بينما أصبح التحكيم اليوم إجراءا مقبولا ومعروفا فى معظم دول العالم وخصوصا فى الصفقات التجارية وأعمال المقاولات، فإن كثيرا ربما لا يعرفون أن أساسه كان فكرة نشأت عن نزاع بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة خلال أوائل سبعينات القرن التاسع عشر. والتحكيم الدولى الذى نعرفه نحن المصريون منذ توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل والذى عن طريقه إستطاع المصريون إستعادة منطقة بير طابا فى سيناء نشأ ليفض النزاعات بين الدول التى توجد بينها ندية أى الدول ذات السيادة. ولهذا فمن غير المستغرب أن تكون نشأته بين دولتين كليهما ذات سيادة، الولايات المتحدة وبريطانيا. فالولايات المتحدة فى ذلك الوقت عقب الحرب الأهلية الأمريكية كانت منهكة إقتصاديا وإنسانيا حيث أن تلك الحرب نجم عنها وقوع 600 ألف قتيل وهو رقم يفوق كل ما خسرته أمريكا فى الحروب التالية مجتمعة !!! ولم تكن الولايات المتحدة قوة عسكرية كبرى يعمل لها حساب. ولكنها كانت دولة مؤهلة للغاية لأن تصبح قوة كبرى بسبب موقعها المتميز وإتساع مساحتها وتنوع المناخ السائد فيها وطول شواطئها وغنى أرضها بالموارد الطبيعية وإنتاجها الزراعى الكثيف بالإضافة إلى النهضة الصناعية التى حدثت بها فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر بفعل السكك الحديدية واقتحام الغرب.
والموضوع بدأ بإعلان حكومة الملكة فكتوريا أن إندلاع الحرب الأهلية الأمريكية عام 1861 بين الولايات الشمالية (الفيدرالية) والولايات الجنوبية (الكونفيدرالية) يجعل من بريطانيا دولة محايدة بين الطرفين حيث أنها تعتبرهما أطرافا محاربة، بمعنى أن بريطانيا كانت مستعدة لقبول قسمة الولايات المتحدة لو أن الجنوب كان قد إنتصر حيث أن الحياد يعنى القبول بنتيجة الحرب أيا كانت، مما يجعل إلتزامها بمراعاة أحكام الحياد إلتزاما لا شك فيه.
والإلتزام بأحكام الحياد يعنى عدم إمداد أى طرف محارب بالأسلحة أو الذخيرة أو المساعدة فى المجهود الحربى من أى نوع. إلا أن الولايات الجنوبية كانت واقعة تحت الحصار البحرى من الولايات الشمالية وهو الحصار الذى أعلن الرئيس لنكولن عنه فى بداية الحرب كإجراء أولى لإعادة فرض إتفاق الإتحاد الأصلى الذى أرادت الولايات الجنوبية الخروج عن أحكامه.
وهكذا كانت الولايات الجنوبية مضطرة إلى شراء سفن من خارج الولايات المتحدة بأسرها لكى تحاول بها كسر الحصار المفروض عليها من أسطول الولايات الشمالية. وكان أن إتفق رجال الولايات الجنوبية مع بعض أرصفة بناء السفن فى إنجلترا على بناء سفن غير مسلحة ولا تحمل ذخيرة ثم تخرج بعد ذلك إلى عرض البحر وتغادر إنجلترا إلى جزر الأزور فى البرتغال، لكى يتم بناء المدافع ويكتمل تسليحها لتتحول إلى سفن حربية حيث أن الدول الأوروبية حذت حذو إنجلترا ووضعت نفسها على الحياد بين المتحاربين.
وألاباما هذا كان إسم سفينة تم بناؤها فى إنجلترا لكى يتم تحويلها فيما بعد إلى سفينة حربية وقد لاحظ القنصل الأمريكى ذلك فقام بإبلاغ السلطات البريطانية بشبهة كونها سفينة معدة للقتال ولكن دون تسليح بعد، إلا أن السلطات البريطانية أخذت الأمور على محمل التهاون والتراخى مما أدى إلى خروج السفينة بلا عوائق حيث تم تسليحها خارج بريطانيا ودخلت الحرب وتسببت فى إغراق عدد من السفن الشمالية.
والتهمة التى كانت تواجه بريطانيا فى تلك القضية هى تهاونها فى السيطرة على موانيها ومرافىء صناعة السفن بها مما أخل بالتزامات الدولة المحايدة كما عرفها القانون الدولى السارى فى ذلك الوقت. والطريقة التى خرجت بها السفينة رقم 290 ، وهو إسم السفينة آلاباما عند بنائها فى بيركنهيد فى إنجلترا، تنطوى على كثير من الخداع. فقد خرجت السفينة من المياه البريطانية وعلى متنها مجموعة من النساء باعتبارها رحلة تجريبية ترفيهية لسفينة جديدة ثم فى عرض البحر تم إنزال النساء إلى سفينة أخرى أعادتهم إلى إنجلترا بينما إستكملت السفينة 290 رحلتها إلى البرتغال ولم تعد لانجلترا. وهذه الذريعة كانت هى الدفع الذى تقدمت به بريطانيا لتبرير خروج السفينة إلا أنها حجة لا تعد مقبولة حيث أن سلطة الدولة تلزمها بالرقابة على صحة المعلومات المقدمة إليها. والواقع هو أن أمر التحفظ على السفينة قد صدر بالفعل ولكنه صدر متأخرا بحيث أن السفينة كانت قد غادرت الميناء بالفعل، كما أنه من الثابت أن الحكومة البريطانية لم تبذل أى جهود جادة لاستعادة السفينة التى لم تكن قد غادرت المياه الإقليمية بعد. بل أنه حتى التسليح الذى تمت إضافته للسفينة فى جزر الآزور كان سلاحا بريطانيا تم شراؤه فى ليفربول ونقل بالسفن البريطانية التجارية إلى الجزر البرتغالية. ولذلك فقد تقدمت الحكومة الأمريكية بعد نهاية الحرب بشكاوى متعددة ضد بريطانيا تتهمها بعدم الإلتزام بأحكام الحياد المعلن حيث أن سفن آلاباما وفلوريدا وشيناندواه، وجميعها سفن حربية كونفيدرالية قد تم بناؤها فى بريطانيا وتسليحها بريطانى وإن كان قد تم فى جزر الآزور.
وقد جاء إقتراح حل النزاع عن طريق التحكيم من جانب إنجلترا وليس من جانب الولايات المتحدة التى إعترضت على التحكيم إن لم يكن له أساس واضح على مبادىء يتم الإتفاق عليها مقدما، وهو ما يعرف اليوم بمشارطة التحكيم.
وبعد أخذ ورد ومخاطبات طويلة وافق المفاوضون الإنجليز على ثلاثة قواعد تكون هى أساسا للتحكيم المزمع عقده باعتبارها من واجبات الدولة المحايدة:
1. أن تبذل الدولة المحايدة العناية اللازمة لمنع تسليح أو تجهيز أو تعديل أى سفينة يوجد سبب معقول لأن تعتبر صالحة للإستعمال فى المجهود الحربى لصالح أى من الطرفين المحاربين. كما أن الدولة المحايدة عليها أن تمنع خروج أى سفينة من موانيها يكون الغرض من خروجها هو الإنضمام أو المساهمة فى العمليات الحربية أو النقل المخصص للعمليات الحربية.
2. عدم السماح لأى طرف محارب بأن يستعمل موانيها ومرافقها أو مياهها الإقليمية فى عمليات ضد الطرف الآخر ولا يسمح لتلك السفن بإجراء تحميل السلاح أو شحن الجنود أو التسليح .
3. أن تبذل الجهد اللازم لمنع أى شخص أو هيئة من تخطى أحكام الحياد التى ذكرت فى أولا وثانيا وأن تستعمل سلطتها على جميع الأشخاص التابعين لولايتها فى تنفيذ أحكام الحياد.
والحقيقة أن هذه القواعد تعبر بالفعل عن روح الحياد حيث أن الحياد يعنى التجرد التام من أى إنحياز لأى طرف فى الحرب وقبول نتيجة الحرب كما تجىء والإعتراف بنتائجها. وهذا لا يتأتى إلا بتطبيق الأحكام المقررة فيما سبق. وبذلك أصبح الطريق مفتوحا لإجراءات التحكيم حيث صيغت هذه القواعد فى إتفاقية وقعت فى واشنطن وأطلق عليها إتفاقية واشنطن. إلا أنه كانت هناك مفاجأة جديدة
قبل الحديث عن المفاجأة التى وقعت بعد التوصل لاتفاقية واشنطن لابد من الإشارة إلى أن أحد بنود هذه الإتفاقية كان ينص على تراعى الأطراف الداخلة فى هذا التحكيم القواعد الثلاثة المشار إليها وتعمل على أن تتبناها أيضا الدول الأخرى كأساس لتعريف إلتزامات الدولة المحايدة. أما عن القواعد التى قد يحتاج إليها التحكيم وليست واردة فى هذه النقاط الثلاثة فقد سمح الإتفاق لهيئة التحكيم بتبنيها إن تمت الموافقة عليها.
وتقع أهمية إتفاقية واشنطن فى أنها وضعت بالفعل الأساس الصالح للتحكيمات الدولية فيما بعد حيث أن دولا عديدة أخذت بهذه النقاط الثلاثة فى تعريف إلتزامات الدول المحايدة.
وهكذا تشكلت هيئة التحكيم التى إرتضاها الطرفان وتتكون من محكم واحد عن كل طرف بالإضافة إلى وكيل واحد عن كل طرف ومعهم فى هيئة التحكيم رئيس دولة سويسرا وإمبراطور البرازيل وملك إيطاليا كشخصيات لها وزنها الدولى وإعتبارها الكبير ولكنهم بالطبع فوضوا رجال قانون لحضور الجلسات والتحدث بأسمائهم.
وعقب الجلسة الإفتتاحية وتقديم الأوراق قررت لجنة التحكيم رفع الجلسة لدراسة الأوراق المقدمة من كل طرف، وقد كان. إلا أن المحكمين عندما فضوا أوراق الدعوى الأمريكية وجدوا أن الولايات المتحدة قد تقدمت بطلب تعويض شامل لكثير من الأشياء التى لم تكن وقتها مألوفة. فلم يقتصر الطلب الأمريكى على الخسائر التى تسببت عنها الأعمال الحربية للسفينة آلاباما من إغراق لعدة سفن من أسطول الشمال الإتحادى، وهو ما يطلق عليه فى القانون الضرر المباشر، بل إمتد نطاقه ليشمل أيضا جميع الخسائر الناجمة عن أشياء أخرى غير متعلقة بقضية السفينة آلاباما مثل نقل العتاد بالسفن الإنجليزية وتكاليف تعويضات التأمين التى دفعت عن الخسائر التى تسببت فيها السفن الجنوبية وتكاليف تتبع السفن الجنوبية وإطالة زمن الحرب بالإضافة إلى تعويضات عن خسائر قدرتها الحكومة الأمريكية على أساس تهاون الحكومة البريطانية وإهمالها وهو ما أسمته عريضة الدعوى الأمريكية
"Insincere Neutrality" and "Veiled Hostility” وهو ما يمكن ترجمته إلى الحياد غير الأمين والعداوة المستترة.
والحقيقة أن كل من درس القانون يعرف الفارق الهائل بين نظريتى الضرر المباشر والضرر الغير مباشر. فهناك أربعة أنواع من الضرر هى الضرر المباشر المتوقع والمباشر الغير متوقع والغير مباشر المتوقع والغير مباشر الغير متوقع. ومطالب الولايات المتحدة الواردة فى عريضة دعواها تقع بهذه الطريقة فى مرتبة المطالبة بالتعويض عن الضرر الغير مباشر الغير متوقع. فمن غير الممكن مثلا تحديد قيمة التعويض الذى تستحقه الولايات المتحدة بسبب تواجد حالة "العداوة المستترة". وأول سبب لعدم إمكانية تحديد قيمة التعويض هو صعوبة إثبات تواجد هذه الحالة من الأصل فى حق من تدعى عليه.
والضرر الغير مباشر يتم التعويض عنه فقط فى حالات سوء النية أو التعمد أو الإهمال الجسيم، وكلها حالات لا يمكن إثبات وجودها فى حالة بريطانيا. فالإهمال لا يكن جسيما إلا فى حالات نادرة لابد من إثبات أن أدنى قدر من التحوط والحذر لم يكن متواجدا، كمن يشعل سيجارة أثناء ملء خزان سيارته بالبنزين. وهذه أمور لا يمكن إثباتها فى حق بريطانيا.
كذلك طالبت الولايات المتحدة بتعويضات عن إطالة زمن الحرب باعتبار أن الدعم البريطانى للبحرية الجنوبية الكونفيدرالية كان من نتيجته المباشرة أن زادت مقاومة الجنوبيين للحصار البحرى المفروض عليهم بحيث أن زمن الحرب قد إستطال وكلف الخزانة الشمالية الفيدرالية قدرا أكبر من الموارد حتى تحقق النصر. وهذا الدفع وإن كان منطقيا إلا أن الدليل ينقصه وكذلك فإن طريقة حساب التكلفة تقع فى باب أشباه المستحيلات.
وهكذا تكهرب الجو من جديد وأصبح مصير التحكيم فى مهب الريح حيث أن إتفاقية واشنطن كان لابد من تفسيرها بطريقة تحدد إن كانت الأضرار الغير مباشرة التى طالبت الولايات المتحدة إنجلترا بالتعويض عنها هى من ضمن الإتفاقية أم أن الإتفاقية تدور فقط حول تعويضات الضرر المباشر. وهنا تقدم الإنجليز بطلب أن تحدد لجنة المحكمين من تلقاء نفسها نطاق سريان المعاهدة من حيث نوع الأضرار التى تغطيها نصوصها.
ومن الملاحظ أن الدول الثلاثة التى كانت محايدة وممثلة فى هيئة التحكيم هى دول تتبع فى نظامها القانونى النظام اللاتينى أو الرومانى، وهذا النظام ينهض على أساس إقتضاء التعويض المساوى للضرر المباشر ولا يعترف بالضرر الغير مباشر إلا فى حالات سوء النية والتعمد والإهمال الجسيم. والمفارقة الغريبة أن طرفى النزاع فقط هما من كان ذا خلفية أنجلوساكسونية (إنجلترا وأمريكا) بينما كل أعضاء هيئة التحكيم هم من ذوى الخلفية اللاتينية. وبالتالى أعلن العضو الإيطالى ممثل ملك إيطاليا أن هيئة التحكيم لا تريد التدخل فى تفسير إتفاقية واشنطن ولكنها ترى أن رأب الأضرار الغير مباشرة هو ليس من قواعد العلاقات الدولية. وعلى ذلك فسوف يستمر التحكيم آخذا فى الإعتبار فقط الأضرار المباشرة التى تعرض لها الطرف الأمريكى بسبب سوء التصرف البريطانى.
والغريب أن المندوب الأمريكى رد على هذا البيان بقوله أنه تلقى تعليمات من حكومة بلاده تنصح فيها بعدم الضغط من أجل إقتضاء تعويضات عن الأضرار الغير مباشرة !! أى أن الولايات المتحدة قد تنازلت عن جزء هام من طلباتها التى دخلت بها التحكيم فى البداية.
وهكذا سحب المندوب البريطانى الطلب الذى كان قد تقدم به قبل ذلك بشأن فض الجلسات إلى حين الإتفاق على نطاق الضرر الذى تغطيه الإتفاقية وأمكن للتحكيم أن يستمر. وكانت النقطة التى شغلت جانبا من المناقشات فى تلك الجلسات هو تحديد مقدار ونوعية ما أطلقت عليه نصوص المعاهدة "العناية الواجبة"أو باللغة الإنجليزية Due Diligence حيث كان المندوب الأمريكى يرى أن طريقة قياس تلك العناية لا تتأتى إلا من خلال النتائج التى تحققت.. أى أنه كان يريد ترسيخ مبدأ تحقيق الغاية. بينما كان المندوب البريطانى يرى أن العناية الواجبة التى ينتظر من أى دولة أن تبذلها لا يمكن لها أن تزيد عن قدر العناية التى تبذلها الدولة المتحضرة فى شئونها الخاصة وأمن مواطنيها، بغض النظر عن النتائج، أى أنه كان يريد ترسيخ مبدأ بذل العناية دون نظر للنتائج.
وقد تبنت لجنة المحكمين موقفا أقرب للنظر الأمريكى حيث أنهم حكموا بالإجماع وبما فيهم المندوب البريطانى بأحقية الولايات المتحدة فى التعويض عن كل الأضرار التى سببتها السفينة آلاباما أما فى حالة السفينة فلوريدا فقد كانت كل اللجنة تقف موقفا معارضا للمندوب البريطانى الذى وجد إذنا صاغية من المندوب البرازيلى فى الحالة الثالثة وهى حالة السفينة شيناندواه بينما وقف كل الأعضاء ضدهما.
أما فى حالات السفن الأخرى فقد تبنى المحكمون نظر إنجلترا فى شأن العناية الواجبة. وهكذا صدر قرار التحكيم باستحقاق الولايات المتحدة لمبلغ تعويض تقديرى مقطوع هو 15.500.00 دولار أمريكى ذهبى (خمسة عشر ونصف مليون) وتم التوقيع على وثيقة التحكيم المتضمنة للقرار من جانب كل الأطراف عدا المحكم البريطانى السير كوكبيرن الذى قرأ بيانا مطولا يشرح فيه أسباب عدم توقيعه، إلا أن ذلك لم يؤثر فى صحة ونفاذ قرار التحكيم.
والحقيقة أن نصوص النقاط الثلاثة التى تم الإتفاق عليها هى نقاط تمثل أساسا صالحا لتحديد المسئوليات فى حالات الحياد ولكنها لم تكن محددة بطريقة كافية وعلى أى حال فقد تم منذ ذلك الحين (1873) تعديل كثير جدا من قواعد القانون الدولى العام بحيث أن معاهدة واشنطن قد تخطاها الزمان.
↧
تحكيم آلاباما
↧