وردت فى ثلاثة مواضع من العهد القديم عبارة نصها "لا تطبخ الرضيع فى لبن أمه". وهذه الآية وردت فى كل من سفر الخروج مرتين وفى سفر التثنية مرة واحدة.. وقد فسرها الحاخامات على أنها تعنى الفصل فى أثناء الطبخ بين اللحم واللبن. فأصبح المتدينون من اليهود لا يخلطون الأكلات التى تحتوى على لبن بالأكلات التى تحتوى على لحوم. والشىء الغريب هو أن الحظر بدأ فقط على طبخ لحم الرضيع فى لبن أمه وهى كما رأينا قاعدة دينية توراتية تقبل كثيرا من التفاسير التى ربما لم يقصد بها الطعام من الاصل "Do not cook a kid in its mother's milk.... ولكن جاء الحاخامات أو رجال الدين بتطوير لهذه القاعدة بحيث تستطيل لتشمل لحم الطيور، رغم أن لحوم الطيور لا تجىء عن طريق أم ترضع ولكن عن طريق بيضة ولا وجود للبن نهائيا فى تكوينها.. كما أن الحظر بعد أن كان على عملية الطبخ نفسها تطور فاصبح حظرا على الإختلاط بين العنصرين قاطبة بحيث أصبح حظرا على إختلاطهما فى البطن ولذلك أوجد الحاخامات قاعدة الإنتظار لمدة 6 ساعات بين الوجبتين حتى لا يختلط اللبن باللحم.. ثم جاء الجيل الجديد بقاعدة أبعد تشددا حيث أصبح الخلط ممنوعا حتى على نفس المائدة وامتد أيضا إلى مكان عملية إعداد الطعام نفسها فأصبحت المطابخ فى إسرائيل تنشأ فى بعض الأحيان مرتين، مرة لمنتجات اللحوم ومرة لمنتجات الالبان وذلك فى نفس المطعم أو الفندق أو المنشآت العامة.
وهذا مثل حى على التعديلات الغير مبررة فى القواعد الدينية، وهو مرض منتشر بشدة أيضا فى القرن الواحد والعشرين وعبر كل الأديان بلا إستثناء.
وعبر الزمان إكتسبت هذه التخريجات الإنسانية - التى لاعلاقة لها بالنصوص الاصلية - إكتسبت صفة مقدسة حولتها إلى جزء من التوراة بحيث أنك لو سألت أى رجل فى الشارع اليوم عن هذه القواعد المستجدة فسيجيب فورا أنها كلام الله وأن قاعدة الست ساعات مثلا هى قاعدة توراتية.. ولم يعد أحد يجرؤ على مناقشة تلك التخريجات والفتاوى ودخل لحم الطيور مع لحوم الثدييات فى نفس المرتبة من المنع رغم عبثية ذلك الحكم.. ونشأت مدارس فكرية كاملة لبحث الأمر وتقليبه على وجوهه الشرعية كما أنشئت مدارس واقعية بالطوب والأسمنت على حساب دافعى الضرائب لكى يتعلم فيها الطلبة هذه الأحكام التوراتية ويتقنوها ثم يورثوها لمن يأتى بعدهم وهكذا..
وهذا مجرد مثال واحد فى دين واحد مغلق على نفسه لا يبشر ولا يسعى لكسب الأنصار.
والواقع أن هذه الظاهرة كانت مصاحبة لجميع الأديان بلا أى إستثناءات. فلم تسلم المسيحية من ذلك الإتجاه التقديسى لآراء البشر وكذلك لم يسلم منه الإسلام. فالعزوبية فى المسيحية لا أساس لها إلا من إستنتاج عقلى بشرى بحت حيث أن يسوع لم يكن يخالط النساء وبالتالى فالتقرب منه عن هذا الطريق هو من واجبات رجل الدين. وهو نظر قد يكون صحيحا وقد لا يكون ولكنه ليس محل نص دينى واضح. والإسلام به حدود يقال أنها من حدود الله مع أن واضعيها هم بشر جاز لهم الصواب وجاز لهم الخطأ. ومن ذلك حد شارب الخمر وحد الرجم فى الزنا وحد الردة والعقوبات التعزيرية فى العبادات حيث أن كل العقوبات التى يعرفها الإسلام نصا وردت فى شأن المعاملات وليس العبادات.
فهناك رأى للإمام الشافعى بأن شارب الخمر يجلد فقط 40 جلدة وليس 80 كما رأى على بن ابى طالب حين وضع تلك العقوبة فى عهد عمر. وقد بنى على حكمه على إفتراض أن من يشرب تتوافر فيه شروط القاذف (أراه يشرب، أراه يقذف) وهو بالتالى مستحق اعقوبة القاذف. وهو نظر لا يبرر إقامة حد جريمة لم ترتكب. ورأى الشافعى أقرب للعدالة حيث أنه لا يمكن معاقبة شخص لمجرد وجود إحتمال أن يرتكب جريمة وإلا كنا نحن جميعا محل عقوبة بسبب الإحتمال. فلا يمكن للمرء أن يفترض فيمن أمامه أنه لص مثلا ثم يقوم بتطبيق حد السرقة كاملا عليه دون أن يكون هذا قد سرق بالفعل !!
لقد آن الأوان فى زماننا هذا- الذى أصبح الإسلام السياسى عاملا رئيسيا فاعلا فى مجتمعاته سواء كانت شرقا أو غربا- آن الأوان لفرز كل هذه الأقوال والأحكام وتطهير الفقه من كثير جدا مما علق به عبر رحلة القرون فى الزمان ورحلة الأقاليم فى المكان. إذ كلما فتح المسلمون إقليما إختلطوا بأهله فأعطوهم وأخذوا منهم وصاهروهم وأثروا فيهم وتأثروا بهم. وهذا شىء جيد جدا ومثرى للتبادل الثقافى. إلا أنه يقع بأسره خارج دائرة الدين فلا هو جزء منه ولا يصلح الدين له غطاء.
وبما أننى قد بدأت بالعهد القديم أنتهى بأحدث الأديان وهو الإسلام مطالبا أهل الرأى والعلم منه ألا يتقاعسوا عن فرض واجب هو الحفاظ على الدين سليما لا دخائل عليه ولا عوالق تشوه وجهه.
↧
من قواعد الطعام
↧