الأرجح أنه لا يصعب على القرّاء المصريين إدراك مرارة هذا العنوان. إذ يتناقلون جيلاً بعد جيل، عبارته الشهيرة التي قالها ذات يوم لـزوجته "أم المصريين"الأميرة صفيّة: "غطيني يا صفيّة غطيني... مافيش فايدة"! ولا بأس من الاعتراف بأن عنواناً آخر راود كاتب المقال هو "يحيا الجهل"نسجاً على منوال مسرحية مصرية مشهورة عنوانها "يحيا الوفد" (أدّتها تحية كاريوكا، بتأليف واخراج زوجها فايز حلاوة)، مع العِلم أن سعد زغلول هو المؤسّس لـ"حزب الوفد". سبب إلحاح صورة سعد زغلول، الذي مات كمداً من تفاوضٍ مديد ومستحيل مع البريطانيين بشأن الاستقلال التام لمصر والسودان، هو صدور تصنيف الـ"تايمز"العالمي للجامعات في 2013.
وإذ يضمّ التصنيف أبرز خمسمائة جامعة عالميّاً، فلا داعي للإشارة إلى المكانة المتدنيّة التي احتلتها جامعات العرب في هذا التصنيف. في أزمنة سابقة، كان يقال أن الاستعمار هو سبب التخلّف عربيّاً. رحل الاستعمار منذ عقود مديدة، لكن "الصداقة"مع التخلّف وثيقة ووطيدة، لا يمثّل حلول جامعتين عربيتين في المراتب الخمسين الأخيرة من تصنيف "تايمز"سوى مؤشّر بسيط عن متانة عرى هذه "الصداقة"المقيتة.
وليس من عوزٍ في الأدلة على توطّد التخلّف عربيّاً. وكي لا نُثقِل على القارئ الذي ربما كان أشد مرارة من الكاتب في هذا المضمار، لنتحدث عن تكنولوجيا الطاقة النظيفة، التي باتت دعاواها الزاهية تدوي في آذان العرب ليل نهار، من دون أساس فعلي بالطبع! ما هو مدى تمكّن العرب من هذه التكنولوجيات: سؤال بسيط خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالطاقة. في منتدى عن الطاقة استضافته الشارقة في خريف العام الجاري، تحدّث خبير عربي موضحاً أن مصر باتت تنتج 40% من مُكوّنات المحطة التقليدية (بمعنى انها تعمل بوقود نفطي) لانتاح طاقة الكهرباء. يثير الابتسام المرير أن مصر والدول العربيّة تتعامل مع هذه الطاقة ومحطاتها النفطيّة منذ ما يزيد عن زمن رحيل الاستعمار عن بلاد العرب. لكن أحد أبرز الدول العربيّة في العلوم والطاقة (لنتذكر أنها تدير مشروعاً مثل السدّ العالي في الطاقة الكهرومائية النظيفة)، لم تصل لحد الآن إلا للسيطرة على أقل من نصف التقنيّة المرتبطة بهذه الطاقة! ولطالما قال عرب أيضاً أن الاستبداد والأحزاب الشموليّة سبّب للتخلف. لكن، تمكّنت الصين، وهي بلد ما زال يدار استبداديّاً من حزب شمولي، من هزّ أسواق الطاقة العالميّة في هذه السنة، لأنها استطاعت أن تسيطر على تقنيّة الألواح الشمسيّة كليّاً، وبعد زمن قليل نسبيّاً من دخول هذه الطاقة إليها! واستمراراً، تتفوّق جامعات الصين بأشواط هائلة على جامعات العرب، بل أن جامعاتها باتت تحلّ في مراتب متقدّمة، على غرار حلولها ضمن الخمسين الأولى في تصنيف "تايمز"!
ولنتأمل في بعض جوانب الصورة العامة لأعمال العقل في المساحة العربية. خلال عشرين سنة، صدرت 370 براءة اختراع للدول العربية كافة، مقابل 16 ألف براءة اختراع لسيول وحدها (يبلغ سكان كورية الجنوبية 1/10 العرب). يحتوي العالم العربي 40 مليون خليوي، لكن من يقرأ كتاباً غير مدرسيّاً بينهم هم 20 مليوناً، ما يوازي 5% منهم. وبحسب "تقرير التنميّة الثقافيّة"الذي صدر عن "مؤسسة الفكر العربي"أخيراً، يصل معدل قراءة الكتب إلى دقائق سنوياً في العالم العربي، مقابل 200 ساعة في الغرب. ويقرأ كل عربي 1/20 من كتاب في السنة، فيما يقرأ الأميركي 11 كتاباً والبريطاني 7 كتب، ما يعني أن كل أميركي يساوي 220 عربي في القراءة، البريطاني يساوي 140 عربياً...في القراءة أيضاً. لعن الله دول الاستعمار: هي تقرأ وتتركنا من دون قراءة! لكن القراءة لا تحتاج لقرار سياسي ولا علاقة لها بالاستعمار والاستقلال والتحرّر والتبعية والاستبداد و...و... الخ. وليس للحديث بقيّة سوى "يحيا الجهل"وإلحاح صورة سعد زغلول!