تأليف : محمد السويسي
لم تكن طرابلس لبنان نهاية الأربعينات ومطلع الخمسينات تعرف محلات الفلافل قبل أن يقدم أحد الوافدين العرب على إستثمار محل لبيع الفلافل وسط سوق الخضار المتفرع من شارع الحتة على بعد أمتار من طلعة الرفاعية .
وما إن مرّ أسبوع على إفتتاحه حتى بدأ يشهد إقبالاً غير مسبوق كل يوم مع حلول المغرب حتى وقت متأخر من الليل حيث كانت الزبائن تتزاحم لديه من أجل الحصول على سندويش فلافل ، التي كانت عبارة عن رغيف من الخبز يضع فيها البائع ثلاثة أقراص من الفلافل الساخنة المصنوعة من الحمص المطحون والمقلية بالزيت بعد أن يفرمها بيده ويسبغ فوقها ملعقتين من الطحينة السائلة الممزوجة بالماء والحامض وملعقة من الحر السائل الأحمر لمن يرغب ، مع رشة من الكمون والملح يضيف فوقها بعضاً من قطع البندورة والبقدونس والكبيس المخلل من خيار ولفت .
وكان ثمن سندويش الفلافل خمسة عشر قرشاً لبنانياً ، وعشرة قروش إن أحضر الزبون معه رغيف خبز من بيته حيث كان معظم الناس تعجن في بيوتها وقتذاك ، لذا كان بعضهم يأتي برغيف من الخبز معه أو أكثر وفق حاجته . إلا إنني كنت أفضل أن أشتري سندويش الفلافل من عنده دون أن أحضر رغيفاً للخبز معي نظراً لأن خبزه كان مصنوعاً من الدقيق الأبيض الذي كنت أفضله على الرغيف الأسمر إلذي كنا نعجن دقيقه و نصنعه في البيت لمرتين أسبوعياً ونرسله للخبز في الفرن القريب من بيتنا .
إلا أن أكثر مالفت نظري واستغرابي ، وأنا أنتظر مجىء دوري لأول يوم لي لشراء الفلافل ، هو تراكم عشرات تنك الزيت داخل المحل التي كان صاحب الفلافل يصب من إحداها كمية من زيت القطن ، في صاج للقلي فوق بابور من الكاز ، بما تدل عليه صورة نبتة القطن على التنكة ونوع الزيت وماركته التي تدل على أنه مصري الصنع .
وسبب الإستغراب هو أننا في ذلك الزمان لم نكن لنعرف سوى زيت الزيتون للقلي والطبخ والسلطة واللبنة . ولكن مع نهاية الستينات وبداية السبعينات بدأت الدعايات الغربية تحذر من أخطار زيت الزيتون بما يشكل من مخاطر على القلب ويزيد من نسبة الكوليسترول والدهون في الدم ، خاصة عند الطهي أي عند تعرضه للحرارة ؟! وقد بالغوا في التحذير منه وكأنه مادة سامة قاتلة مما أخاف الناس من إستعماله في الطبخ ، ليتبين فيما بعد أن هذه الدعايات المضللة إنما كانت من شركات زيوت تجارية لحض الناس بالإقبال على الزيوت النباتية المصنعة من الذرة والقطن والصويا لما لهم من مصلحة مادية في ذلك .
وقد اعتاد الناس على هذه الأنواع على هذه الزيوت ، خاصة زيت الذرة ، واقتنعوا بها وتقبلوا طعمها فيما بعد واستحسنوها لما فيها من توفير مادي بالنسبة لأسعار زيت الزيتون المرتفعة الذي اقتصر إستعماله على السلطة والتبولة واللبنة والكبة النية وبعض أنواع الطعام المطبوخ كاللوبياء والكبة المقلية وأصناف أخرى.
ولكن ماإن مرت عدة أشهر على إفتتاح محل الفلافل حتى بدأ هندام صاحبه يتحسن ويرقى بالأناقة في اللباس والقمصان الحريرية ، مع علبة سجائر "لوكي ستريك"الأمريكية دائمة في جيبه ، كما وأربعة خواتم ذهبية تزين أصابعه مع فصوص من الألماس والزمرد والياقوت وساعة ذهبية ، بالإضافة لسلسلة رفيعة من الذهب حول رقبته التي مالبثت أن تحولت بعد عام إلى جنزير غليظ . وقد أنزل ابنه معه لمساعدته بعد أن أخرجه من المدرسة ولم يتعد السادسة عشر من العمر مع مساعد له شاب .
ما إن حل إبن صاحب الفلافل بصورة دائمة ومتواصلة في المحل ، حتى بدأ والده بالتغيب والإنقطاع عن عمله معتمداً عليه في إدارته . إلا أن ازدهار محله بدءاً ، دفع أحد أبناء وطنه إلى إفتتاح محل آخر منافس لبيع الفلافل قريب منه على بعد خمسون متراً عند أول طلعة الرفاعية ، حيث بدأت الناس تتوافد إليه تجنباً من إزدحام المحل الأول .
بعد عامين بدأ محل الحتة للفلافل بتراجع اعماله لصالح محل الرفاعية ، وقد أضحى الولد وحيداً في المحل بعد أن صرف والده الشاب المساعد لقلة الزبائن وانحسارهم الذي كان يؤكده قلة أعداد تنكات زيت القطن التي بدأت بالإنخفاض تدريجاً إلى أن أضحت تنكة واحدة ومن ثم ليغلق المحل نهائياً قبل أن يتم سنواته الثلاث . ولم ينفع عودة صاحبه للعمل مجدداً فيه بجانب إبنه ، في محاولة منه لإعادة تنشيطه قبل أسابيع من مواته وإغلاقه نهائياً ، وقد أضحى الرجل رث الثياب بأسوأ مما كان عليه الحال عند إفتتاحه المحل للمرة الأولى ، إذ تعرى من كل الذهب الذي كان يتباهى به ، واسُتبدلت علبة السجائر الأمريكية المرتفعة الثمن بعلبة دخان "تطلي سرت"الوطنية الرخيصة الثمن .
والسبب في تراجع أعمال المحل وفق ماقاله ابنه لصبية الحارة هو أن أبوه قد بدأ بالتغيب عن المحل والبيت ، ليمارس أعمال السكر والعربدة والقمار ، حيث ينام النهار ويغزو في الليل بين الحانات والكباريهات خارج طرابلس ، ولايمر على المحل إلا لأخذ الغلة اليومية ، إلى ان توقف البيع في المحل نهائياً وعاد إلى فقره المدقع .
وقد كنت ماراً في ساحة الدفتار صدفة ، بعد أشهر من إفلاسه ، لأجده ينقل بعض أحجار الخفان ويحملها على ظهره صعوداً على الدرج حيث كان أحدهم يبنى منزلاً من طوابق عدة ، بأجر عامل يومي وهو ثلاث ليرات يومياً فقط ، أي مايعادل دولار ونصف وفق أسعار صرف العملة وقتذاك.