تحسم خياراتك بهدوء وسرعة نسبية: المراجع المطلوبة لهذا البحث لا يمكن الحصول عليها إلا في «مكتبة الكونجرس» بواشنطن في الولايات المتحدة الأميركية. تنحي انحيازاتك العاطفية وأحكامك المسبقة لبعض الوقت، وتقطع أكثر من عشرة آلاف كيلومتر من القاهرة إلى نيويورك بالطائرة، وأنت تفكر في جدلية «القوة الصلبة» و«القوة الناعمة» التي أطلقها الأميركي جوزيف ناي قبل عشرين عاماً، وما زالت تفعل فعلها في جدالات العلوم السياسية وكأنها ولدت للتو. باختصار غير مخل بالنظرية: يمكنك الحصول على ما تريد من طرف ما إذا ما هددته باستخدام العنف والإكراه أو قمت برشوة «القوة الصلبة»، أما إذا أقنعته بأن يفعل ما تريد طواعية فذلك منتهى «القوة الناعمة». وفق ذلك المقتضى تتحدد مراكز الدول في النظام الدولي، عبر تناغم بين قوتها الصلبة والناعمة معاً. وفيما تعد مؤشرات قياس القوة الصلبة معلومة، لا تتوافر مؤشرات حقيقية لقياس القوة الناعمة بدقة. وكما يتضح، فإن عناصر القوة الصلبة مثل القدرات الدفاعية والاقتصادية والتكنولوجيا والتعاون الدولي، يمكن قياسها وفقاً لبيانات إحصائية متوافرة يتم جمعها على أسس معلومة، مثلما يمكن التوصل إلى معرفة العوامل الثابتة (المساحة الجغرافية للدول المختلفة وعدد السكان فيها) بعملية بحث بسيطة للغاية على الانترنت. ولكن محددات «القوة الناعمة» تستعصي على التقدير والتقييم السريع، لأن عنصر الديموقراطية وجاذبيتها كمؤشر مثلاً، لا يمكن قياسه وفقاً لبيانات إحصائية.
الطريق إلى «مكتبة الكونغرس»
تصل أخيراً إلى نيويورك ومنها إلى واشنطن حيث «مكتبة الكونغرس»، بعدما طويت المسافة بالقطار من نيويورك إلى واشنطن في حوالي ساعتين ونصف الساعة. لا تتكبد خلال هذه الفترة «أهوال الطريق» كما اصطلح قديماً على وصف الرحلات الطويلة. فالطريق المزدحم بالأشجار والخضرة، عبر فيلادلفيا، يجعلك تشعر وكأن القطار يمضي في طريقه وسط غابة جميلة خضراء. تصل في النهاية إلى واشنطن لتذهب إلى ذلك الفندق القريب من «مكتبة الكونغرس»، تلك التي سترابط فيها لأسبوع كامل بغرض إنجاز مهمتك البحثية. تعلم وأنت الذي أمضيت جل عمرك في المكتبات - وكل إنسان حر في اختياراته - أنه لا يمكن الجمع بين التنزه وزيارة المكتبات. لذلك، تخصص يوم وصولك للتنزه، وباقي الأيام للمكتبة. تلاحظ بعد جولتك الأولى في منطقة المكتبة أن واشنطن أهدأ من نيويورك بكثير، وأوراق الأشجار فيها متنوعة الألوان خضراء وحمراء وصفراء، يمرح السنجاب على جذوع أشجارها. لم تسمع أنت العربي القادم من الصحراء عن السناجب إلا في قصص العجائز التي يروونها للأطفال، ولم ترها إلا ربما في قصص الأطفال المصورة. وبقدر سعادتك برؤية السنجاب فقد كانت خيبة أملك، فهو يشبه الفأر وغيره من باقي القوارض، سواء من حيث اللون أو الحجم، ولا يختلف عنها في المظهر إلا في ذيله المنتفخ بالشعر.
من جون أدامز إلى جوزيف ناي
تأسست «مكتبة الكونغرس» الواقعة في شارع الاستقلال بالعاصمة الأميركية واشنطن العام 1800 بقرار من الرئيس الأميركي جون أدامز في مبنى الكابيتول، وذلك بعد نقل العاصمة من فيلادلفيا إلى واشنطن، لتخدم أعضاء الكونغرس الأميركي، ورصد لها مبلغ خمسة آلاف دولار. وبعدما أضرم الغزاة الإنكليز النار في المبنى العام 1814 وأحرقت جميع الكتب داخل المكتبة، عرض الرئيس الأميركي الأسبق توماس جيفرسون مكتبته الخاصة التي جمعها على مدار خمسة عقود لتصبح المكتبة الجديدة للكونغرس. فوافق الأخير ودفع لجيفرسون عشرين ألف دولار لقاء ذلك. وفي نهايات القرن التاسع عشر، أقر الكونغرس تصميم المبنى الجديد للمكتبة على طراز النهضة الإيطالي، لتفتتح العام 1897 باعتبارها أهم مكتبة في العالم من وقتها وحتى الآن. بمرور الزمن، اتسع نطاق المترددين على المكتبة ليضم إلى جانب أعضاء الكونغرس وفرق العمل التابعة لهم، الباحثين المهتمين من داخل أميركا وخارجها.
يبلغ عدد موظفي المكتبة أكثر من ثلاثة آلاف، وتبلغ ميزانيتها ستمئة مليون دولار أميركي، حيث تضم أكثر من مئة وثمانية وخمسين مليون موضوع منها ستة وثلاثون مليون كتاب مفهرس ومطبوعات بحوالي أربعمئة وستين لغة، فضلاً عن تسعة وستين مليون مخطوطة ومئات الآلاف من الخرائط والتسجيلات الصوتية.
تتوزع المكتبة على بنايتين رائعتين أساسيتين هما: بناية «ماديسون» وبناية «جيفرسون»، واللتان سميتا تيمناً باسم رئيسين سابقين للولايات المتحدة الأميركية. تدخل البناية الثانية لعمل «هوية استخدام» مخصصة للباحثين. وفي دقائق قليلة، ينفتح الباب أمامك لتدلف إلى عالم حقيقي ورائع من كنوز الكتب والمخطوطات. تجول في «مكتبة الكونغرس» حابساً أنفاسك ناظراً إلى أصناف وأطايب العقول الموزعة على كل نواحي المعرفة الإنسانية، تلك التي يعتبرها ماديسون أساس العلم في العبارة التالية التي نقشت على أحد حوائط الدور الثاني في المبنى الذي يحمل اسمه: «العلم هو المعرفة المنظمة».
يحوي قسم الشرق الأوسط في المكتبة الكثير من الوثائق والمراجع التي خزنت وتأرشفت بانتظام لا مثيل له. ومن هناك تنطلق إلى غرفة القراءة الرئيسية، التي تسبقها غرفة موظفي المكتبة الذين يجيبون عن الأسئلة ويرشدونك إلى كيفية البحث وطلب الكتب والمراجع. وبعد هذه الغرفة مباشرة تتقدم إلى صالة القراءة الرئيسية المبهرة، المكونة من طاولات وكراسيّ خشبية عالية الذوق والفخامة التاريخية والمخصصة أصلاً لقراءات أعضاء الكونغرس. عندما تتأمل قبة القاعة العالية جداً ترى في بؤرتها الرسوم الملونة على الحائط وعلى الزجاج، وينسدل نظرك لتمر بالأعمدة الرخامية التي ترفع تلك القبة في مهابة ووقار. تأتي المراجع التي طلبت، وتشرع في القراءة والتدوين فينقضي الوقت الطويل دون أن تشعر حتى نهاية ساعات العمل في الرابعة والنصف من بعد الظهر، لتخرج من المكتبة حالماً بالزيارة في الغد، ومرتسمة في أحلامك قاعاتها وحوائطها وقبابها وكنوزها الورقية والرقمية والبصرية، في تجسيد عملي وملموس لأحد عناصر القوة الأميركية الناعمة.
حدود «القوة الناعمة»
تحل «القوة الناعمة» في الصور وتتجسد في الرموز، بينما مجال عمل القوة الصلبة هو حصراً عناصر الردع وعوامل القوة. بمعنى آخر، تستعمل «القوة الصلبة» القدرات العسكرية والاقتصادية للوصول إلى أهدافها، في مقابل «القوة الناعمة» التي ترتكز أساساً على القيم الثقافية كوسيلة للوصول إلى تلك الأهداف. وفي النهاية، فإن القوة الصلبة تتوجه إلى الحكومات وتتصارع معها، بينما تتوجه «القوة الناعمة» إلى المجتمعات والأفراد راسمة صورتها الذهنية البراقة. في هذا السياق، لا تفوت ملاحظة أن الولايات المتحدة الأميركية أكبر منتج في العالم للأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، كما تمتلك وحدها الشطر الأكبر من المواقع على شبكة الانترنت، وهي البلد الأول المفضل للمهاجرين من كل أنحاء العالم. وفي الولايات المتحدة العدد الأكبر من العلامات والماركات التجارية في العالم، وهي البلد الأول لناحية نيل مواطنيه جوائز «نوبل» في فروع العلوم المختلفة، والثاني لناحية حيازتهم الجوائز ذاتها في الأدب. كما تمتاز الولايات المتحدة الأميركية عن كل منافسيها بأنها البلد المتعدد الثقافات؛ الذي يعيش بين ظهرانيه مواطنون ينتمون عرقياً إلى كل أعراق العالم، وهو أمر مستحيل الحدوث في اليابان أو الصين أو حتى في أوروبا. وإذ يعد انتخاب أوباما ذي الأصول الأفريقية قبل ست سنوات علامة قوة لأميركا ورمزاً لقوتها الناعمة، وتجديداً إيجابياً لصورتها الذهنية المتردية على يد سلفه جورج دبليو بوش وحروبه الرعناء في المنطقة، إلا أنها ليست مسوغاً كافياً للحكم على فترتي رئاسة أوباما إيجابياً. ولا يفيد ذلك للقطع بنجاعة «القوة الناعمة» الأميركية في تلطيف ما تجترحه «قوتها الصلبة» حول العالم بالنظر إلى أن أميركا تنفق وحدها على التسلح وأبحاثه نصف إنفاق العالم كله عليه. تشرع في طريق عودتك إلى بلادك بعد رحلة بحثية ناجحة في التفكير بأن للقوة الناعمة حدوداً وقيوداً، بحيث لا يمكن لواشنطن أن تدير العالم بها مع استمرارها في التمسك بالآليات ذاتها في الاستغلال والسيطرة الاقتصادية والترهيب العسكري لشعوب العالم. ومع التسليم بوجود «قوة ناعمة» أميركية لا يُستهان بها، فلا تستطيع الأخيرة أن تطمس في العقول مروحة واسعة من المواقف الأميركية المعادية لمصالح شعوب العالم من قضية الاحتباس الحراري إلى النظام الدولي وتراتبيته إلى الشرق الأوسط وقضاياه. لن تحسم هذه السطور جدلية «الناعم» و«الصلب» في سياسات أميركا، لكنها كما يعبر عنوان المقال مجرد... تأملات!