة "ليست عرقًا ولا نسبًا وإنما هي لغة وآداب وتكوين نفسي وحضارة وولاء وذلك كله أمر مكتسب وليس وقفًا على التوارث المحكوم بنقاء الدم الجاري من الأصول إلى الفروع. وهذا الأمر المكتسب هو الذي نعبر عنه بالتعرب والتعريب والاستعراب، وهو ما حدث لأبناء الشعوب التي قطنت في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج بعد عصر الفتوحات سواء منهم من دان بالإسلام أو بقي على دينه القديم" (ص ٣١٤)، "فالرباط القومي ليس هو العرق والجامعة القومية ليست هي الدين وإنما هي العروبة بالمعنى الحضاري" (ص ٣١٤).
- "ومن الأمور التي تؤكد وعي هذا التيار التجديدي بالطابع القومي والمعنى القومي عند استخدام أعلامه لمصطلح العرب أنهم قد تحدثوا عن الأمة العربية باعتبارها قومًا يتدين أهله بأكثر من دين ويتمذهب بأكثر من مذهب" (ص ٣٢٣)، وهم في كل هذه الجهود القومية العربية يواجهون تحدي الدولة العثمانية والأتراك الذين "رفضوا أن يتعربوا وآثروا التمسك باللغة التركية وهي لغة لا حضارة لها إذا ما كانت المقارنة بينها وبين كنوز العرب وتراث لغتهم" (ص ٣١٦).
- وهو تيار "مع الديمقراطية ضد الاستبداد" (ص ٣٢٧) فتحدى "الاستبداد بالسلطة والتفرد بأمر الأمة" (ص ٣٣٠) و"دعا الأمة إلى استلهام تراثها في الحرية والشورى والاسترشاد بتجربة أوربا في الديمقراطية تصديًا لتحدي الاستبداد وأخذًا بأسباب الانعتاق من قفص الاستعباد العثماني والاستعمار الأوربي على السواء! " (ص ٣٣٠).
- وهو تيار ضد الاستعمار، ولكن "عداء هذا التيار التجديدي للاستعمار لم تشبه شائبة أي تعصب ديني ضد مسيحية الغرب التي يتدين بها المستعمرون" (ص ٣٣٥)، بل "واجه هذا التيار التجديدي تحدي الاستعمار الأوربي الذي زحف على أقطار العروبة وبلاد الإسلام" (ص ٣٣٥).
- انطلق هذا التيار لتجديد حضارتنا من عدة منطلقات:
١ - أن حضارتنا تتميز "بالموقف المتوازن والموازن بين المتناقضات"مما يعطيها "ميزة ويعصمها من مخاطر وأخطار يشكو منها الآخرون" (ص ٣٣٦).
٢ - وأمتنا "ليس من السهل تجريدها من ثوبها الحضاري والقذف بها تحت عباءة الآخرين .. ! بل قد يستحيل ذلك حتى لو أراد نفر من بنيها مخلصين كانوا أم مخادعين! " (ص ٣٣٦).
٣ - "أن الدعوة إلى حضارة عربية إسلامية متميزة لا يعني تقديس الماضي ولا العودة إليه كي نعيش في نظمه وقوالبه بل ولا الأخذ بجميع أصوله .. وإنما الذي تعنيه هذه الدعوة هي الأخذ ببعض الأصول الثابتة التي تمثل القسمات المميزة للشخصية العربية الإسلامية، وهذه الأصول التي تحمل صلاحيات معاصرة وتمثل قوة دفع وطاقة تحريك للأمة نحو التقدم" (ص ٣٣٦).
٤ - "كما خالف هذا التيار السلفية غير العقلانية وغير المستنيرة تلك التي وقفت عند ظواهر النصوص سواء أكانت نصوص العصر الأول أو العصور المملوكية العثمانية اختلف كذلك وخالف التيار الذي انبهر بحضارة الغرب فدعا إلى أن نبدأ من حيث انتهى الغرب" (ص ٣٣٨).
- مما سبق عرضه من كتاب "تيارات الفكر الإسلامي"يتبيّن انحياز الدكتور عمارة الواضح لمنهج هؤلاء العقلانيين لا سيما وهو القائم على إصدار أعمالهم كاملةٌ بعد جمعها من مظانها وهو مجهود لا يفعله إلا محب ولهان.
في حبكم يهون ما قد ألقى ... ما يسعد بالنعيم من لا يشقى
- يقول الشيخ سليمان الخراشي صاحب كتاب "محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة":
"يدعو الدكتور الأمة الإسلامية ويستحثها على السير في ركاب هذا التيار قائلاً -وما بين الأقواس إضافة مني-: "الموقف المتميز لمدرسة التجديد الديني هذه يستطيع إذا نحن التزمناه واعين ومطورين له أن يقود هذه الأمة إلى: نهضة تصل غدها الذي نريده مشرقًا بماضيها المشرق! وعقلانية معاصرة تكون الامتداد المتطور للعقلانية التي صنعها أسلافنا (يعني بهم المعتزلة! ) والتي أضاءت أرجاء الأرض منذ قرون ولعدة قرون! وعدلاً اجتماعيًا (يعني الاشتراكية! ) يكون الصورة العصرية الملائمة لحلم الإنسان العربي المسلم بالعدل على امتداد تاريخه الطويل! ووحدة وطنية وقومية راسخة مؤسسة على قواعد تراثنا الديني والحضاري .. وليس على أنقاض هذا التراث. نعم .. إلى هذه النهضة وإلى هذه الغايات السامية تدعونا وتقودنا مدرسة التجديد الديني فهل نجيب ونستجيب؟ أم نظل ممزقين بين التغريب وفقر الفكر (من يعني؟ ستعلم بعد حين! ) وانحطاط التصورات لدى أنصار عصر المماليك والعثمانيين""التراث" (ص ١٩٥).
ويقول: "أنا قد حققت من تراثنا القديم نصوصًا في الفكر العقلاني للمعتزلة وابن رشد مثلاً - ومن تراثنا الحديث الأعمال الفكرية لأبرز الأعلام الذين صنعوا عصر اليقظة والتنوير والإحياء لأمتنا العربية في عصرها الحديث وهذا الاختيار ينطبق عليه ما قاله أسلافنا القدماء من أن اختيار المرء قطعة من عقله .. فأنا أريد أن أقول بهذا الاختيار أن حاضرنا ومستقبلنا حضاريًّا يجب أن يكون الامتداد المتطور العصري للصفحات التي مثلت إبداع أمتنا وعطائها الخلاق فيعصر ازدهارها الحضاري .. وإن قسمة العقلانية والعروبة هي من أهم القسمات التي يجب أن نحرص على تميز فكرنا بها وانطباع حضارتنا بطابعها""التراث" (ص ٢٨٢).
- لقد أُعجب الدكتور عمارة بهذا التيار والأفغاني ومحمد عبده خاصة، ووقف عمره على خدمة تراثهم منذ سنوات الدراسة الجامعية، وكتبه كلها
ترديد لأفكاره بعد إلباسها الثوب الناسب لهذه المرحلة.
لقد أندفع د. عمارة بكل قواه العقلية لنصر هذا المذهب رغبة في أن يعم أرجاء مصر بل أرجاء البلاد العربية، والأفكار الرئيسية لهذا التيار تكررت في كتب الدكتور وهي:
١ - وحدة الأديان. ٢ - الوطنية. ٣ - القومية ٤ - العلمانية. ٥ - الاشتراكية. ٦ - التقريب بين السنة والشيعة. ٧ - تحرير المرأة. ٨ - خبر الآحاد. ٩ - تقديم العقل على النص وقد سبق الحديث عنها.
١ - وحدد الأديان: أظن أخي القارئ أنك ستصاب بصدمة كبرى عند قراءتك لكتاب "الإسلام والوحدة القومية"للدكتور عمارة والذي ردد فيه أخطر آرائه. فهو يدعو فيه إلى وحدة الأديان وأن اليهود والنصارى ناجون يوم القيامة، وإن لم يؤمنوا بالإسلام أو برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنك لم تتصور أن تبلغ الجرأة بهذا. الدكتور أو المفكر الإسلامي أن يقول بمثل هذا القول المناقض لآيات القرآن ولأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - المصرّحة بكفرهم بل والمناقضة لإجماع الأمة كلها عالمها وجاهلها (١) فما الذي جر الدكتور إلى هذه الزلة العظيمة والبدعة الشنيعة؟ ستعلم عن قريب أن الذي قاده إلى ذلك هو دعوته إلى الوطنية وإلى القومية، وهاتان الفكرتان اضطرتاه أن يقول بوحدة الأديان ليساوي بين أبناء وطنه أو قومه لا يفخر أحد على أحد! فإنما أكرمهم عند الله ليس أتقاهم بل أكثرهم وطنية وقومية! وهذه الدعوة إلى وحدة الأديان لم يبتدعها الدكتور عمارة من تلقاء نفسه بل هي دعوة قديمة شاذة استخدمها الدكتور لخدمة وطنيته وقوميته.
.* استدلالات الدكتور عمارة:
يستدل الدكتور بعدة أدلة:
١ - قوله: "دين الله واحد .. وهو الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ} لكن الإسلام الذي هو دين الله الواحد ليس هو فقط كما يظن البعض شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ليسوا فقط أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك أن فارقًا واضحًا وهامًا بين عقائد الدين وأصوله وهي واحدة -وبين شرائعه ومناهجه- وهي بتعدد الرسالات والمجتمعات التي بشر فيها الرسل عليهم السلام""الإسلام والوحدة" (ص ٦٠). ثم يستشهد بوصف الله تعالى للأنبياء إبراهيم وذريته بأنهم مسلمون .. وهم قبل الإسلام .. !.
٢ - قوله: "لم تكن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى دين جديد، بل كانت إلى ذات الدين الواحد، وإن كان قد جاء بشريعة جديدة، أي نهج جديد .. والقرآن الكريم يحدثنا عن ذلك عندما يعلمنا قول الله سبحانه: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: ١٣٦، ١٣٧] فمن يؤمن، كأتباع محمد، بكل ما نزل الله، قرآنًا فما سبقه، وبكل الرسل، منذ بدأت الرسالة وحتى ختامها بمحمد، عليه الصلاة والسلام، فهو "المهتدي"، ومن يترك الإيمان بشيء مما سوى "التوحيد"و"الطاعة". فهو في "شقاق"وهو "كافر"أي جاحد بهذا الذي لم يؤمن به. ولكنه غير مشرك؛ لأنه متدين. وموحد. بل ومسلم .. ولذلك طلب القرآن إلى الرسول أن يدع أمر هؤلاء إلى الله {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ} بينما طلب إليه قتال المشركين كافة كما .. قاتلوا المؤمنين. كافة! ""الإسلام والوحدة" (ص ٦٢٥).
٣ - قوله: "إن توهم إمكان توحد أهل الأديان السماوية أو بالأحرى أهل الشرائع السماوية على شريعة واحدة وملة واحدة وتحولهم من أمم مؤمنة ومتعددة إلى أمة مؤمنة واحدة إن توهم إمكانية ذلك ومن ثم السعي إلى تحقيقه خصوصًا إذا كان هذا السعي بغير المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة هو معاندة لإرادة الله سبحانه، وسعي ضد سنته التي لا سبيل إلى تبديلها أو تغييرها. إرادة الله وسننه مع تعدد الأمم والشرائع وما نسميه تجاوزًا الأديان وليس مع وحدتها وتوحيدها .. إنها مع التعدد والاختلاف لا مع الوحدة والاتحاد! ""الإسلام والوحدة" (ص ٧٠).
٤ - قوله: "لما تحاكم اليهود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - طلب الله منه أن يحكم بينهم بشريعتهم ويقضي فيهم بأحكام التوراة، وكذلك طلب أن يكون تحاكم النصارى إلى الإنجيل والحكم بينهم بما فيه تمامًا مثلما طلب أن يكون تحاكم المسلمين إلى القرآن والحكم بينهم وفق آياته .. ونبه في وضوح وحسم على أن لكل أمة وملة من هذه الملل شريعتها ومنهاجها فوحدة الدين حق ومن الحق أيضًا تعدد المناهج والشرائع بتعدد الأمم والرسالات""الإسلام والوحدة" (ص ٧١).
٥ - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
٦ - قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى .. } الآية.
٧ - قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ .. } الآيات. ثم قال عقبها: "ومن مفسرى القرآن الكريم من يقول إن المراد: ما أنزل إليهم من ربهم: كتب أنبيائهم وليس القرآن" (ص ١٤٤).
٨ - قوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قال بعدها: "والقرآن يستخدم هنا فعل المضارعة وهو المعبر عن الفعل الواقع في الحال والمستمر للمستقبل" (ص ١٤٤).
٩ - قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ .. }. قال: "فهم مؤمنون بكتابهم ولذلك ميزهم الله عن الجاحدين الكافرين" (ص ١٤٥).
١٠ - قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ .. } الآيات.
- هذه الأدلة السابقة هي في نظري كل ما عند الدكتور حول عدم تكفير اليهود والنصارى. أما أدلة أهل الإسلام على كفرهم فإنه عرض بعضًا منها وأعرض عن بعض! تدليسًا وتلبيسًا على القارئ. فأوهمنا بأن المكفِّرين لهم -وهم جميع الأمة- لا دليل عندهم إلا ما ذكره الدكتور مما يُمكن تأويله والإجابة عنه.
فذكر من حجج المكفرين لهم:
١ - الجزية.
٢ - الزي الخاص.
٣ - وقف بناء الكنائس.
٤ - قوله تعالى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}.
٥ - قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ}.
٦ - قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ}.
٧ - قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}.
٨ - قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}.
أما الأحاديث فلم يذكر شيئًا منها؛ لأنها لا حجة فيها عنده إلا كما يُحَجُّ البوذي بها! فلذلك اجتنبها.
- فهذا ما ذكره الدكتور من أدلتنا على كفر اليهود والنصارى؛ ولكنه ترك الآيات والأحاديث الصريحة في ذلك، واكتفى بهذه كما قلت؛ لأنه يمكن الإجابة عليها بسهولة، وأما تلك فيعجز عن دفعها، وهذا دليل على تلبيس الرجل لنصره بدعته ويعلم الله أني لم أتوقع أن يأتي اليوم الذى أرد فيه على من يزعم إيمان اليهود والنصارى؛ لأن هذه القضية قد حسمها القرآن عندنا نحن المسلمين واستقر ذلك في أعماق أمتنا لا يزيغ عنه إلا هالك! وكم تأسفت أن يأتي في هذا الزمان من اسمه (محمد) ليزكي أولئك الكفرة أعداء الإسلام ويعطيهم العهد بدخول الجنان، ولكن ما دام الدكتور قد أفصح عن بدعته وأرصد لها المقالات والكتب فلا بد من مناقشته فيها لعله يتعظ ويرجع عنها قبل فوات الأوان، ومناقشتي للدكتور ستكون على هيئة أوجه متتالية تسهيلاً لي وللقارئ وسأكتفي بالأدلة الصريحة التي لا تحتمل التأويل في عدم كفرهم؛ لأن الدكتور قناص ماهر لهذه الثغرات.
الوجه الأول: في الأدلة من القرآن على كفر النصارى وهي كثيرة جدًا وسأكتفي بأوضحها دلالة:
١ - قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: ١].
- قال ابن كثير: أما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى والمشركون عبدة الأوثان، والنيران من العرب (١).
ففي هذه السورة تكفير لهم لعدم إيمانهم بالقرآن وهو البينة وعدم إقامتهم الصلاة والزكاة، ثم أخبر أنهم ولو رغم أنف الدكتور في نار جهنم، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}.
- قلت: قد يوحي الشيطان إلى الدكتور أن هذه السورة في {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وهم - كما يزعم الذين خرجوا عن الأمة الواحدة، أو لم يقيموا دينهم مثلاً، لا أستبعد ذلك منه، فيقال: لو صح ما تقول -وهو خرافة إبليسية- لقيل لك إن الله تعالى كفّرهم لأجل عدم إيمانهم بالقرآن وإقامتهم الصلاة والزكاة وهم مشتركون في هذا طيبهم -عندك- وخبيثهم وهذا بين، ويقال ثانيًا: إن الله تعالى قال: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} فيلزم أن في المشركين من يمكن أن يكون مؤمنًا! وهذا ما لا تقول به باعترافك لأنه لم يقر بالتوحيد ولأنهم كلهم محاربون للدين الجديد.
٢ - قال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}.
٣ - قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ٦٤]، الخطاب لجميع أهل الكتاب أن يدعوا اعتقادهم الشركي في المسيح وعزير؛ فإن لم يفعلوا ذلك فهم ليسوا مسلمين. ٤ - قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}.
٥ - قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٥٠) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٥١) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: ١٥٠ - ١٥٢].
- قال ابن كثير: "يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى حيث فرّقوا بين الله ورسله في الإيمان فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم إلى ذلك فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية فاليهود عليهم لعائن الله آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد - صلى الله عليه وسلم - والسامرة لا يمؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران، والمجوس يقال إنهم كانوا يمؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت ثم كفروا بشرعه فرفع من بين أظهرهم والله أعلم. والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض فمن ردّ نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا شرعًا إنما هو عن غرض وهوى وعصبية ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ} فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله {يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ} أي في الإيمان {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} أي طريقًا ومسلكًا، ثم أخبر تعالى عنهم فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به؛ لأنه ليس شرعيًّا إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهانًا منه لو نظروا حق النظر في نبوته" (١). قلت: وهذه الآية أعتقد أنها قاصمة الظهر للدكتور .. فأين المفر؟.
٦ - قال تعالى عن محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا}.
٧ - قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}.
٨ - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا} [النساء: ٤٧].
- قال ابن كثير: "يقول تعالى آمرًا أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ومتهددًا لهم إن لم يفعلوا" (٢).
٩ - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}.
فمن كفر برسول واحد فقد ضل ضلالاً بعيدًا. ثم في هذه الآية أمر لنا بالإيمان بالكتب السابقة. أفلا يُستغرب أن نؤمر بالإيمان بكتبهم ولا يؤمرون كما يرى الدكتور بالإيمان بكتابنا والرب واحد؟
١٠ - قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ .. } الآية. وقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} قلت: فإذا كفتهم رسلهم فلماذا يرسل الله تعالى إليهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم -؟.
١١ - قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
١٢ - قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}.
١٣ - قال تعالي: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وتأمل قوله تعالى: {جَمِيعًا} فهو تأكيد لعموم الرسالة لكي لا يُسْتثنى أحد من يهود أو نصارى!
الوجه الثاني: مما يشهد على كفرهم من السنة: وسأكتفي منها بالأدلة الصريحة وأقلل منها اكتفاءً بما سبق من آيات القرآن؛ لأن الدكتور لا يؤمن إلا به!.
١ - قال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"قال النووي: "وقوله - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع بي أحد من هذه الأمة أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته، وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهًا على من سواهما وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابًا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى والله أعلم" (١).
٢ - قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو تابعني عشرة من اليهود لم يبق على ظهرها يهودي إلا أسلم" (٢).
.- قلت: أي أنهم غير مسلمين إذا لم يتابعوه - صلى الله عليه وسلم -.
٣ - عن أبي موسى "أن رجلاً أسلم ثم تهود. فأتاه معاذ بن جبل -وهو عند أبي موسى- فقال: ما لهذا؟ قال: أسلم ثم تهود. قال: لا أجلس حتى أقتله قضاء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -" (١).
- قلت: والشاهد: قول معاذ: "قضاء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -"؛ لأنه معلوم عندهم أن من أسلم من اليهود والنصارى، ثم رجع إلى دينه قتل؛ لأنه مرتد ولم يقل أحد كالدكتور أن الأديان كلها توصله إلى النجاة. وإلا لتركه الصحابة وشأنه واختياره. ثم لو تأملنا قول الدكتور لوجدناه يلغي كتبًا وأبوابًا في الفقه الإسلامي بعنوان "حكم المرتد"!.
الوجه الثالث: إن المسلمين قد أجمعوا على كفر اليهود والنصارى، ولم يشذ أحد منهم غير من ذكرناه من غلاة الصوفية وفرق الزندقة الذين لا يعدون من جملة المسلمين. قال ابن حزم في "مراتب الإجماع": "واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارًا" (٢).
- وقال ابن تيمية: "قد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع أن من بلغته رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤمن به فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة" (٣).
وقال: "نعلم أن خلقًا لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة مثل أهل الذمة والمقرين بالجزية على كفرهم" (٤).
.وقال: "إن اليهود والنصارى كفار كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام" (١)
الوجه الرابع: أن يقال هذا القول منك قد ناقضته كعادتك بنفسك! بل وفي كتابك هذا "الإسلام والوحدة القومية"! وهذا من أطرف ما عثرت عليه من تناقضاتك الكثيرة فقد قلت فيه: "إن الإسلام على الرغم من أنه دعوة للبشر أجمعين إلا أن سنن الله في الكون وقوانينه لن تتبدل أن يظل الخلاف والاختلاف والتمايز قائمًا بين البشر في الدين .. فلن يجتمع الناس على دين واحد .. ومن ثم فليس هناك ما يدعو إلى أن يكره الإنسان إنسانًا على الدخول في دينه .. ومن يحب النجاة لأخيه ويتمنى أن يقاسمه نعيم الجنة فأولى به أن يسلك لهدايته طريق الحكمة والموعظة الحسنة لا طريق الحرب والسيف والعنف والإكراه"فقد اعترفت بعدم دخولهم الجنة!!.
الوجه الخامس: يقول الشيخ عمر الأشقر -حفظه الله-: "قد ذم الله هذا الصنف من الناس الذين يريدون مزج الإسلام بغيره والالتقاء في طريق وسط بزعم التوفيق وأخبر أن هذا فعل المنافقين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (٦١) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (٢).
٢ - محمد عمارة والوطنية:
١ - مر معنا أن الدكتور عمارة يرى نجاة اليهود والنصارى يوم القيامة إذا تمسكوا بدينهم الآن ولو لم يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالإسلام وهذا تمهيد منه للوطنية وأن المسلم المصري لا يفرق بين المسيحي واليهودي المصري إلا .بالشريعة التي أراد الله بحكمته أن تتنوع بين البشر. فلا فرق بيننا إذن عند الله .. وبعد أن قرر الدكتور هذا سهل عليه أن يقول ما شاء في الوطنية.
٢ - يقول الدكتور: "عندما هاجم المستعمرون الإنجليز مصر سنة ١٨٠٧ بحملتهم التي قادها الجنرال فريزر لم يكونوا يعتمدون مثلاً على أقلية من الأقليات الدينية التي تعيش في مصر .. وإنما كان الذين تعاونوا مع الحملة الإنجليزية الفاشلة هم أمراء المماليك بقيادة الألفي بك .. وهم الأمراء الذين لم تكن تربطهم بأهل البلاد روابط حضارية ولا قومية ولا عرقية، ولم يكن بينهم وبين المصريين سوى رابطة الدين""نظرة جديدة" (٢٢٨) أي أن الدين في نظره أقل تأثيرًا من رابطة الوطنية.
٣ - يقول عن رفاعة الطهطاوي: "الناس عنده لا ينقسمون إلى مؤمنين وكافرين وإنما ينقسمون على أساس من التحضر والتمدن وليس على أساس من العقائد والأديان. فيحدثنا هذا الشيخ في كتابه "تخليص الإبريز"عن انقسام "سائر الخلق"إلى عدة مراتب:
"المرتبة الأولى: مرتبة الهمل المتوحشين .. المرتبة الثانية: مرتبة البرابرة الخشنين .. والمرتبة الثالثة: مرتبة أهل الأدب والظرافة والتحضر والتمدن والتمصر .. ".
وعندما يوزع الشعب على هذه المراتب الثلاثة، يضع بعض الشعوب المسلمة، الذين "يعرفون الحلال من الحرام .. وأمور الدين .. غير أنهم لم تكمل عندهم درجة الترقي في أمور المعاش والعمران والصنائع البشرية والعلوم العقلية والنقلية .. " -مثل عرب البادية- يضع هؤلاء المسلمين في مرتبة "البرابرة الخشنين" .. بينما يضع "بلاد مصر والشام واليمن والروم والعجم والإفرنج والمغرب وسنار وبلاد أمريكة، على أكثرها، ومحيط"يضعها في مرتبة "أهل الأدب والظرافة والتحضر والتمدن.