Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

إصلاحات دينية بطرق مختلفة

$
0
0

رجلان عاشا فى نفس العصر وتبنيا ذات القضية وحاربا نفس الخصم وكانا يعرفان بعضهما ولكن النهاية إختلفت لكل منهما وكذلك المكانة التاريخية. وسبب ذلك الإختلاف هو فى طبيعة عمل كل منهما وفى خياراته وانحيازاته.
الأول هو مارتن لوثر Martin Luther المولود فى عام 1483 بمدينة فيتنبرج جنوب برلين
والثانى هو توماس مونتسر Thomas Müntzer المولود بعده بستة أعوام بمدينة شتولنبرج.
وكلاهما كان يريد إصلاح الكنيسة الكاثوليكية التى طغت فى أرجاء كل أوروبا وكانت تقتضى الضرائب من الفلاحين بالتعاون والقسمة مع الأمراء اصحاب الأراضى الشاسعة ممن كانوا يملكون الأرض وما عليها ومن عليها من العاملين.
وبينما جعل مارتن لوثر غايته فى إصلاح الكنيسة فقط دون المساس المباشر بالوضع المتميز للأمراء حيث قد بدأ عمله بإعلان ما أطلق عليه Thesen أى مواضيع فى نظريات العلم الدينى يرى أن الكنيسة مخطئة فيها ويطالبها بالإصلاح بلغ عددها 95 موضوعا قام بتعليقها على أبواب كنيسة فيتنبرج مسقط رأسه. فى حين أن مونتسر بدأ يلقى موعظته الدينية باللغة الألمانية مباشرة على الفلاحين الذين لم يكونوا يفقهون شيئا فى اللغة اللاتينية التى تستخدمها الكنيسة.. وفى خلال تلك المواعظ كان مونتسر يهاجم كل من الكنيسة وطبقة الأمراء فى نفس الوقت قائلا أن الرب قد خلق الإنسان حرا لا قيود عليه وأن الثواب لا يكون فقط فى الآخرة ولكن من المفروض أن يقع أيضا فى هذه الحياة الدنيا حيث أن الكنيسة كانت دائما تتذرع فى مواجهة المظالم التى تقع على الفلاحين بأن جزاءهم عن تحمل تلك المثالب هو فى الآخرة فقط.. وكانت الكنيسة تربح أموالا وفيرة عن صكوك الغفران التى كانت تبيعها للبسطاء لكى يغفر الله لهم ذنوبهم التى إقترفوها فى الدنيا ويجزيهم عن محاسن أعمالهم ولكن بعد الموت.. والتوسع فى بيع هذه الصكوك كان قد بدأ فى عهد البابا بونيفاز الثامن الذى كان يحب المال والذى رأى أن هذه الصكوك تمثل مصدر تمويل فعال للكنيسة ولرجالها فأمر بالتوسع فيه. ولكن بعد أن مات بفعل لطمة القفاز الحديدى خلفه البابا كليمنس الخامس الذى إنتقل إلى آفينيون بفرنسا وغادر روما إنصياعا لرغبة الملك فيليب الرابع قاتل سلفه البابا بونيفاز. وفى فرنسا عاش الكرادلة ورجال الكنيسة 70 عاما فى رغد من العيش وفساد مالى وجنسى جعل عبارة "إن فلان يعيش مثل الرب فى فرنسا"هى عبارة لا تزال دارجة حتى يومنا هذا للتعبير عن حياة الرغد والبذخ مع التكاسل.
وكانت صكوك الغفران هذه من الموضوعات التى أثارها لوثر وهاجمها مونتسر بشدة هى مما إستعدى الكنيسة على كليهما.
وكان نظام الأمراء فى العصور الوسطى هو ملكية الأرض بكل من وما عليها وبالتالى فعند الحصاد يتقدم السيد إلى الفلاح لكى يأخذ المحصول ولا يترك له سوى النزر اليسير الذى لا يقيه وأسرته شر الفاقة.. وعند الموت كان السيد الأمير يرث مع أسرة الفلاح ما تركه وله الأولوية فى قبض نصيبه عن طريق أخذ الحيوانات إلى زرائبه أو طردهم من بيتهم الذى يقف على ملكه كصاحب الأرض.
وكانت تعاليم مونتسر تسير فى خط مخالف تماما لهذه الممارسات حيث طالب فى موعظته بأن الظلم الذى يمارسه الأمراء ليس من المسيحية فى شىء وأن من يقوم بهذه التصرفات هو ملعون فى الأرض والسماء.. وهذا هو الإقطاع فى تعريفه الأولى البسيط وليس الإقطاع الذى كنا نتعلم عنه فى مدارسنا فى مصر أنه كان قائما قبل عام 1952.
(وكلنا نذكر غضب الرئيس السادات الشديد على فؤاد سراج الدين عندما صرّح قبيل أحداث عام 1981 مباشرة بأن مصر لم يكن فيها إقطاع قبل ثورة يوليو وأسماه لويس فى خطابه الأخير)..
وبطبيعة الفلاحين الساذجة العاطفية صدقوا مواعظ مونتسر وقاموا بمطالبة أصحاب الأراضى من الأمراء بحقوق تزيد عما يحصلون عليه مما أدى إلى أن يقوم الأمراء بالتخلص منهم عن طريق الطرد النهائى من البيوت التى يسكنونها فانقطع رزقهم بالكامل فى بلاد باردة لم تكن تعرف أى شىء عن النشاط الإقتصادى الغير زراعى..
وقد حاول مونتسر أن يحث الفلاحين على الثورة من ناحية ويحث الأمراء على ممارسة العدالة تجاه الفلاحين الضعفاء من ناحية أخرى.. ولما ضاق به الأمراء فى شتولينبرج التى ولد بها طرد منها على ألا يعود إليها ثانية فاتجه إلى غرب بافاريا حيث نتج عن موعظته هناك بنفس الأفكار أن تقدم مائة فلاح بعريضة ما يمكن تسميته دعوى جماعية يطالبون فيها بالعدالة والحد من إستنزاف السادة الأمراء لعرقهم ومعاناتهم ونظموا أنفسهم فيما يمكن إعتباره تظاهرة غاضبة تريد تخليص حقوقها من أيادى الأمراء ولكن بدون أى إستعداد لا حربى ولا فكرى ولا حتى حذائى حيث أنهم كانوا حفاة !!! ووقعت فى سبيل ذلك معركة أطلق عليها حرب الفلاحين كانت فى حقيقتها تمزيقا منظما لصفوف الفلاحين الفقراء الحفاة الجياع الذين لم يحملوا سوى فؤوسا ومعاول ومعدات العمل الزراعى أمام مدافع يملكها الأمراء تحصد أجساد الفلاحين حصدا هم وعائلاتهم حيث جرت عادة ذلك الزمان على إصطحاب كل العائلة إلى معارك القتال !!
ولابد أن المشهد فى تلك الحروب كان مروعا مهيبا. فالفلاحون لم يتعودوا أن يرفعوا أعينهم فى عيون الأسياد. كما أن النبلاء لم يكنوا قد سمعوا من قبل عن فلاحين يت\مرون ويعترضون. والنظام الطبقى كان راسخا وقديما بحيث أن أى خروج عليه كان يعد خروجا عن ناموس الكون. وله\ا فقد دفع الفلاحون ثمنا باهظا فى تلك الحروب.
ويروى عن حرب الفلاحين هذه أن عدد ضحاياها قد بلغ مائة ألف قتيل حيث إندلعت الفتن فى شتى البقاع (الفتن من وجهة نظر الأمراء طبعا) ولم يواجهها الأمراء إلا بالشدة الرهيبة التى لم تبق على واحد من المعترضين على النظام..
المهم بالنسبة لنا هو فى مصير المحرض على تلك الثورة وهو توماس مونستر.. فقد قبض عليه بالطبع وجرت له محاكمة عادلة تدخلت فيها الكنيسة بصفته مهرطق خارج على القانون الكنسى المقدس الذى وضعه الرب منذ الأزل والذى يقضى بأن الناس ليسوا متساوين سوى فى الدار الآخرة أما فى الدنيا فالفروق الموجودة بينهم إن هى إلا مشيئة عليا ربانية لا قبل بالإنسان بتغييرها حيث أنها جزء من ناموس كونى كبير لا يعلم أبعاده وحكمته سوى خالق الكون وهو لم يعط السر لأحد من البشر !!!
ووقع المصير المحتوم الذى نفذ على توماس مونتسر فى عام 1525 وقطعت رأسه على الملأ وانتهت قصته ولم يعد التاريخ يذكره إلا فيما ندر..
وكنت قد قرأت كتابا فى أوائل الثمانينات كان من إنتاج مطابع ألمانيا الشرقية الإشتراكية وكان يتحدث عن خيانة مارتن لوثر للطبقة العاملة وللفقراء وقد طبع هذا الكتاب عام 1983 بمناسبة عيد ميلاد مارتن لوثر الخمسمائة.. فما هو سر هذه التهمة بالخيانة فى حق مارتن لوثر؟
السبب هو أن الكتاب الذى كان بين يدى وضعته إحدى دور النشر فى ألمانيا الشرقية تحت إشراف وزارة الثقافة أو أحد الهيئات التى يشرف عليها الحزب الشيوعى.. وهذا النظر إلى مارتن لوثر يحمل بالطبع فكر الحزب..
ولكن الواقع يقول أن مارتن لوثر كان هو الأشد تأثيرا فى التاريخ.. فهو لم يقم بمهاجمة طرفى السلطة فى نفس الوقت، كما فعل مونتسر، وإنما ركز جهوده على إحداهما بطريقة جعلت الأخرى مضطرة إلى إتخاذ موقف من فكره الإصلاحى.
فالأمراء وأصحاب الأراضى كانوا أيضا غير راضين عن تعاظم سلطة الكنيسة فى مناطق نفوذهم بطريقة تحد من دخلهم حيث أنهم أيضا كانوا يدفعون للكنيسة.. وهكذا نجحت حملة مارتن لوثر فى دق إسفين بين طرفى التحالف ملاك الأراضى والكنيسة.. ولابد أن هذا هو ما جعل بعض الأمراء يؤمنون بأفكاره ويخرجون عن طاعة الكنيسة الكاثوليكية ويعرضون عنها ويمتنعون عن الدفع. وبالتالى وبسبب عدم ثورية مارتن لوثر بالدرجة الكافية من المنظور الشيوعى فقد وصم فى ألمانيا الشرقية بالخائن للفلاحين. وهى تهمة صحيحة من منظور رؤية يومنا هذا ولكن لابد للمرء أن يأخذ الظروف السائدة فى حينها فى حسبانه عند الحكم على الأحداث. فمارتن لوثر لم يكن فى وسعه أن يجهر بالعداوة للطرفين وإلا كان عليه أن يواجه مصير توماس مونتسر.. وهكذا عندما نشأ المذهب البروتستانتى فى الدين المسيحى إنقسمت أوروبا بين مذهبين متحاربين كلاهما يدين بالمسيحية التى يرى أنها هى الحق. وهذا الإنقسام هو الذى تسبب فى حروب طاحنة إشتعل أوارها بين أطراف من السويد شمالا حتى إسبانيا جنوبا وأهمها بالطبع حرب الثلاثين عاما الرهيبة والتى جرت على أراضى ألمانيا بصفة أساسية وحطمتها بالكامل..
ولاتزال آثار القسمة الدينية بادية فى أوروبا حتى اليوم.. فالغرب فى أغلبه كاثوليكى والشرق بروتستانتى.. وجنوب ألمانيا يمكن إعتبار أغلبه كاثوليكى وشمالها بروتستانتى.. ومن آمن بالمذهب البروتستانتى فى فرنسا تم ترحيله وطرده من البلاد إلى إنجلترا التى سرعان ما تحول ملكها هنرى الثامن إلى المذهب البروتستانتى لكى يتزوج من إمرأة غير زوجته لأن الطلاق كان ممنوعا فى المذهب الكاثوليكى.. وتأسست الكنيسة الأنجليكانية وأصبح ملك إنجلترا هو رئيسها حتى اليوم.. وكذلك هاجر هؤلاء الفرنسيون البروتستانت إلى أراضى ألمانيا التى كان المذهب البروتستانتى قد ترسخ فيها.. إنهم من يطلق عليهم فى التاريخ الهوجنوت. وهم فرنسيون لا تزال أسماءهم ذات الجرس الفرنسى قائمة وإن تحولوا إلى مواطنين إنجليز أوألمان أو هولنديين إلخ.. وهؤلاء قدموا مساهمة نافذة فى التنوير وترقى العلوم الطبيعية فى كل بلد إستوطنوها.
وعندما طفح الكيل بالفرنسيين بسبب تحالف الكنيسة مع القصر والحكومات الفاسدة والمحاكم الظالمة قامت الثورة الفرنسية لكى تطيح بالثلاثة وأعلن زعيمها روبسبيير خروجها عن المسيحية قبل أن يعدم هو نفسه على يد الثوار فى عصر الإرهاب.
والواقع هو أن مارتن لوثر هو اليوم من يشار إليه بالبنان كمصلح دينى تاريخى وليس توماس مونتسر رغم أن الثانى قضى بسبب هذا الفكر الإصلاحى وبسبب محاولته أن يغير الواقع.. ومونتسر كان تلميذا للوثر ولكنه كان متطرفا فى دعوته للتغيير السريع. إذ بينما حاول مونتسر أن يغير بالعنف حاور لوثر الكنيسة بالفكر عن طريق نشر إعلان موضوعاته التى إختلف فى شأنها مع الكنيسة وقد بلغ عددها 95 موضوعا واستطاع أن يهزمها فى عقر دارها ويحصل على تأييد الأمراء.. وهذا مما يكتب له بالطبع.. فالعنف ليس دائما هو الوسيلة الناجحة.. كما أن الحكمة تقتضى عدم فتح جبهتين فى ذات الوقت..
وقد أدى الخروج عن العلم اللاهوتى الكنسى الكاثوليكى إلى إطلاق العنان للحركة العلمية والبحثية التى تخلت عن معتقدات الكنيسة الكاثوليكية فى مجال العلم وانطلقت لتبحث بطريق العقل الحر الغير مقيد فى أمور الدنيا فنشأ العلم الحديث الذى كان أساس الحركة التصنيعية فى إنجلترا ومنها إنتشر فى ربوع أوروبا الشمالية. وعندما تقدمت العلوم تقدم الطب أيضا واختفت الأمراض الوبائية التى كانت تحصد مئات الآلاف بسبب الظروف السيئة والجهل بطرق العلاج.. ولما زاد تعداد السكان بسبب هذه التطورات نهضت الحركة التصنيعية الغير مقيدة بالأفكار الكنسية.. وهذه الحركة هى التى أوجدت موجة الإكتشافات الجغرافية والإستعمار الأوروبى.


Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

Trending Articles