سأحكى لكم:
وقائع مشاركتى فى احتفالات استقلال تنجانيقا 1961 : طرائف ودلالات
قال المسئولون الانجليز ، موجهو الدعوة – كمستعمرين للاقليم – يجب أن يلبس كل وفد مشارك "الفراك" Frac"" ....! لأن ممثل الملكة هو نجم احتفال تسليم علم الاستقلال فى Uhuru Celebration للمستعمرة فى 9ديسمبر 1961. ولم يعرف السيد محمد فائق عضو الوفد ولم أعرف بدوري مدى معرفة د. عبد العزيز السيد وزير التعليم العالى ورئيس الوفد عندئذ- ما هو شكل "الفراك "هذا ! وإذ به ذاك "البالطو أبو ديل"الذى يلبسه عظماء المناسبات ...! وعلمت بعد ساعات أن "الرئاسة "قالت أننا فى ثورة يوليو لا نلبس إلا البدل التقليدية ، وسيبكم من أوهام الانجليز هذه.. فتجاهلنا الأمر .
كنت طازج التعيين فى الشئون الأفريقية منذ ديسمبر 1960 ، وأبدو من الشطار ، مما رشحنى ان اشارك في هذا التمثيل عالى المستوى ولم أتجاوز الخامسة والعشرين ، ولم يكن عبد العزيز السيد ينادينى إلا ب"واد يا حلمى"بينما يحتاج لأدق الاجابات عن تلك المستعمرة والانجليز الأوغاد! وكان كبرياؤه من علاقته الخاصة أيضا بعبد الناصر، والتى يعرفها الكثيرون خلال الإعداد ليوليو 1952 . كنت أشعر بذلك من تعامل محمد فائق معه ، وعندما نزلنا من الطائرة ، اكتشفنا أن فيها "محمد يسين"وكيل الخارجية السودانية ، وإذ بوزيرنا – بخبرته فى الخرطوم قبلا – يقول له "يا واد يا محمد ، انت بترتب تدخَل السودان فى الكومنولث ؟ فبهت الذى خدم تلك الفكرة الخبيثة لفترة ليقول : معاليك..لاتفهمها هكذا ..."وكانت الإشارات داخل الكلام عن حزب الأمة الذى ينتمى إليه "يسين" !لكنى وجدت عبد العزيز السيد ، ينتقل معه بسرعة ..."إزاى ولادك يا محمد ..إبعتهم لى يابنى ندخلهم الجامعة عندنا..."!
مع نزولنا من الطائرة فى دار السلام ..وجدنا خواجة إنجليزى ، مفتول العضلات ، عريض المنكبين يقترب ، بما فهمنا أنه مدير البروتوكول المستقبِل لنا يلبس الشورت فى حر ديسمبر بدار السلام , مع ما يشبه "الشبشب" . وإذ بعبد العزيز السيد ينتفض محتجا مقسما- ونحن على سلم الطائرة أنه لن يسلم على ابن...ده الذى أرسلوه بالشورت لمقابلة ممثل جمال عبد الناصر ! لكن محمد فائق بلباقته أدرك ضرورة تدارك الموقف ...فذاك يوم "أوهورو" uhuru day أو يوم الحرية ، ولندعه يمر ...واستقرينا فى فندق "بالم بيتش"المعروف سياحيا ولكن ليس دبلوماسيا ..أدرك عبد العزيز السيد أن "هؤلاء الانجليز "يعبرون عن مخاوفهم وأحقادهم من عبد الناصر فى أصغر المظاهر لأكبرها ..وجدته ينبه محمد فائق أن يدرس شكل حضورنا فى مقر الاحتفالات بالاستاد ، وسياراتنا وفى حفل الاستقبال,وموقعنا على المنصات ..الخ منتبها للمعنى السابق تجاه الانجليز ..واقترب "فايق"بمهارة من "التنجانيقيين"ليرتب الأمر بالشكل المعقول .
كانت سياسة بريطانيا فى التوافق مع "نيريرى "ضد هوجة "التحرير"والتقدميين – حسب تعبيرهم - فى الجنوب الأفريقى ، أو وسط افريقيا والبحيرات ، مما لم يجعل "التنجا نيقيين"ضمن "مجموعة حركات التحرير"فى القاهرة قبل الاستقلال ، فكانت معارفنا قليلة بين كوادرهم ( إلا شخصية أو اثنين من المعارضين لا أذكرهم الآن . لكن سرعان ما قام زعماء من أوغندا وكينيا وروديسيا وجنوب أفريقيا – ممن نعرف منهم : جون كالى ، وجوشوا نكومو ، وتامبو ، وموخيخلى..الخ بالالتفاف حولنا ، جامعين آخرين فى ألفة كبيرة ، اندهشت لها قيادات "حزب تانو"(الحاكم في تنجانيقا ثم تنزانيا ) . ولم يكن "نيريرى "سعيدا بعمق علاقات مصر الأفريقية هذه، خاصة وقد تطلع إلى مثلها عنده كثيرون على رأسهم شخصية مثل "أوسكار كمبونا" . وأظن أن ذلك جعل "التنزانيين"ينشطون عند قيام "منظمة الوحدة الأفريقية "واتحادهم مع زنجبار ليجعلوا من دار السلام مقرا لحركات التحرير فى الجنوب ، لمنافسة "أكرا والقاهرة..والجزائر ...لكن ذلك فى النهاية جعل النيل محور التحرير من رأسه إلى قاعدته...
بعد يومين أو ثلاثة من الاحتفالات جاء موعد رحيل الوفد ، وإذ بى أتجرأ مع السيد الوزير ومحمد فائق لأقترح استمرارى وحدى بضعة أيام ، أضيف فيها بعض المعارف لحصيلتى ، وقد بدت شطارتى أمامهما طوال الاقامة ! وفوجئت بسؤال محمد فائق ، معك استرلينى ؟ كان البدل 6 إسترلينىلليوم، وجمعت وطرحت حتى أجبت بإمكان تدبيرها !. وستمريت حوالى أسبوع آخر . كانت المشكلة أنى أحمل جواز سفر "مهمة"ولاتبدو فيه أيام الاقامة ..لم أشعر بذلك إلا وأنا فى المطار للخروج ..وبدا "الانجليزى "الذى ينقل الادارة للتنجانيقى "راغبا فى الرزالة ، لوجودى بدون إقامة ..وحل المواطن المسئول المشكلة بمودة واضحة .
أتذكر أنى رصدت حوالى أربعين مقابلة فى دار السلام ومحيطها خلال الأسبوع ، مع نقابيين ، وأسيويين وعرب واسماعيليين "ممن يؤيدون المحتمع متعدد الجنسيات "التى يبشر بها نيريرى لضمان السلم الاجتماعى ، ومن يحللون طموح "أوسكار كمبونا"قيادى الحزب الذى أطيح به لاحقا !، ومن يريد جذب "زنجباريين"، ومن يكرههم ، ومن يقبل بدور لتنجانيقا فى تحرير الجنوب مثل دور جمال عبد الناصر بين العرب والقارة ، ومن يكتفى باقامة اتحاد شرق أفريقيا بعيدا عن مشاكل "الوحدة"النكرومية أو نضالية لومومبا التى أودت بحياته..وكان أول تقرير ميدانى لى ما زلت أعتز بكتابته ..آه لو يعثر عليه أحد ...!!!
ما زلت أتذكر شارع الاستقلال ، وميدان "أسكرى سكوير"وفى وسطه ذاك العسكرى بطربوشه التركى المنتشر فى أنحاء أفريقيا للشرطة والعسكر والشو رت الانجليزى !
سألت يوما بعد أن حكيت بعض وقائع يوم الاستقلال هذا – البروفيسور "عيسى شيفجى"أحد شخصيات جامعة دار السلام ,و مجلس "كوديسريا" , وزميلى من قبل فى العلوم السياسية الأفريقية "أين كنت يوم عيد أوهورو هذا ؟... فضحك وقال : كنت فى المرحلة الابتدائية ! ..فكدت استبعده من الجلسة !
--------------------------------------------------حلمي شعراوي