فى ظل الحماس لاستعادة الأراضى المقدسة (القدس) من أيدى المسلمين الذين كانوا يعتبرون من الكفرة والزنادقة، ذلك الحماس الذى أشعله البابا أوربان الثانى فى خطابه الحماسى فى ملوك وأمراء ونبلاء أوروبا فى عام 1095 أصبح التدافع شديدا لخدمة القضية المسيحية وغدت الحماسة هى الغالبة على تصرف النبلاء. وفى ظل هذه الحماسة نشأ وسام
جيش فرسان المسيح ومعبد سليمان بالقدس
أو باللاتينية
Pauperes commilitones Christi templique Salomonici Hierosalemitanis
ولعله من المفيد هنا التعرف على مدلول كلمة وسام. فترجمة كلمة order لا تعنى دائما وسام ولكنها قد تعنى تظيم أو إنصياع لأمر جهة أو شخص معين. صحيح أن تنظيم فرسان المعبد كان يمنح أيضا الأوسمة ولكن أظن أن الترجمة الصحيحة هى تنظيم وليست وسام. وهناك الكثير من هذه التنظيمات التى لها أساس كنسى مثل تنظيم فرسان مالطة والجيزويت والكمبونى وأوجوست وأيضا القديس فرانسيسكوس إلخ.. وهناك تنظيمات للرجال فقط وأخرى للنساء. وهى جميعا تنشأ لغرض معين مثل الإعجاب والتقدير لشخص قديس معين أو لخدمة معينة ينوون التخصص فيها وهكذا. وتنظيم فرسان المعبد نشأ أيضا فى بدايات القرن الثانى عشر عام 1128 مع بداية الزحف على فلسطين لإنشاء دولة مسيحية على الأراضى المقدسة تكون مرتبطة بالكنيسة الغربية (فى روما وليست الشرقية فى كونستانتينوبل) وكان مكونا من النبلاء فقط وهم من عرفوا بتشددهم الحربى وميلهم لحياة الخشونة والجندية بالإضافة إلى حماسهم الشديد للكنيسة الكاثوليكية واستعدادهم للتضحية بأنفسهم فى سبيل نصرة قضاياها. أى أنهم المحاربون المقتنعون طواعية بالموت فى سبيل الصليب. ولم يكن يعلو رئيس التنظيم سوى البابا شخصيا، فليس لأحد أن يملى عليهم إرادته السياسية أو الإجتماعية سوى البابا ظل الرب على الأرض.
وقد بدأ النبلاء والأمراء فى التجمع كما أسلفت للذهاب إلى فلسطين برا ولكن التجربة أثبتت أن طريق البر محفوف بالمخاطر ومرهق ومكلف فلجأوا إلى طريق البحر وأنشأوا سفنا كانت تغادر أوروبا من فرنسا لتصل بعد عدة أسابيع إلى فلسطين إما فى عكا أو يافا. ونظرا لأن الحجيج كانوا يسلكون طرقا وعرة وغير مؤمنة فقد لجأ هذا التنظيم العسكرى إلى عرض خدمته على الحجيج بأن يتسلم منهم أموالهم فى أوروبا على أن يردها إليهم بعد وصولهم سالمين إلى أرض فلسطين كما أنه كان يقوم بحمايتهم عسكريا طوال الرحلة.
وهكذا وبمضى الوقت تحول تنظيم فرسان المعبد إلى جناحين لهما نفس القيادة، جناح عسكرى يخوض الحروب ضد المسلمين بمنتهى التفانى والحماس، على طريقة المارينز أو القوات فائقة التدريب ذات الروح المعنوية العالية والمستعدة دائما للإستشهاد فى سبيل القضية التى يؤمنون بها، وجناح إقتصادى يدير الأموال التى يكسبها التنظيم عن طريق بيع الحماية للحجيج وبيع الخدمات الفندقية والأمنية بين أوروبا والاراضى المقدسة حيث كانت لهم قلاع ومنشآت على طول الطريق تخدم هؤلاء الحجيج. وهذه القلاع موجودة حتى اليوم فى تركيا وفى سوريا وفلسطين تشهد إنشاءاتها على قوتهم المادية حيث لم يبخلوا فى الإنشاء كما تشهد على نيتهم البقاء للأبد فى الشرق نظرا لما يصحب ذلك من منافع لهم فى تجارة الحماية وتجارة الحرب.
وتطور الجناح الإقتصادى ليشمل إدارة أملاك من المزارع بالإضافة للأعمال التجارية. ولكن على الجانب الآخر يقال أن التنظيم العسكرى بدأ شيئا فشيئا يتحول إلى نوع من التنظيم المغلق الذى لا يعرف أحد أسراره ولا يدرى ملوك أوروبا شيئا عن مالياته واتصالاته الخارجية، بينما هو يحظى بثقة البسطاء الذين ينعمون بحمايته لهم على طول الطريق إلى الأراضى المقدسة.
نحن الآن فى عام 1292 وقد إنتهت الحروب الصليبية إلى فشل أوروبى حيث سقطت القدس فى أيادى العرب من قبل ذلك ولم تجد محاولات شن حملات جديدة على الشرق أذنا صاغية فى القصور الملكية الأوروبية حيث أن تكاليف تلك المغامرة لم تكن سهلة والفشل العسكرى فيها كان محققا وباهظ التكاليف البشرية بالإضافة إلى أن من يخرج من أوروبا من الملوك سرعان ما يجد أن غيره قد إحتل مكانه ومكانته. فالغزوات الشرقية لم تكن إذن ذات أفضلية لدى ملوك أوروبا عقب 200 عام من الإندفاع إليها. وبسقوط عكا آخر القلاع الصليبية إندحر فرسان المعبد وأجبروا على الخروج من كل الشرق فانسحبوا خائبين إلى قبرص واصطحبوا معهم كل ما أمكن لهم أن يأخذوه فى خروجهم ولكنهم تركوا بالطبع كل ما ثقل وزنه وصعب نقله.
وكانت الحروب الطويلة التى خاضتها أوروبا فى الشرق الإسلامى قد ساعدت هذا التنظيم على خلق تقاليد خاصة به وبطريقة معيشة أعضائه حيث كانوا متقشفين خشنى المظهر يعشقون النظام والضبط والربط يتم حشدهم فى عنابر ويضيعون وقتهم باستمرار فى التدريب المستمر ويتقاضون أجرا جيدا من العائد الذى كانت تدره مشاريع التنظيم.
وكانت الروح السائدة بينهم تقوم على أساس الكل للفرد والفرد للكل. وكان لهم قسم يؤدونه فى طقوس سرية وبصفتهم تنظيم مسيحى خاضع للبابا مباشرة فقد كانوا لا يتزوجون ولا يقربون النساء إذ أن حياتهم كانت موهوبة للقضية المسيحية وللمساعدة على نشر التعاليم المسيحية الحقة، ليس بالحجة والإقناع ولكن بالسيف.
والواقع أن خضوعهم إداريا فقط للبابا هو السبب فيما وقع لهم فيما بعد. إذ أنه بنهاية الحروب الصليبية لم يعد هناك مبرر لوجودهم كجهاز حربى وجهاز حماية حيث أن تيار الحجيج إما أنه قد إنقطع أو ضعف جدا. ثم أن المسلمين كانوا قد أعلنوا من قبل نصرهم أن للمسيحيين حق الزيارة والحج فى أى وقت دون التقيد بأى شروط سوى عدم حمل السلاح أو البدء فى أعمال عدوانية.
إلا أن أهم ما فى الأمر هو التعارض الواقع بين سلطة الملك الزمنية على الأرض وسلطة البابا الروحية والتى كان يريد لها أن تمتد لتشمل سلطة زمنية أيضا على الأرض. وفى ذلك الوقت كانت الأمور خاضعة للشد والجذب بين الهيئتين اللاهوتية (ملكوت السماء) والعالمية (من العالم).
وفى فرنسا كان الملك فيليب الرابع ملكا قويا يريد أن يوطد أركان حكمه وأن يوسع من رقعة ملكه.. ولكن المال كان هو العنصر الذى ينقص خططه الطموحة. ووقعت عينه منذ البداية على الضرائب التى تدفع من جانب رعاياه للكنيسة ولا ينل هو منها شيئا بل كان يتم توريدها إلى روما مباشرة دون أن يكون للدولة فيها نصيب. وكذلك كانت عينه على المشاريع الإقتصادية للتنظيم الذى أصبح بلا عمل مقدس يبرر إعفاءه من الخضوع للسلطة الزمنية على الأقل بالضرائب.
وكان أن وقع ناظرا الملك فيليب على هذا التنظيم وكان يترقب لحظة الهجوم عليه بكل أدوات الدولة من شرطة وعدالة وضرائب.
إلا أن البابا الموجود وقتها – بونيفاز الثامن – كان يبسط يده الحامية على هذا التنظيم حيث أن ذلك البابا بالذات كان محبا للمال وكان يحصل على نصيب محترم من عوائد دورة رأس مال النشاط الإقتصادى لفرسان المعبد حيث كانوا يزرعون الكروم ويقطرونه نبيذا إلى جانب أعمال تجارية كثيرة كانت ثابتة فى أيديهم.
وللتخلص من هذه الحماية إصطنع فيليب فى عام 1303 خلافا مع البابا بونيفاز الثامن وانتهز فرصة هذا الخلاف، بالذات فى ظروف تراجع مسيحى أمام المسلمين فى الشرق، وأرسل مستشاره السيد/ نوجاريه لمقابلة البابا فى مقره الصيفى فى مدينة أنانيا بشمال إيطاليا. والواقع أن السيد/ نوجاريه دبر مؤامرة ضد البابا تتلخص فى الإدعاء بأنه يحضر الأرواح الشريرة وأنه قد شوهد يحادث سحابة من الدخان على هيئة الشيطان فأعلن الملك فيليب من فرنسا أن البابا مهرطق. وبالفعل نجحت المؤامرة التى صدقها كثيرون عندما دخل جندى تابع للملك فيليب إلى خلوة البابا ولطمه لطمة عرفت فى التاريخ بلطمة أو صفعة آنانيا وكان مرتديا قفازا حديديا كما يقال مما جعل الضربة مؤثرة إلى درجة أنها نجحت فى إنهاء حياة البابا بعد حوالى 3 أسابيع من دويها على وجهه. وقام فيليب بعد ذلك بتعيين بابا جديد هو كليمينس الخامس الذى إنتقل من روما إلى آفينيون بفرنسا تحت ضغط من الملك فيليب وأصبح المقر البابوى فى آفينيون حيث بقى هناك لمدة 70 عاما قبل أن يعود لروما من جديد.
وبعد ذلك مباشرة تورط أحد أعضاء التنظيم فى قضية جنائية وكان يريد من الملك عفوا حتى لا تطبق عليه عقوبة الإعدام فأعلن عن إستعداده لفضح التنظيم بأسره للملك لو أن الملك عفا عنه وأخرجه من السجن، وقد كان.
وتحولت إعترافات هذا العضو إلى أدلة إتهام ضد التنظيم الذى كان معظم أعضائه لا يزالون فى قبرص فصدر إلى رئيس التنظيم السيد/ جاك دى موليه أمر من الملك بالمثول أمام هيئة التحقيق فجاء بلا وقاومة وكذلك لم يبد معظم أعضاء التنظيم أية مقاومة للأوامر التى كانوا يرون أن بها كثير من سوء التفاهم الذى سوف يزال بالتأكيد بمجرد التوضيح، ولكن هيهات.
وكانت الإتهامات غريبة فى بابها وهى أن لهم طقوس خاصة شيطانية وأنهم يمارسون الشذوذ الجنسى (حيث أن إحدى أيقوناتهم كانت تحمل صورة رجلين يجلسان معا على ظهر نفس الحصان مما اعتبره المحققون دليلا على الشذوذ!!! بينما قالوا هم أنها تعبير عن التشارك فى كل شىء). بل قيل أيضا أن الإتهام شمل التحدث بينهم باللغة اللاتينية !!
واستغرقت المحاكمات قرابة 7 سنوات من عام 1307 الى عام 1314 تم خلالها سحق أفضل قوة عسكرية موجودة فى أوروبا فى ذلك الزمان وتم الإستيلاء على اراضيهم وما تبقى لهم من حطام الدنيا وأزيلت أيقوناتهم من الكنائس ومنعوا من ممارسة أى شىء وأحرق كل من لم يعترف منهم فى ميدان علنى.. أما من إعترفوا بالتهم المنسوبة إليهم فقد قضوا حياتهم فى السجن. ومن سحبوا إعترافهم حكم عليهم بالحرق العلنى فى الميدان حيث أن سحب الإعتراف هو فى ذاته جريمة !! وقد كان من بين الإتهامات الموجهة إليهم عدم الإستبسال فى ملاقاة العدو المسلم فى الشرق !! بل أن الإتهام شمل قول عبارات وألفاظ يفهم منها تقدير بعضهم للصفات العسكرية والإنسانية للمسلمين !! وكان إتهام آخر يدور حول توظيفهم لبعض المرتزقة وضباط الصف من المسلمين وهو أمر يشكل خيانة للمسيح !!
وهكذا أغلق الستار على هذا التنظيم إلا أن الأساطير لم تتوقف عن الحديث عن ثروتهم الطائلة وأين أخفوها حيث أن بعضهم قد هرب إلى إنجلترا وبالذات إسكتلندا حيث يقال أن كنيسة روزلين هناك تحوى كنز فرسان المعبد. وعلى كل حال فلهم كنيسة تسمى كنيسة المعبد فى لندن تعد مركزا هاما لهم فى الزمن الحديث.
ويروى أن جاك دى موليه آخر رئيس للتنظيم قبل الفتك به قد حذر البابا كليمنس الخامس من اللعنة بسبب تقاعسه عن حماية التنظيم بأنه سيقابله بعد شهر من موته فى الدار الآخرة ليحاكم على جرمه فى حق التنظيم، كما وعد الملك فيليب بأنهما سيتلاقيا فى الدار الآخرة فى نفس عام موت دى موليه لكى يمثل أمام الله ليبرر جرمه هو أيضا فى حق التنظيم.. والغريب أن كلى اللعنتين قد تحققت بالفعل فى عام 1314 وهو نفس عام إعدام دى موليه حيث مات البابا بعده بشهر فعلا ومات الملك فيليب فى نفس العام بعده بسبعة شهور.
وفرسان المعبد هم بالإضافة إلى واقع وجودهم فى التاريخ إلا أنهم تحولوا إلى أسطورة تداعب خيال الأوروبيين بسبب سمعتهم القتالية الممتازة وبسبب الظلم الذى وقع عليهم وحرمهم حتى من الإعلان عن أنفسهم. ويقول البعض أنهم ظلوا موجودين حتى اليوم ولكن بشكل سرى فى البداية كما يقال أنهم الآن قد تحولوا من جديد إلى مؤسسة إقتصادية ناجحة تعمل على خدمة أعضائها وترقّيهم فى مجالى المال والسلطة إلا أنها لاتزال تحافظ على السرية. وتوجد الآن فى برسبان بأستراليا جمعية تحمل إسمهم وإشاراتهم وتقول أن أساس وجودها هو القيم المتوارثة عنهم من الصلابة وحب الحق والتفانى فى الدفاع عن المعتقدات سواء الدينى منها أو السياسى. وهذه الجمعية تمارس نشاطا إجتماعيا مثل رعاية المسنين أو إدارة المستشفيات، إلا أن لها ممثلون فى كثير من دول العالم بهدف التأثير على الحكومات فى تلك الدول فى مجالات حماية البيئة وحقوق الإنسان وحقوق الحيوان. وهذه الجمعية لا تسعى لكسب أعضاء جدد بل هى تختار أعضائها بنفسها وتقوم قبل قبولهم بتلقينهم القيم والأهداف التى تسعى الجمعية إلى حمايتها أو تحقيقها. وبالطبع تخضع هذه الجمعية – شأنها شأن كل الجمعيات المشهرة – إلى رقابة الدولة فى أعمالها وميزانيتها ولم يعد لها شأن بالأمور العسكرية أو الحربية.