إذا كان من الممكن تصنيف الحقب الزمنية حسب ما جرى فيها من أحداث، وهو تصنيف مجازى بالطبع، فإنه يمكن القول بأن القرن التاسع عشر كان هو قرن التدافع الأوروبى نحو حيازة المستعمرات والتسابق على التحكم فى الطرق الإستراتيجية قناة بنما (فى يد أمريكية) وقناة السويس وباب المندب وجبل طارق (حسمت كلها بأن تنتهى فى يد إنجليزية). ومن الناحية الإجتماعية تميز بأنه القرن الذى خرج فيه الإنسان عن المألوف وثار على النظام الإجتماعى السائد منذ مئات السنين فبدأت المحاولات الأولى للثورة الشاملة وذلك فى معظم أقطار العالم. أما القرن العشرون فقد تميز بأنه قرن الحروب المدمرة والأسلحة الفتاكة والتطلع لإنشاء الدولة القومية فى الأقاليم التى كانت من قبل مستعمرات (آسيا وأفريقيا) واختتم ذلك القرن بحرب باردة إنتهت فى عام 1990، وهو العام الذى يعتبر هو النهاية الفعلية للقرن العشرين. وعلى المستوى الإجتماعى تميز القرن العشرون بصراع النظريات الإجتماعية التى وضع أساسها النظرى فى القرن السابق عليه ثم بدأ تطبيقها فى ذلك القرن الحافل. وإن كان هذا هو حال القرنين المنصرمين فما هو شكل الصراع المتوقع بين أطراف القرن الجديد والذى يمكن إعتبار بدايته الحقيقية كانت يوم 11 سبتمبر عام 2001؟
لابد من الرجوع إلى لحظة نهاية الحرب الباردة التى كانت تعنى لحظة الإنقضاء المخجل للإتحاد السوفيتى.
يقال فيما روى عن الرئيس جورج بوش الأب – الذى كان هو الجالس خلف عجلة قيادة العالم الحر فى تلك اللحظة التاريخية – أنه عندما علم بتصفية الإتحاد السوفيتى ككيان وتقسيمه على عدد من الدول التى ترتبط بمعاهدة ليست حتى فيدرالية، كان أول رد فعل له أن طلب من معاونيه عدم التعبير العلنى عن السعادة وإخفاء الفرحة والتظاهر بأن كل شىء هو بالنسبة لأمريكا أمر طبيعى.
وجدير بالذكر أن ريتشارد نيكسون على ما عرف عنه من ذكاء حاد وبعد نظر وفهم لطبيعة العلاقات الدولية من منظور إستراتيجى إلا أنه قد تساءل فى آخر كتاب صدر له قبل وفاته عن سبب عدم إحساس الأمريكيين بالسعادة للنصر الذى تحقق ولماذا لا يوجد يوم للنصر على الإتحاد السوفيتى مثلما كان هناك يوم D Day الذى كان يرمز للنصر على ألمانيا أو J Day الذى كان يرمز للنصر على اليابان. والسبب هو فى الغالب عدم رغبة الإدارة الأمريكية (المؤسسة الأمريكية بالأحرى) فى إظهار السعادة كما أسلفت.
ورد الفعل بهذه الطريقة لابد من التوقف أمامه لدراسته حيث أنه المنطلق إلى فهم ما جرى وسوف يجرى بعد ذلك. إن جورج بوش الأب هو فى حقيقته رجل أعمال كان فى طريقه لأن يصبح ربما من أغنى أغنياء أمريكا إلى أن دخل عالم السياسة فى منتصف الستينات وكان كثيرون من مجتمع رجال الأعمال يندهشون من هذه الخطوة حيث أنه لم يكن محتاجا إلى شىء من هذا.
وجورج بوش هو نائب الرئيس الأمريكى ريجان وقد فاز فى إنتخابات عام 1988 وفى أثناء فترة تحضيره لطاقم العمل معه قبل أداء قسم الرئاسة إلتقى بميخائيل جورباتشوف الرئيس السوفيتى الذى كان يزور واشنطن فسأله بعجرفة عن التطمينات التى يستطيع أن يأخذها منه لكى ينقلها لرجال الأعمال الأمريكيين بشأن فتح السوق السوفيتى أمامهم. وقد رد عليه جورباتشوف ردا ديبلوماسيا بما يفيد أن الوقت لا يزال مبكرا للحديث حول ذلك الأمر. وجورج بوش هو نفسه الرئيس الذى دعا الألمان إلى مشاركته فى قيادة العالم وأعلن عن وقوفه إلى جانب هلموت كول فى برنامجه لتوحيد ألمانيا بلا أى قيود. وأخيرا فإن جورج بوش هو الرئيس الذى خاض حرب تحرير الكويت ولم يتوان عن إرسال نصف مليون جندى أمريكى دفعة واحدة إلى العراق ولم يتورع عن إعلان حالة التأهب لاستعمال الأسلحة النووية ضد العراق.
فماذا يعنى كل هذا؟ هذا ليس له سوى دلالة واحدة هى سيطرة البعد الإقتصادى على غيره من إعتبارات الفكر السياسى فى لحظة فارقة كانت أقدار البشرية لمدة طويلة قادمة آخذة فى التشكل. فالسؤال عن فرص رجال الأعمال الأمريكيين فى الإتحاد السوفيتى هو سؤال فى الصميم حيث أن بوش كان قد رأى أن هناك فرصة ولو واحد فى الألف لتوسيع دائرة النفوذ الإقتصادى الأمريكى. فجورج بوش كان فى تلك اللحظة ممثلا للمؤسسة الصناعية المالية الأمريكية الساعية للربح. وألمانيا كانت خلال الثمانينات قد تحولت إلى ثقل إقتصادى لا يستهان به وبالتالى لم يكن من الممكن حبس ذلك الكيان خلف أسوار الإنقسام إلى بلدين. أما الكويت وخزان النفط المدفون فى أرضها فهو إعتبار واضح لا يحتاج إلى شرح.
وعلى الجانب الآخر من الأطلنطى كانت مارجريت ثاتشر ترى أن ما حدث هو على غاية من الروعة حيث روى عنها قولها "أن رقعة هائلة ممتدة من فلاديفوستوك إلى سان فرانسيسكو بلا حدود ولا موانع أيديولوجية قد أصبحت تؤمن بنفس القيم الإجتماعية والسياسية". وهذا الكلام قد يفسر إقتصاديا على أنه سوق هائل كبير رحب المساحة وقد يفسر سياسيا على أنه إنتصار للنظرية السياسية الغربية وقد تحقق وتوسع مجال عمل هذه النظرية ليضم أراضى جديدة.
وفى جميع الأحوال فقد خرج إلى الناس فى نفس الوقت مفهوم السوق الأوروبى بلا أى حدود (1992) ومفهوم منظمة التجارة العالمية ( WTO ) عام 1994 ومراكز التحكيم الدولى وإتفاقات تخفيض الجمارك أو إلغائها بالكامل. ورويدا بدأ مفهوم العولمة يتخذ قالبا فكريا يقترب من التقديس وأصبحت نظرية حرية السوق وانفتاح المجالات وحرية رأس المال فى التنقل وتحرير قطاع الأعمال مما يطلق عليه الإنجليز red stamp أى ختم الحكومة التى تقوم بتنظيم العمل فى الإقتصاد وهو المصطلح الذى أصبح لا ينظر إليه إلا من منظور سلبى..
بل وأكثر من ذلك، أصبحت الدول الصتاعية تطالب الدول الأفقر بل وتشدد عليها النكير حتى تخفض أو تلغى بالكامل قوانينها الحمائية فى مجالات الجمارك والرسوم وضرائب الإستيراد لكى تفتح أسواقا جديدة للشركات العملاقة فى العالم الصناعى. وأصبحت المعونات ترتبط بتنفيذ هذه الطلبات وظهرت إلى الوجود مصطلحات مثل الإصلاح المالى والضريبى ووصفات البنك الدولى وصندوق النقد الدولى وتحرير الأسواق وإطلاق العنان لقوى السوق إلخ..
والآن وقد دخلنا فى فترة التسعينات فقد بدأت تلك الحقبة بتحرير قطاعات الخدمات (إتصالات، نقل، مرافق عامة) من قبضة الدول لكى تخرج إلى السوق المفتوح على هيئة شركات مساهمة تباع أسهمها فى كل مكان فى العالم. فباعت الحكومات شركات الإتصالات الثابتة والمحمولة ومرافق السكك الحديدية وإنتاج الكهرباء وإنتاج المياه وشركات الطيران القومية .. إنها حمى الخصخصة قد زحفت على كل العالم شرقا وغربا..وبالتالى حدث رواج كبير فى بورصات العالم الغربى وأثرى كثيرون بسبب ذلك الرواج وتضخمت ثروات وأصبحت البنوك تبحث عن دول وأقاليم جديدة تذهب إليها عارضة خدماتها المالية والإستثمارية. كما نتج عن ذلك رواج هائل لما يطلق عليه تجارة المشتقات Derivatives التى هى بدعة من أفكار رجال البنوك تبنى على تداخل عدد من الأوراق المالية سواء كانت أسهم أو سندات ومزجها فى وعاء واحد تتغير نسب خلط المكونات داخله كلما رأى مدير الوعاء ضرورة ذلك.
وفى نفس الوقت تزامن ذلك مع هبوط حاد فى أسعار المواد الأولية من بترول وفحم وقطن ونحاس وألومنيوم والذهب أيضا حتى أن دولا تعتمد على إنتاج وتصدير تلك المواد مثل زامبيا وشيلى وجنوب أفريقيا إضطرت إلى إعادة هيكلة بنيتها الإقتصادية حتى تستطيع أن تواكب التغيرات الهائلة فى تلك الحقبة. وجدير بالذكر أن فترة التسعينات لم يزد سعر برميل البترول فيها عن 12 أو 15 دولارا، وهذا كان يعد إحدى ثمرات حرب تحرير الكويت.
وبفعل الرواج فى البورصات وأسواق المال زاد فى تلك الفترة نشاط بنوك الإستثمار التى تضخمت محافظها المالية واصبحت تبحث عن وسائل لعقد صفقات مجزية لإقراض الدول أو الشركات.
والحقيقة أن لفظ العولمة Globalization هذا كان يخفى فى طياته أمورا وأمور.. وهناك جدل حول منشأه.. فهناك من يقول أنه من إبتداع مارجريت ثاتشر وهناك من يقول أنه من بنات أفكار العالم رولاند روبرتسن من جامعة إيبردين فى إسكتلندا.. واللفظ على أى حال له مرجعية بريطانية.
وهذا اللفظ يعنى فى مظهره الجميل أن العالم أصبح وحدة واحدة مفتوحة لكل من أراد أن يعمل أو يبيع أو يشترى.. وهو مبدأ فى مظهره جذاب.. إلا أن تنفيذه يحمل من المتاعب والمثالب ما لم يحمله لفظ آخر عبر كل التاريخ الإنسانى.. فالدولة القومية لم تلغ بسبب هذا المصطلح، بل بالعكس فقد زادت قوتها وتعاظم نفوذها فى الدول الصناعية الغنية ليس فقط على مواطنيها وإنما على الدول الغير صناعية والمتخلفة من دول العالمين الثانى والثالث. وبيان ذلك أن الدولة القومية فى الغرب أصبحت طرفا أصيلا متدخلا بإيجابية فى الدفاع عن المشروع الخاص فى تلك الدول فى مواجهة الدول الفقيرة والأقل حظا فى النمو. أى أن المؤسسة الصناعية والمالية فى الدول الغنية وبالذات فى أمريكا وفرنسا أصبحت توظف الدولة القومية، التى ينبغى لها أن تخدم جميع المواطنين، أصبحت توظفها كهراوة لضرب الحكومات والدول التى لا تريد أن تنصاع لأحكام ما أطلق عليه العولمة.
إلا أن الإدارة الأمريكية للرئيس جورج بوش الإبن فى عام 2001 عندما شعرت بتدفق واردات الحديد على الولايات المتحدة قررت فرض رسوم جمارك على تلك الواردات حتى تحمى صناعة الحديد الأمريكية، وهو تناقض صريح مع مبادىء حرية التجارة وفتح الحدود، أى تعارض واضح مع ما يطلق عليه العولمة. وهو ما يعبر عن أنانية وإنتهازية من جانب تلك الإدارة.
وكم من مرة سمعنا وقرأنا عن تدخل أجهزة المخابرات فى الدول الصناعية لكشف أسرار صفقة معينة والعمل على إيقافها أو تعليق المفاوضات بشأنها حتى يسمح ذلك باقتسامها مع شركات خاصة من هذه الدولة الصناعية.
ورويدا أصبح الوضع الإقتصادى فى العالم يتكون ممن يملكون ومن لا يملكون وتعدل توزيع الثروات من النظام التقليدى الذى يضم فى أبسط صوره ثلاث طبقات، عليا ومتوسطة وتحت المتوسطة إلى نظام شبه ثنائى ليس به سوى طبقتين فقط، نظام شبيه بنظام روما القديمة.
والأدهى من كل ذلك أن هذا النظام الجديد يبدو فى ظاهره ديموقراطى للغاية. فهذه مجتمعات تقوم على الإنتخاب الحر والقرار الخالى من أى قهر أو إجبار. وهذا صحيح. ولكن الدور الجديد للدولة هو الذى يحتاج إلى إعادة نظر.
وهذا الدور الجديد أصبح باديا فى إنحيازها إلى المشروع الخاص من العيار الثقيل. فأموال دافعى الضرائب فى الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإنجلترا واليابان أصبحت توجه بكميات هائلة إلى تعويم الشركات الخاصة، سواء كانت بنوك أو غير بنوك، فى حالة تعرضها لغرق الإفلاس. ودور الدولة فى هذه الحالة لابد من إخضاعه لمعايير دستورية وقانونية دقيقة. إذ ليس من المقبول أن تدعم أموال دافعى الضرائب كبريات الشركات الخاصة التى لا تعيش ولا تنمو إلا على إستنزاف صغار الشركات من موردين ومنتجين صغار ومقاولى باطن، كما أن أساس المشروع الخاص هو تحمل المجازفة والخسارة وليس الصراخ دعوة إلى تدخل الدولة بأموال دافعى الضرائب لإنقاذ المشروع الخاص كلما تعثر. وقد عبر الرئيس الفرنسى السايق نيكولا ساركوزى عن ذلك فى عام 2008 قائلا أن هذه هى نهاية الرأسمالية كنظام.
ولشدة الأسف فإن إجراءات هذا الدعم كلها صحيحة وقانونية وديموقراطية. فالبرلمانات تنتخب إنتخابا شرعيا ديموقراطيا سليما وهى تقترع على منح المساعدة قبل أن تمنح، ويعطى الأعضاء الفرصة كاملة للتعبير عن رأيهم فى الأمر ثم يجرى تصويت من هؤلاء الممثلين الشرعيين الذين يعبرون عن إرادة الشعب تعبيرا صحيحا وفى النهاية تسيل التدفقات المالية من خزنة الدولة إلى خزانات هذه الشركات والبنوك حتى لا تفلس.
وما وقع من أمر فى عامى 2007 و2008 هو من المعالم الرئيسية للصراع فى القرن الواحد والعشرين.
وما وقع هو باختصار إبتزاز للدولة من جانب البنوك التى غامرت وقامرت بأموال المودعين ولما خسرت صرخت تنادى الدولة بأن تنقذها. وهذه البنوك التى تطلب مساعدة الدولة عندما تخسر هى نفس البنوك التى لا تعرف التساهل فى أى مبلغ مهما قل إن كان مستحقا لها. وهى نفس البنوك التى تقرض الدول الفقيرة ولا تقبل بأية أعذار فى حال تعثر تلك الدول عن السداد ولو لقسط واحد. فكيف وقع هذا الأمر ولماذا تخلت الدولة عن حيادها؟
لا يوجد تفسير سوى أن مراكز التشريع والتنفيذ فى الدول الغربية قد أصبحت واقعة تحت سيطرة رجال المال والبنوك بطريقة سافرة. فالعلاقة بين السياسة والإقتصاد أضحت هى علاقة ليس بين المال والدولة ذات الهيبة ولكن بين الآمر والمأمور.
فى عام 1997 توصل الخبراء من كل العالم فى مدينة كيوتو اليابانية إلى إتفاقية وقعها الجميع بما فيهم الولايات المتحدة الأمريكية لخفض نسبة الغازات المنبعثة من المصانع والمرافق الإقتصادية وذلك كإجراء يقى الأرض عواقب ظاهرة الإحترار العالمى. ولكن الولايات المتحدة تراجعت عن التصديق على الإتفاقية بعد رفض الكونجرس تحت ضغط الشركات الصناعية مثل صناعات الطائرات والسيارات وبالتالى فشل تنفيذ الإتفاقية بسبب أكبر ملوث للبيئة – الولايات المتحدة الأمريكية.
وفى عام 1999 توصل الأوروبيون جميعا إلى إتفاق يقضى بتحميل شركات إنتاج السيارات تكاليف إسترجاع السيارات القديمة والتخلص منها بطريقة غير ضارة بالبيئة حيث أن هذه السيارات هى من صنع تلك الشركات. ولكن السيد/ فرديناند بييش رئيس مجلس إدارة شركة فولكس فاجن أرسل خطابا إلى صديقه وزميله السابق فى مجلس الإشراف على الشركة المذكورة، المستشار الألمانى جيرهارد شرودر، يناشده فيه بلطف وأدب جم أن يتغاضى عن توقيع هذه الإتفاقية التى سوف تحمل صانعى السيارات تكاليف لا مبرر لها. وبالفعل إنسحبت ألمانيا من الإتفاقية وانهارت الإتفاقية بسبب عدم موافقة أكبر صانع للسيارات فى أوروبا، ألمانيا الإتحادية.
والحقيقة أن هذا الوضع المتميز للشركات لم يكن متاحا فى أوائل القرن العشرين إذ أن المحكمة العليا فى الأمريكية قد حكمت عام 1911 بتقسيم شركة ستاندارد أويل وتفتيتها إلى عدة شركات بسبب ما أطلق عليه وقتها ممارسات غير أخلاقية وهو ما نعرفه اليوم فى عالمنا المعاصر بالممارسات الإحتكارية.. كل ذلك رغم عدم وجود قوانين فعالة تحارب الإحتكار فى ذلك الزمان.. صحيح أنه كان يوجد قانون شيرمان لمكافحة الإحتكارات
Sherman Antitrust Act الذى كان قد صدر عام 1890 إلا أن أول تطبيق له كان عام 1911 على هذه الشركة هائلة الحجم. كما هذا الوضع لم يكن متاحا فيما بعد عندما كانت هناك دول تطبق النظام الشيوعى فى شرق أوروبا. والبادى هو أن خوف الغرب من إنتشار الشيوعية كرد فعل لتفشى الجشع فى الغرب نفسه قد ساهم فى كبح جماح الجشع. أى أنه يمكن القول بأن نوعا من ال Modus Vivendi (أو صيغة من التعايش) قد نشأت بين المواطن الأوروبى والمؤسسة المالية فى الغرب. وهى معادلة قد تبدو لأول وهلة عصية على الفهم إلا أن من يعرف تاريخ أوروبا يدرك فورا أن الحركات العمالية والأفكار اليسارية كانت دائما توظف الجشع الراسمالى مبررا أساسيا لعملها بل لشرعية وجودها ذاته. والولايات المتحدة لم تكن تستطع فى أى وقت لا فى الماضى ولا فى الحاضر، لم تكن تستطع المجازفة بأوروبا شيوعية بالكامل. ولهذا فإن الجشع المصرفى للمال كان طوال فترة القرن العشرين وحتى إنهيار سور برلين محكوما باعتبارات المصلحة ولا يخرج عن مقتضى المقبول من السلوك. وفى مقابل ذلك كان المواطن فى أوروبا الغربية يعيش مرفها فى ظل دولة لها بعد إجتماعى تكافلى يقترب من الفابية البريطانية وبالتالى لم يكن هاجس التغيير يشغله كثيرا. بينما كان الأوروبى الشرقى هو من يدفع فاتورة ذلك التعايش من حريته ورفاهيته وطموحه المكبوت.
وبرفع القيود عن أوروبا الشرقية ثبت للقاصى والدانى أن النظرية الشيوعية قد فشلت تماما وأنها لن تعود من جديد فى أى مكان من العالم. وبذلك نقضت المعاهدة الضمنية المبرمة بين المواطن والمؤسسة المالية الصناعية فى الغرب لعدم إحتياج المؤسسة إلي هذه المعاهدة، فعاد نشاطها إلى كل الممارسات التى عرفتها الإنسانية أثناء الثورة الصناعية فى بدايات القرن التاسع عشر.
والطرف الذى وقف حائرا بين الإثنين هو الدولة القومية. وهذه لم تتخذ موقفا سريعا بل ظلت فى حالة ترقب إلى أن دفعتها الأحداث دفعا إلى التحرك فى إتجاه المؤسسة الصناعية المالية، ضد المواطن إن لزم الأمر.
وهكذا بدأت الدولة فى تطبيق وصفة المؤسسة المالية الصناعية وأخذت فى بيع أصولها ونشأ نظام الخصخصة فى كل الدول حتى فى الدول ذات الإتجاه التكافلى مثل الهند. بل وصلت موجات الزلزال إلى الصين الشيوعية ذاتها وفتح المجال هناك للمشروع الخاص ونشأ مجتمع جديد محدود بمنطقة شنغهاى له قوانينه وله أشخاصه ولا علاقة له بباقى البلاد.
والمشروع الخاص هو ربما من أفضل ما توصل إليه العقل البشرى ولعله من أهم ما توصل إليه ذلك العقل أيضا. أما ما يسوءه من أوزار فهى المثالب التى تؤخذ على أى شىء عند إخراجه من محتواه بفعل التعسف.
والشاهد أن نشاط البنوك فى العالم بأسره وفى الغرب بصفة خاصة قد خرج عن قواعد المقبول بل وعن أسوار ما هو مشروع ودخل بالفعل فى منطقة الجريمة. والأدهى من ذلك هو صمت الدولة عن كل ذلك تأسيسا على أن كل شىء قد تم بطريقة مشروعة وبعقود صحيحة نافذة. فالبنوك تخدع مدخريها بالقول وبالفعل. والبنوك تتهرب من الضرائب فى كل الدول. والبنوك تمارس ضغطا على الحكومات بالفعل. والبنوك تتقاضى أضعاف ما تقرضه للحكومات أو الأشخاص عن طريق الفوائد الممتدة فى الزمان. والبنوك تتلاعب فى أسعار المواد الخام عن طريق أسواق البيع المستقبلى والعقود المؤجلة. وأخيرا فالبنوك تجبر الدولة على إنقاذها بأموال دافع الضرائب عندما تتعثر أو تتعسر. ومأساة عام 2008 جلية للعيان.
وخلف البنوك لا تقف فقط الحكومات وإنما المؤسسات الصناعية الغربية جميعا. وكأنما هناك حلف بين الصناعة والمال والدولة ضد المواطن. وهذا التكتل يحاول باستمرار أن يسلب كل شىء ممن يملكه. فبينما تقرض البنوك المستهلكين أموالا لشراء منتجات صناعية بفوائد تجعلها قادرة على إسترداد أصل الدين مضاعفا فى بعض الأحيان ترفع الدول من الضرائب ختى يتسنى لها تمويل نشاطها مما يجعل دخل المواطن الغير منتم للمؤسسة المالية الصناعية يهبط بقدرته الشرائية باستمرار. وهذه الدورة اللامنتهية تلتهم المدخرات الفعلية للمواطنين وتنقل مواطنى الطبقة المتوسطة إلى الدرجة تحت المتوسطة. أى أن تآكل الطبقة المتوسطة هو نتيجة طبيعية ومنطقية لهذه التحالفات. والولايات المتحدة الأمريكية هى أكبر شاهد على ذلك، فالطبقة المتوسطة هناك فى حالة تآكل مستمر والبنوك تزداد ثراءا والحكومة تريد رفع الضرائب بسبب عجز موازنتها الغير محتمل. وإنجلترا كذلك هى فى وضع مشابه.
وفى هذا الوضع الغريب ستتشكل أوضاع الصراع فى القرن الواحد والعشرين. فالمواطن قد فقد الغطاء الذى كان يحميه خلال فترتى الحرب الباردة وما قبلها فى القرن العشرين، بينما تخلت البنوك عن برقع الحياء وكشفت عن حقيقتها الجشعة والدولة منحازة للمؤسسة رغم كل ما يتفوه به السياسيون المنتخبون. أى أن الصراع سوف يكون بين الفرد والمؤسسة !! إذ بعد أن كان الصراع فى القرن العشرين يدور حول كسب المواطن إلى صف الشيوعية أو الفاشية أو الإشتراكية أو الرأسمالية، سيصبح الصراع بين المواطن والمنتصر فى الحرب الباردة من كل هذه الإتجاهات: المؤسسة..
والمؤسسة ليست بالضرورة أمريكية أو ألمانية. بل هى مؤسسة عالمية فيها الأمريكى والفرنسى واليابانى والصينى وربما المصرى والإسرائيلى والسعودى والبرازيلى ومن كل حدب وصوب. ولكنهم جميعا متفقون على صفة الجشع والإستحواذ على كل شىء. ولايعنى ذلك أنهم يعملون فى تنسيق كامل عبر العالم الفسيح، بل أن ذلك يعنى تشابه أسلوبهم فى التصرف والتفكير والتنفيذ.
فالدولة هى التى أرسلت جنودا من الجهلة إلى العراق وأفغانستان لكى يموتوا هناك دفاعا عن مصالح المؤسسة وبإيعاز منها. والدولة هى التى إستأجرت مرتزقة من كل مكان على ظهر الكرة الأرضية مقابل 1000 دولار أمريكى يوميا لكى يخوضوا تلك المعارك التى لا يمكن كسبها خدمة لمصالح المؤسسة. والمؤسسة هى التى تملى على الدولة سياساتها النقدية والإجتماعية. والمؤسسة هى التى أفسدت ماليات جزيرة ناعسة فى شرق المتوسط هى قبرص فحولتها إلى مرتع لغسيل الأموال ثم فرضت على الدولة هناك أن تضحى بمدخرات الفرد. والمؤسسة هى التى أغوت اليونان بالقروض حتى شارفت على الإفلاس. والمؤسسة هى التى أصبحت تصيغ عقود العمل والمقاولات بطريقة قهرية إن لم يقبلها الأصغر فلا عمل له بل ولا وجود فى مجمل السوق. والفرد هو الذى فقد وظيفته فى أمريكا أو إنجلترا أو إسبانيا وأصبح عاطلا حتى بلغ عدد الفقراء أو من يعيشون تحت خط الفقر فى الولايات المتحدة 46 مليون شخص قبيل إنتخابات عام 2012.
وفى ظل هذه الظروف قرأنا فى الأخبار منذ أكثر من ثلاثة أعوام وبعد إنقشاع الغبار عن فضيحة بنك ليمان براذرز وباقى البنوك الأمريكية أن إدارة بنك ميريل لينش الأمريكى الذى أعلن عن خسارة قدرها 28 بليون دولار عام 2008 قبل أن يشتريه بنك أوف أميركا – هذه الادارة التى حققت كل تلك الخسائر - كشف الستار عن أنها قررت قبل اتمام صفقة البيع الى بنك أوف أميركا صرف حوافز و مكافآت لمديريها يبلغ مجموعها 6 مليارات دولار !!!!
كما أن أكبر 5 بنوك إستثمارية أمريكية أعلنت عام 2007 عن أن مجموع المكافآت والحوافز التى تم صرفها للمديرين فى تلك البنوك عن ذلك العام قد بلغ 34 مليار دولار !!! ولم يمض عام حتى وقعت الأزمة الكبرى نهاية 2008.
إن ممثلى المؤسسة يتسمون بالجرأة البالغة إلى حد البجاحة. فهاهم مديرو بنك حقق خسارة هائلة يتسلمون أموالا فيدرالية جمعتها حكومة الولايات المتحدة من المواطنين على هيئة ضرائب ثم يصرفونها لأنفسهم على سبيل المكافآت رغم فشلهم فى عملهم. بينما يدخل المواطن المتهرب من دفع الضرائب إلى السجن !!
ان لم يكن هذا هو تعريف الجشع فماذا يكون إذن ؟ وهذا الجشع الشخصى والوظيفى سيكون على ما أظن هو الطابع المميز لرجال المؤسسة المالية الصناعية التى تضم شركات البترول والغاز والأدوية والأغذية والطاقة وصناعة السلاح وصناعة السيارات والطائرات إلى جانب البنوك من كل الجنسيات مدعومة بقوة الدولة فى التشريع والتنفيذ. وهذه المؤسسة هى التى ستقف خصما للفرد العادى فى القرن الواحد والعشرين. وبذلك يتحدد شكل الصراع الإجتماعى فى القرن الجديد.