مصالحة وطنية فلسطينية بين فتح وحماس. لنترك جانباً معنى أن يكون وطن (وشعب) مختزلاً في تنظيمين، وتكون الوحدة الوطنية جلوس ممثلي طرفين سياسيين كلاهما في السلطة المتوزّعة بين رام الله وغزة.
نُصِبَت طاولة المصالحة في غزة، على مسافة قليلة من معبر رفح المغلق. هل كانت المصالحة لتجري لو أن المعبر مفتوح، وعلى طرفه الآخر سلطة مصرية متبنيّة لمشروع متناغم مع "حماس"، على غرار ما كانه الحال أيام الرئيس محمد مرسي؟ تنهمر سيول الصور. هناك ذكريات مريرة عن مسلسل طويل من فشل المصالحة بين الطرفين. هناك انهيار التجربة السياسية المشتركة بينهما، عقب التجربة القصيرة للـ"مساكنة"السياسيّة بين الطرفين، بعد انتخابات نيابية فازت "حماس"فيها بأغلبية واضحة، في الضفة وغزة. لماذا لم تدم تجربة الوحدة الوطنية، على رغم بقاء احتلال الأرض وتشتت الشعب؟
في المقابل، ثمة من يهمس بأن السلطة في رام الله لتنجز المصالحة، لولا المأزق الهائل، بل المتاهة الأسطورية، لمسار ما يُسمّى بـ"عملية السلام في الشرق الأوسط".
بلغ من الاختلال في موازين القوى في تلك العملية أن جولاته الأخيرة كانت أقرب إلى لوحات سوريالية هذيانية الطابع! رعت أميركا تلك الجولات عبر وزير خارجيتها جون كيري. ارتسم مشهد يربط اطلاق الأسرى، وهي عملية إنسانيّة تكون نتيجة في التفاوض، وبين هوية الدولة في إسرائيل. نسيت إسرائيل أنها لم توقف الاستيطان، بل ابتدعت صيغ تفاوضية لاستمراره من نوع التمييز بين البناء الأفقي والعامودي واستثناء الطرق واخراج ممر "جدار الفصل" (يلتهم مساحة كبرى من مناطق حدودية في الضفة) وغيرها. وفجأة، دخل على المشهد الجاسوس الإسرائيلي جوناثان بولارد، المسجون في أميركا بتهمة الجاسوسية. صار إطلاق المواطن الأميركي بولارد من سجون أميركية، شرطاً لاستمرار عملية السلام! واختلطت الخطوط والألوان، فصار سؤال "مَن يتفاوض مع مَن"، أقرب إلى أحجية مستحيلة.
إلى أي مدى لعب المشهد السوريالي في التفاوض المُدار من قبل كيري، دوراً في تعميق مأزق السلطة الفلسطينية، وزيادة حرجها أمام شعبها وهو ما يعبر عنه شيء لا يقل سوريالية من نوع "تهديد"القيادة الفلسطينية بإنهاء نفسها وإعادة الأرض إلى الاحتلال الإسرائيلي؟ من دون هذه السوريالية، هل كانت المصالحة لتنجز فعليّاً؟
في هذا المعنى، تبدو المصالحة أقرب إلى لقاء الخاسرين. لكن، هناك استدراك ضروري. إذ حرصت السلطة الفلسطينية، على لسان المفاوض الدائم لـ"حماس"عزّام الأحمد، على القول بأن المصالحة هي سياسة ثابتة وملزمة للسلطة، وأن الطرف الحمساوي هو المتخلي دوماً عن الاتفاقيات المتوالية للمصالحة الوطنية.
مشهدية "صيد الساحرات"
من المعبر المغلق في رفح، يمكن العبور إلى البعد المصري في مشهد المصالحة. بعد الإطاحة بمرسي، بدت السلطة المصرية كأنها بصدد "حملة صيد ساحرات"ضد "حماس"، بل طاولت أحياناً كل ما هو فلسطيني.
في حماوة المشهد المتغيّر، برزت شخصية ليست غريبة عن طرفي المصالحة. برز السياسي المحنّك محمود دحلان، كأنه أحد الأشباح التي تصنع الحدث في مسرحيات شكسبير. صعدت صورة دحلان سريعاً في الاعلام المصري، مترافقة مع انحسار النقمة على "الفلسطيني"لتتركّز على إدانة تشبه الشيطنة، لـ"حماس"على غرار كل ما يمت إلى تنظيم "الأخوان"بصلة.
ليس دحلان غريباً عن "حماس". في التقاطع بينهما هناك غزة، التي يأتي منها دحلان، ويتمتع بنفوذ ليس بضئيل فيها. ولأنه ينتمي تاريخياً إلى "فتح"، تضرّر جزء من نفوذه في غزة بالصدام القاسي بين "فتح"و"حماس". هناك ثنية اخرى. يشتهر دحلان بتطلعه إلى الموقع الأول في السلطة الفلسطينية، حتى أيام عرفات. ويعرف عنه أيضاً، علاقاته القوية مع الولايات المتحدة وأوروبا. ربما ليس مستهجناً السعي الى الرئاسة ولا العلاقة مع جهات وطيدة الصلة بالسلطة الفلسطينية. وليست مجازفة كبرى الإشارة الى علاقة دحلان مع السلطة المصرية بتلاوينها كافة، لأن تنظيم "فتح"نفسه كان في هذه المساحة دوماً (حتى أيام السادات)، بل ما زال. وأدى سقوط مرسي إلى ضخ حيوية في العلاقة بين القاهرة ورام الله. وفي لحظة ما، بدت "حماس"ميّالة لبث الدفء في علاقاتها مع دحلان، كي يساهم في حل مشكلتها مع مصر ما بعد مرسي.
هل تفتح المصالحة باباً لعودة أقوى لدحلان إلى رام الله، التي لا يعدم فيها متعاطفين معه، خصوصاً أنه كان منخرطاً في بناء السلطة الوطنية في مرحلة ما بعد "أوسلو"، إضافة الى تاريخه المديد في "فتح"؟
في أكثر من مناسبة تحدث الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بطريقة سلبيّة عن دحلان. هل تؤدي المصالحة إلى تهدئة بين عباس ودحلان، أم أنها تفتح الباب واسعاً أمام صراع، ربما تصبح الانتخابات الرئاسية الفلسطينية جزءاً منه، أو لنقل محوره؟
رفح: عبور بالاتجاهين؟
في تصريحات قادتها، حاولت "حماس"التشديد على اتفاقيات القاهرة والدوحة المبرمة مع "فتح"، مع صمتها تماماً عن اتفاقية مكّة. ويعني ذلك أن أمورها ما زالت متوترة مع السعودية. هل تحاول القاهرة الدخول على الخط، ليس لانقاذ "حماس"بل لتوسيع رقعة تحركها الاستراتيجي في الدائرة العربية لمصر؟
بالعودة الى المعبر رفح المغلق، يبدو السؤال عن إمكان أن تعبره المصالحة الوطنية الفلسطينية هو السؤال الأكثر مباشرة وإلحاحاً. لا يصعب تخيّل مدى توق أهالي القطاع لعودة هذا الممر الذي يمثّل شرياناً ورئة، بل ممراً للحياة بمناحيها كافة.
هناك شيء لم يقل علناً، لكنه ربما يشبه سراً معلناً: عودة السلطة الفلسطينية إلى معبر رفح. إذا لم تسع الأطراف العربية والفلسطينية إلى دفع الأمور إلى "حافة الهاوية"مع إسرائيل، يتوجب عليها الالتزام بالاتفاقيات المتعلقة بالمعبر مع الأطراف الدولية. وبقول آخر، يفترض عودة قوات السلطة الفلسطينية إلى المعبر، مع رضى دولي، أقلّه من "الاتحاد الأوروبي". الأقرب ربما هو حرص أوروبا على التناغم الكلي مع أميركا في هذا الموضوع، لكن الأوروبيون امتلكوا دوماً هامشهم الخاص في مسألة الصراع العربي- الإسرائيلي. هل يرعى الأوروبيون عودة معبر رفح إلى العمل، وهو أمر يعفي أميركا من احراجات شتى مع الأطراف المتشابكة عند المعبر، خصوصاً إسرائيل؟ في هذه الحال، يتحوّل المعبر إلى ورقة دولية قاسية في المعادلة السياسية الحاليّة. لننتظر. ولنر.