تأليف : محمد السويسي
خرجت طرابلس الفيحاء من جنة الإستعمار إلى جحيم الإستقلال ، حيث كانت تنعم تاريخياً بوفرة وبحبوحة مالية من بساتين وارفة بالحمضيات والفواكه والثمار والخضار كانت تصدرها الى الداخل اللبناني والخارج العربي ، إلى أن حل الإستعمار الفرنسي تحت عنوان الإنتداب فاستحسن موقعها لإنشاء مصفاة للنفط ، وجر الماء اليها بوفرة من خلال مصاف حديثة وإقامة محطة للكهرباء بطاقة تزيد عن استهلاكها ، كما أنشأمحطة للسكك الحديدية ربطتها بالداخل اللبناني ساحلاً وجبلاً حتى البقاع نحو دمشق ، وإلى أوروبا مروراً بحلب وتركيا ، ووسع المرفأ ليكون أهم مرفق بحري في لبنان نظراً لطبيعته البحريه وملائمته لاستقبال السفن الكبيرة ، إلى جانب تشجيعه المشاريع الصناعية الخاصة المتعددة بما يقضي على البطالة وينهض بلبنان ، بما توفره هذه المرافق من عائدات للخزينة .
إلا ان مأساة طرابلس الحقيقية بدأت مع ستينات القرن الماضي وبروز الإقطاع المالي السياسي الذي اعتمد الأحزاب من يمين ويسار لوضع يده على كل مقدرات البلاد من نفط وتجارة ووكالات ومرافىء وتصدير وإستيراد .
فكان أول مخطط له هو ضرب إمكانيات طرابلس الزراعية لإنشاء مزارع خاصة له بديلة، فأغروا فعاليات المدينة من خلال الحكومة بضرورة إقامة معرض دولي فيها ، كان من نتيجته إقتطاع مليون متر مربع تقريباً من بساتينها العامرة بثمن بخس ، دراهم معدودة لكل صاحب بستان ، لتختفي معظم بساتين طرابلس وليتصحر ما تبقى منها ؛ وبذلك فقدت العديد من عائلات المدينة أهم مواردها الإقتصادية التي كانت تعتمد عليها في حياتها المعيشية .
وانتهى العمل بالمعرض ليعلن عن نيّة الدولة إفتتاحه في منتصف العام 1975 ، إلا أن الإقطاع المالي هاله الأمر إذ أن افتتاح معرض دولي في طرابلس سيعيد للمدينة سابق عهدها ومجدها التجاري والإقتصادي التاريخي الذي قد يجذب كل أوروبا والعرب إليها ، خاصة وان لديها مطار بالقرب منها وسكة حديد داخلها مما قد يؤثر على مصالحهم في العاصمة بيروت ، لذا عمدوا إلى تفجير الحرب الأهلية بحجة الصراع مع الفلسطينين ضد إتفاقية القاهرة ، لتنشب حرب الأخوة في سائر أنحاء الوطن ، كان من نتيجتها تعطيل مرافق طرابلس على مدى عشر سنوات ليتم استهداف مصفاة النفط في طرابلس وخزاناتها بالقنابل والصواريخ بحجة الصراع مع الفلسطينيين مع أنه لم يكن فيها اي تواجد مسلح .
ولم يكتف الإقطاع المالي الحاكم بذلك ، بل أنه موّل حركات يسارية ودينية متطرفة عمدت جميعها بتخطيط منظم إلى نهب بيوت المسيحيين وحرق بعضها بحجة أن لهم إنتماءات حزبية يمينية . الى أن فلت الملّق لتنهب بيوت المسلمين المسافرين والمصطافين أيضاً باعتبار أنهم إقطاعيين ؟ بحيث لم يعد بالإمكان السيطرة على هذه العناصر الحزبية التي تحولت الى منظمات إرهابية تعمل قتلا ونهباً وتخريباً ، بعضها باسم الدين والآخر باسم اليسار وبعضها باسم الوطنية ، رغم وجود القوات السورية في المدينة تحت عنوان قوات الردع العربية التي لم تكن تلق بالاً إلى هذه الفوضى ، إلى أن أصبحت طرفاً فيها بمساعدة الأحزاب على مضايقة اصحاب المصانع الخاصة في منطقة البحصاص جنوبي مدينة طرابلس مما اضطرها إلى الإغلاق وفق ماخطط لها ليتشرد آلاف العمال ، إذ كانت نشاطها يقف عائقاً في وجه أطماع الإقطاع المالي الحاكم الذي يسعى الى المزيد من الأرباح على حساب موارد مدينة طرابلس .
وانتهت حرب السنتين التي كانت أهم أهدافها إغلاق جميع مرافق طرابلس الحيوية ، من عامة وخاصة ، من مصفاة نفط ومرفأ ومنطقة حرة إقتصادية وسكة حديد ، ورفض افتتاح معرض طرابلس الدولي رغم مرور أربعون عاماً على إنتهاء تشييده مع رفض إعادة فتح مطارالقليعات المجاور للمدينة .. لتحصر كل هذه المرافق في العاصمة بيروت وجوارها من قبل الإقطاع المالي الحاكم بما يؤمن لهم أرباحاً خيالية بعدة مليارات من الدولارات سنوياً ، منها أربعة مليارات دولار فقط من قطاعي النفط و الكهرباء لتعاني الخزينة من عجز ومديوينة وصلت حتى الآن إلى 65 مليار دولار .
ولو أنه لم تغلق مرافق مدينة طرابلس لما وقعت الخزينة بأي عجز نظراً لمردودها العالي سنوياً ، كما ولايمكن الخروج من الدين المتنامي وتحقيق فائض في الخزينة العامة إلا بإعادة تشغيل مرافق طرابلس ، وهذا مستحيل ، لأن هذا يعني تخلي الإقطاع المالي عن جزء من أرباحه اللامشروعة في النهب المتواصل ، خاصة وأنه قد تعقدت أمور الشراكة في النهب العام بين أحزاب ومليشيات وتجار ومستوردين وحكام .
كانت تلك لمحة سريعة للوضع الذي أفرز المليشات والعصابات المسلحة في طرابلس في وقت ما ، التي سآتي على سرد بعض تصرفاتها اللامسؤولة ، إلا أنه لابد من التمهيد بالتحدث عن دولة المطلوبين التي سبقت الحرب اللبنانية مباشرة من العام 1974 من مجموعة من الخارجين عن القانون التي احتلت طرابلس القديمة بقوة السلاح وفرضت الخوات بتدبير من الإقطاع المالي الحاكم ولم يتم وضع حد لها من قبل الدولة إلا في كانون الثاني / يناير ، قبل ثلاثة أشهر من إنفجارالحرب اللبنانية في 13 نيسان من العام 1975 .
لم تكن دولة المطلوبين إلا تمهيداً لحرب السنتين الطائفية الفوضوية واختبار مسبق لها ، القصد الأساسي منها الإساءة لسمعة مدينة طرابلس وتعطيل مرافقها ومنع الإستثمار العربي والمحلي ، بإخافة اصحاب الرساميل من المجىء اليها مع تزايد الإرهاب المحلي المنظم فيها والتهيئة لتشكيل تنظيمات حزبية أخرى مشابهة لدولة المطلوبين الخارجة عن القانون .
نشبت حرب السنتين بعنوان طائفي وعنصري حاد إذ استهدفت قتل الفلسطينيين والمسلمين أينما وجدوا في مناطق الأحزاب المسيحية اليمينية وعلى الطريق الساحلي بين بيروت وطرابلس الذي يخضع لنفوذهم بهدف إثارة النعرات الطائفية من أجل دفع طرابلس لتهجير المسيحيين لإعطاء الحرب طابعاً طائفياً بحتاً للعمل على أخذ موافقة الدول الغربية على تقسيم لبنان بين المسيحيين والمسلمين على اسس طائفية بما يتضمن ذلك من تهجير متبادل بين الفريقين .
لم تعرف مدينة طرابلس او لبنان تنظيمات إسلامية مسلحة قبل حرب السنتين ، إذ عمدت الأجهزة اللبنانية التي تبقت من إنفراط عقد الدولة اللبنانية في منتصف سبعينات القرن الماضي الى إنشاء مليشيات إسلامية تعاونت معها بعض التنظيمات الفلسطينية في أعمال الفوضى كغطاء لبناني لمناوئة السوريين واغتيال المعارضين .
ولكن مع بداية الثمانينات شكل الفلسطينيون ميليشيا لبنانية موالية لهم في مدينة طرابلس بتمويل منهم ، عرفت بحركة "التوحيد الإسلامي "التي بدأت نشاطها بمجزرة رهيبة في الميناء بتجميع بضع عشرات من الشباب بحجة أنه يساريون لتعدمهم دفعة واحدة دون أي مسائلة بحجة أنهم كفرة ، كما عادة المليشيات التكفيرية ، مما ألقى الذعر في المدينة من هذه التنظيم الدموي الذي تابع ممارساته الخاطئة بإصدار مناشير تهاجم المسيحيين والإتصال بالإرساليات ودعوتها إلى الإسلام مما دفعها الى المغادرة مع معظم السكان المسيحيين خوفاً ورعباً ، ومن ثم مهاجمة مقرات الأحزاب الموالية لسوريا بأكملها وتهجيرها من المدينة بحيث لم يبق من احد سواهم على الساحة ، مما أوجد صداماً مع السوريين لم يلبث أن تحول الى صراع معهم على مدى سنوات لتنشب المعركة الفاصلة بينهما في العام 1985 ادت الى محاصرة المدينة وقصفها من قبل القوات السورية بشكل عشوائي شديد خلّف العشرات من القتلى والجرحى في معركة غيرمتكافئة بعد قطع المياه والكهرباء عنها والهاتف ، لتستلم حركة التوحيد بعد أيام للسوريين وتصبح موالية لهم ، على ان تفك تحالفها مع الفلسطينين ؛ ليتنفس أهل المدينة الصعداء من ممارسات أمراء التوحيد الذين جاء بعض من بيئة جاهلة بالدين إذ كان معظمهم من العمال والحرفيين والبقالين ، إلا أنهم وجدوا في حركة التوحيد السلطة والمال فانتسبوا اليها إلى حين، ليعود كل إلى موقعه مع تحجيم السوريين لها والقضاء عليها .