"since the Shariah as a system of law had attained formal perfection centuries before modern technology, finance and marketing were dreamed of, it is incapable of recognizing or dealing with modern economic development or complex agreements".
Lord Asquith
أحكام مسبقة من زمن ما قبل هانتينجتون
"بما أن الشريعة الإسلامية كنظام قانونى قد إكتملت منذ قرون عديدة وقبل حتى أن يحلم أحد بالعلوم الحديثة من تكنولوجيا وتمويل وتسويق فهى تعد غير صالحة لمعرفة التطور الإقتصادى والإتفاقيات المعقدة أو التعامل مع هذه الأشياء".. اللورد أسكويث
واللورد أسكويث هو المحكم الإنجليزى الذى إرتضاه كل من المرحوم الشيخ شخبوط بن سلطان بن زايد بصفته حاكم أبو ظبى من جهة وشركة تنمية البترول المحدودة ( بالسواحل المتهادنة) من جهة ثانية للقيام عام 1951 بمهمة التحكيم وتفسير العقد المبرم بينهما فى يناير من عام 1939 للتنقيب عن البترول من قبل الشركة المذكورة وهى أحد فروع مجموعة شركات بترول العراق.. وقد كتبت وثيقة العقد الأصلية باللغة العربية وتنص على نقل حقوق التنقيب فى منطقة محددة من المشيخة بصفة حصرية للشركة المذكورة. إلا أن أعمال التنقيب قد توقفت بسب إندلاع الحرب العالمية الثانية. وكان العقد ينص على شرط اللجوء للتحكيم فى حالة نشوء خلاف على تفسيره دون أن يحدد القانون الذى تم الإتفاق على إعماله فى شأن هذا التحكيم.
وفى أعقاب الحرب أدى إعلان الرئيس هارى ترومان فى 28 سبتمبر 1945 بشأن الثروات الطبيعية لقاع البحر وما أسفل قاع البحر فى المنطقة التى وردت فى الإعلان بإسم الرصيف القارى الممتد خارج الشواطىء الأمريكية واعتباره خاضعا لسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية ولسلطانها القانونى – أدى هذا الإعلان إلى تشجيع العديد من الدول إلى أن تحذو حذوه وتطبق المبدأ ذاته خارج شواطئها.
ويبدو أن مديرى الشركة صاحبة الإمتياز شعروا مبكرا بما يمكن أن يكون من أثر لهذا الإعلان فكتب أحدهم فى 25 مارس 1949 إلى إدارة الشركة فى لندن يعرض وجهة نظره القائلة بأن حقوق الإمتياز الممنوحة للشركة تشمل كل الدولة بما فيها البحر الإقليمي وبذلك يكون من حق الشركة – بمقتضى العقد القائم – أن تمارس نفس الحقوق على قاع وأسفل قاع الرصيف القارى الذى يعتبر جزءا من مشيخة أبوظبى.. إلا أن الشيخ شخبوط دفع بأن الإتفاق بينه وبين الشركة البريطانية كان يتعلق بحقوق التنقيب فقط فى الإقليم الأرضى للدولة ولم يشمل الرصيف القارى وعلى ذلك يحق له أن يمنح حقوق التنقيب فى الرصيف القارى لشركات أخرى..
ثم أصدرت مشيخة أبو ظبى فى 10 يونيو 1949 إعلانا مماثلا لإعلان ترومان يتعلق بالثروات الطبيعية على قاع البحر وأسفل القاع فى منطقة الرصيف القارى الممتدة داخل الخليج الفارسى وخضوعها للمشيخة على أن يتم تعيين حدودها بدقة فيما بعد وبالتشاور مع الدول المجاورة.
ولما تصاعد الخلاف بين الطرفين وكان لابد من إعمال شرط التحكيم بينهما وقع الإختيار على اللورد أسكويث كحكم يرضاه الطرفان.
كان أول ماواجه اللورد هو تكييف طبيعة العقد الماثل حيث أنه عقد تجارى بين شركة تجارية تسعى للربح ومشيخة تقع تحت الحماية البريطانية وبالتالى لم يكن من الممكن إعتباره عقدا دوليا فى مفهوم القانون الدولى العام – الذى يدرس المعاهدات والمواثيق بين الدول. فالطرف الثانى فى ذلك العقد هو شركة تجارية تسعى للربح وبذلك لا تسرى أحكام القانون الدولى العام المطبق على تعاملات الدول ذات السيادة.. والطرف الأول فى العقد هو كيان قانونى لدولة تقع تحت الحماية البريطانية وبالتالى ينعقد الإختصاص الدولى للدولة مانحة الحماية وهى إنجلترا. ولكن الشركة هى من جهة أخرى شخصية إعتبارية موطنها الرئيسى إنجلترا أى أن الطرفين قد يخضعان للقانون الإنجليزى. ولكن بما أن العقد قد إنعقد فى أبوظبى وتم تنفيذه بالكامل على أرض أبوظبى فالقانون الإنجليزى الداخلى لا يمكن تطبيقه على هذا النزاع بتلك الصفة.
والقانون الذى كان مطبقا فى أبوظبى فى ذلك الوقت هو قانون الشريعة الإسلامية التى يشكل كل من القرآن والسنة والإجماع والإجتهاد مبناها وأساسها.
وبما أن الطرفين لم يحددا مقدما فى الإتفاق القانون الواجب تطبيقه لحل النزاعات التى قد تنشأ عن هذا الإتفاق فقد لجأ اللورد آسكويث فى بحثه عن القانون الصالح لتلك المهمة إلى هذه التخريجة التى بدأت بها هذا المقال..
ولابد أن نعود للتحكيم نفسه لنفحص إن كانت الشريعة تصلح للفصل فيه أم لا تصلح.
تركز الخلاف حول النص الأصلى للإتفاق – وكان باللغة العربية ثم قام الشيخ شخبوط بمعرفته بترجمته إلى الإنجليزية ترجمة قبل بها الطرفان. وكانت المادتان 2 و3 هما محل الخلاف حيث جاء النص فى المادة 2 بتعريف المنطقة التى ينصب عليها الإمتياز بأنها
"كل الأراضى الخاضعة لحكم حاكم أبو ظبى وما يلحق بها". ثم تكمل المادة "وكل الجزر والمناطق المائية التى تتبع هذه الأراضى". وهذه الجملة كان لها دلالة هامة فى حيثيات الحكم التى قدمها اللورد فى قراره حيث أنه قدم فكرة أن واو العطف مقصود منها التأكيد على وجود المعطوف على وجه الإضافة إلى المعطوف عليه بحيث أن النص لو كان قد جاء خلوا من هذا العطف لوجب إعتبار كلمة الأراضى الخاضعة تشمل أيضا البحر الإقليمى. وبذلك يكون لفظ المياه البحرية الملحقة بالأراضى لابد له أن يقصد به حزام المياه الإقليمية الذى يحيط بالأراضى بما يشمل من قاع وما تحت القاع. وقد كان هذا هو الفهم السائد عام 1939 لدى توقيع الإتفاق حيث لم تكن فكرة الرصيف القارى قد نشأت بعد. وعليه يكون قاع البحر وما تحت القاع فى المياه الإقليمية هما من مشتملات هذا الإمتياز بينما تخرج منطقة الرصيف القارى بهذا التفسير من نطاق الإمتياز الذى منحه الشيخ شخبوط بمقتضى الإتفاق.
وقد إنتهى اللورد – بعد دراسة مستفيضة لمفهوم الرصيف القارى - إلى حكم مفاده أن هذا المفهوم – بسبب حداثته وعدم الإتفاق عليه بين الدول - هو مفهوم لم يستقر بعد حيث أنه صحيح يتعلق بالإستغلال الإقتصادى لتلك المنطقة من قاع البحر والتربة الواقعة أسفل القاع إلا أن تعريفه جاء مختلفا فى مداه الجغرافى ونطاقه القانونى باختلاف الدول وهو بذلك لا يصلح أساسا للقول بأنه كان جزءا من إقليم أبو ظبى وقت التعاقد وبذلك تكون حجة الشركة البريطانية غير مقبولة حيث أن الإعلان الصادر من الشيخ عام 1949 تضمن الإشارة إلى إتفاق لاحق بين الدول المجاورة وهو إتفاق لم يقع بعد وعليه فالشيخ شخبوط له مطلق الحرية فى منح الإمتياز الذى يراه لأى شركة أخرى (وكانت بالفعل شركة أمريكية) وبالتالى رفضت حجج الشركة الإنجليزية وجاءت نتيجة التحكيم فى صالح الشيخ..
والحكم وإن كان قد وصل إلى نتيجة عادلة إلا أن وسيلته كان بها غبن للشريعة الإسلامية لا يمكن قبوله حيث أن حيثيات الحكم لا يوجد لها أساس قانونى يصعب العثور عليه فى قواعد الشريعة الإسلامية فى تكييف وتفسير العقود وهذا هو محل النقد فى هذا المقام. كما أنه من غير الثابت أن اللورد آسكويث قد بذل عناية الشخص العادى – ولا أقول الشخص الحريص – لمعرفة ما إذا كانت الشريعة بالفعل غيرصالحة للحكم فى هذه القضية، بل جاء حكمه بقصرها عن الصلاحية للحكم إجماليا وتعميميا بطريقة قد يراها البعض لا تتناسب مع حيدة القضاء.
والواقع أن هذا المنطق الذى سار عليه تحكيم اللورد آسكويث فيه كثير من الغبن للشريعة الإسلامية. فالشريعة الإسلامية لا تختلف فى الشئون المدنية كثيرا عن القوانين الأوروبية سواء منها ذات الأصل اللاتينى أو ذات الأصل الأنجلوساكسونى. فسلطان إرادة الأطراف يحدد أيضا فى الشريعة الإسلامية طبيعة العقد وقانون حكمه وإلتزامات كل طرف ولا فرق بين الشريعة والقوانين المدنية فى ذلك.. فطالما كان سبب العقد مشروعا ومحله محددا بدقة كافية والإرادة الحرة متوافرة عند الطرفين ينشأ العقد فى الشريعة بنفس طريقة نشوئه فى القوانين المدنية..
كما أن القول باكتمال الشريعة منذ قرون طويلة خلت مما ينشىء فرضية "عدم صلاحيتها للحكم على العقود الحديثة والإتفاقيات المعقدة فى ظل التطور الإقتصادى الحديث"هو دفع فى غير محله، فالقانون اللاتينى الذى تسير على قواعده أغلب تقنينات الدول فى عالم اليوم أساسه وأصله يرتدان إلى ما قبل ميلاد المسيح بقرون، فهو قانون الرومان.
كما أن هناك فرق كبير بين إكتمال الشريعة منذ قرون خلت، كنص دينى أو كتاب مقدس يؤمن به أتباع هذه الديانة، وبين كون هذه النصوص لم تعد تصلح - كقواعد قانونية - لتطبق فى فض المنازعات.. ومن هنا جاء الغبن من هذا الحكم فى حق الشريعة..
والفكرة التى قال بها هانتينجتون بعد ذلك بنصف قرن عن صراع الحضارات لا تختلف فى شىء عن فكرة اللورد آسكويث فهى ترى أن التاريخ يتحرك بدافع من الصراع بين حضارات مختلفة ثقافيا – والثقافة تشمل أيضا النظام القانونى – وهذا الصراع يحسم لصالح الثقافة الأقوى والأصلح والأكثر عصرية.
ربما قد حان الوقت بعد كل هذه السنوات لأن يتعرف مثقفو الغرب وقادة أفكاره على ما اعتبره أسلافهم بل والمعاصرون منهم نظاما متخلفا ينتمى لعصور عفا عليها الزمان ولا تصلح للحياة الحديثة فالمبادىء القانونية لا تتقادم خصوصا فى مجال القانون المدنى لأن أساسها يظل دائما هو تحقيق العدالة ومراعاة مصالح الأطراف.
وبنفس المنطق فربما قد حان الوقت أيضا للمسلمين الداعين إلى تطبيق الشريعة إلى فهم أوسع لدور الشريعة كنصوص قانونية تنظم أنشطة الحياة الحديثة لأنه لا يوجد تصادم ولا حتى تعارض بين الشريعة والقوانين الحديثة فى المجال المدنى ومجال العقود والإلتزام لأن جميع هذه القوانين تقوم على نفس المبادىء التى أصبحت راسخة فى كل الثقافات.
ملاحظة على الحكم
قد يبدو لأول وهلة أن الرصيف القارى الذى أعلن الشيخ شخبوط ضمه إلى ممتلكات أبوظبى بما أنه قد أصبح من ضمن هذه الممتلكات فهو يخضع لحكم باقى أراضى الدولة وعليه فهو جزء من الإتفاق. وهذا هو منطق الشركة البريطانية ولكن الواقع أنه صحيح قانونا أنه فى حالة ضم إقليم إلى دولة فإنه يخضع لسلطانها القانونى بحكم أنها بضمه أصبحت كفيلة بحمايته وتحديد نظامه القانونى والسهر على أمن مواطنيه ولكن هذا المنطق يصح فقط فى حالة ضم إقليم قائم وله كيان قانونى محدد إلى دولة أخرى، مثلما ضمت ألمانيا الإتحادية إقليم ألمانيا الشرقية إلى أراضيها فأصبح إقليم ألمانيا الشرقية يمثل الولايات الجديدة الستة فى منظومة الإتحاد الفيدرالى لجمهورية ألمانيا الإتحادية.. وكان من نتيجة ذلك أن ورثت الجمهورية الجديدة المكونة من 16 ولاية كل إلتزامات وحقوق ألمانيا الشرقية فأصبح أى دائن للدولة الشرقية التى توقفت عن الوجود قانونيا يوم 3 أكتوبر عام 1990 دائنا للجمهورية الإتحادية وكذلك كل مدين للشرق مدينا للجمهورية الإتحادية وأضحت كل ممتلكات ألمانيا الشرقية فى الخارج ممتلكات للجمهورية الجديدة..وهذه الحالة لا يمكن قياسها على الحالة الماثلة حيث أن ضم الألمانيتين تم برضا الطرفين وبقبول الشرق بالقوانين السارية فى الغرب وبنظامه الإجتماعى.
أما إعتبار الرصيف القارى خاضعا لسيطرة وسيادة قانون البلد المعلن فهو حالة مختلفة لكون الإجراء صادرا من جانب واحد.. كما أن الرصيف القارى – كما ذكر آنفا - كمفهوم قانونى لم يستقر بعد حتى اليوم لا فى مداه الجغرافى حيث يعتبره البعض 200 ميل بحرى خارج البحر الإقليمى ويعتبره البعض عند النقطة التى يصل العمق فيها إلى 350 مترا شريطة ألا يتداخل مع حقوق الجار على الناحية الأخرى وكلها إجتهادات ينقصها التراضى القاطع بين جميع الدول..
وأعتقد أن اللورد آسكويث عندما ذهب إلى هذه النتيجة ربما كان فى ذهنه أن الرصيف القارى قد تقوم عليه نزاعات مستقبلية بين أبوظبى وجيرانها أو القوى الكبرى العاملة فى الخليج وقتها أى أنه حق لم يكن قد ثبت بعد للمشيخة لأنه لم يأخذ هذا الحق من أحد بل سار على درب الرئيس ترومان دون أن تكون له قوة الرئيس ترومان..
الحكم على كل حال حجة فى مسائل التحكيم البحرى والرصيف القارى ولا يعيبه أى شىء قانونيا.. العيب هو فقط فى إفتراض أن قانونا بذاته لا يصلح ومن ثم إستبعاده عن التداول دون التأكد من ذلك بطريقة واضحة..
الملاحظة الثانية هى الغياب الكامل لكل من هو عربى من هيئة التحكيم ومن عملية ترجمة العقد وقبل ذلك من عملية إبرام العقد وقبل كل شىء من عملية التفاوض على إنشاء العقد.. وكذلك الدخول فى عقد ممتد فى الزمان بهذه الطريقة المبتسرة حيث بلغت مدة الإمتياز 65 عاما على ما أظن أو 75 عاما..
ترى هل لا تزال هذه الممارسات مستمرة ؟