خلف يخلف فهو خليفة
إنتهت الخلافة الرسمية فى بغداد عام 1258 بدخول التتار إلى المدينة وإحراقها وتصفية بيت العباسيين. وقد كانت الخلافة العباسية قد ضعفت جدا قبل هذه الغزوة التتارية بحيث أن كثيرا من الأقاليم قد إستقلت عن بغداد فعليا وأصبح لها حكام يتمتعون بالسلطة السياسية ويسمون أنفسهم سلاطين. وكان يدعى لهؤلاء السلاطين على المساجد إلى جانب الدعوات التقليدية للخليفة الذى كان قريبا فى وضعه بوضع ملك الإنجليز الآن أو ملك إسبانيا أو هولندا. فلم يكن للخليفة سوى أن يتبع إرشادات السلاطين المختلفة بأن يستعرض الجيش الخارج للغزوة مثلا أو يصدر مراسيم التعيين أو الفصل بينما السلطة الحقيقية هى فى يد هؤلاء السلاطين.
ومن أشهر هؤلاء السلاطين المعز لدين الله الفاطمى والحاكم بأمر الله الفاطمى وصلاح الدين الأيوبى وسيف الدين قطز والسلطان قلاوون والسلطانة شجر الدر إلى آخر القائمة.
ولو أنك سألت أي طفل فى الشارع عن إسم من إستعاد القدس عام 1187 لقال لك فورا إنه السلطان صلاح الدين ولكن أحدا لن يعرف إسم الخليفة الذى تم فى عصره هذا التحرير.
وفى ظل هذه الثنائية السياسية فعلا الدينة رمزا (بين سلطان وخليفة) تم تحرير القدس وتحققت كثير من الإنتصارات وازدهرت الحضارة الإنسانية على أرض الشرق الأوسط وتم بناء حضارة راقية فى الأندلس الذى كان له أيضا سلاطينه.
وفى عام 1517 دخل السلطان سليم الأول مصر وبحث فيها عن آخر من تبقى من نسل العباسيين وحين وجده إستكتبه تنازل لا عودة عنه عن منصب الخلافة وبذلك جمع السلطان سليم بين المنصبين، الملك والخلافة، لأول مرة منذ خمسة أو ستة قرون.
فناذا يعنى ذلك؟
إنه يعنى أن المسلمين عرفوا الفصل بين الحكم واللقب الدينى وأن الحكم لم يكن ينهض على أساس دينى بل كان ينهض على أساس من القوة السياسية (وقتها كانت عسكرية طبعا) للمتنافس وكان هذا المتنافس مضطرا للبقاء موجودا فى العصر بالعلم أو بالتكنولوجيا أو بالسلاح أو بالمعارف أو بالتحالفات وإلا فسوف يفنيه المتنافسون الآخرون.
ولكن عندما وقع الإتحاد بين المنصبين وأصبح السلطان العثمانى خليفة لا ينازعه أحد رغم أنه حصل على هذا المنصب بتنازل موقع من آخر شخص من نسل العباسيين، وهو تنازل لا قيمة له لأن من تنازل لا يملك أصلا هذا المنصب، أقول عندما وقع هذا الإتحاد بين الصفتين تراخت الأمور شرقا وغربا فى أرجاء الإمبراطورية الواسعة وأصبحت أرضها وشعوبها وثرواتها منهبا للدول الأجنبية وأخذت مواقعها تتساقط الواحدة تلو الأخرى حتى إنتهت هى نفسها بعد 400 عام فقط من حصولها على صفة الخلافة.
والمناداة بإعادة الخلافة جاءت عقب هذا السقوط العثمانى وهى مناداة بإعادة التوحيد بين الصفتين. أى أنها مناداة بإعادة وضع الضعف والإسترخاء والركون إلى مهابة الخلافة للحصول على مكاسب سياسية.
والمنادين بإعادة الخلافة لم يمدوا بصرهم لأعمق من 500 عام خلت. وهى الخمسمائة عام التى جلبت معها هبوط المستوى التعليمى وتوقف العمل الفكرى وانتشار الأمراض المجتمعية والتفكك إلى جانب الظلم الشديد الذى كانت تمتاز به الدولة العثمانية سواء فى مواجهة أعدائها أو حتي مواطنيها.
وانجلترا التى نجحت فى حكم العالم لمدة تقترب من 3 قرون لم تفلح فى ذلك إلا بعد أن قلمت أظافر الملك وجعلت منه مجرد رمز لتوحيد القطر وليس حاكما له إختصاص سياسى.
ثم أن هناك بعدا آخرا للموضوع لم يكن موجودا من قبل وهو البعد القومى.
فقد ظهر كائن جديد يسمى الدولة القومية سواء فى العراق أو سوريا أو السعودية أو حتى تركيا إضافة إلى أنه كان كامنا فى مصر بسبب الاقدمية التى تتمتع بها الدولة المصرية على جميع من عداها.
وفى ظل الشعور القومى المتنامى فلا أجد أنه من السهولة ولا من الحكمة الحديث عن خلافة إسلامية عابرة للحدود تبدأ فى إندونيسيا وتنتهى فى مراكش وتمتد من البلقان حتى الصومال. هذا هراء. وهذا الكائن لن يكتب له أن يعيش بل سوف يتفكك بسرعة وتطمع فيه القوى الأجنبية من جديد ونعيد قصة الدولة العثمانية.
وللدلالة على الفرق الكبير بين لقبى ملك وسلطان يكفى أن يلاحظ المرء المجهود الضخم الذى بذله عبد الخالق ثروت باشا كوزير لخارجية مصر حتى تعترف الدول الأجنبية بالملك فؤاد ملكا على مصر من بعد أن كان لقبه السلطان أحمد فؤاد بعد أن ورث اللقب عن السلطان حسين كامل الذى كان أول من حمله فى مصر فى العصر الحديث، إذ أن الخديو عباس حلمى كان يحمل لقب خديو أى عامل لدى السلطان العثمانى.
وكانت أكبر خدمة أداها ثروت لأحمد فؤاد هى نجاحه فى الحصول له على هذا اللقب الجديد، ملك..
إذن ما هى المصلحة التى يبحث عنها أنصار الدعوة لإعادة الخلافة؟
وأنا مدرك تماما لأن الخوض فى أمر الخلافة سوف يجلب علي حنق الكثيرين وغضب لا حد له، ولكن الحقوق لابد أن ترد إلى أصحابها. فكثير من مسلمي اليوم لا يعلمون عن الدولة العثمانية إلا قشورا ويربطون بين إسمها وهالة من القدسية التى ربما هي لا تستحقها.
فليس كل من هو مسلم أو كل من قال أنه مسلم هو بالتبعية حسن السيرة عاطر الذكر. فالمسلمون شانهم شأن أي جماعة إنسانية فيهم الصالح الطيب وفيهم المجرم العتيد.
وكثير جدا من شباب المسلمين اليوم لا يعرفون سوي أن الدولة العثمانية عندما سقطت الخلافة من يدها وسقطت هي بأسرها فقد كان ذلك هزيمة نكراء للإسلام!! وهو رأي لا صواب فيه ولا حق.
في عام 1595 أمر السلطان العثماني الجديد محمد الثالث بقتل 19 أخ ذكر، حتي لا ينافسه منهم واحد، ثم أشرف بنفسه علي مراسم دفنهم بطريقة رسمية لائقة!!
وكان بعضهم لم يتجاوز سن الطفولة الاولي.
وفيما بعد كان السلاطين أقل وحشية فلم يلجاوا للقتل بل للحبس مدي الحياة معزولا.
وكان اسم مكان الحبس هذا"القفص ".
أين هو هذا التصرف من أي قيمة دينية أو حتي أخلاقية؟
ولا استطيع الرد علي هذا الكلام سوي بالتساؤل البسيط التالي :
إن كانوا فعلا حكاما عظاما، فلماذا انحط حال المسلمين في عهد دولتهم ولماذا اهملوا العلم والتعليم ولماذا افضت دولتهم الي احتلال اجنبي لكل الأقاليم التي كانت تحت سيطرتهم؟
ليس مقياس النجاح في الحكم هو خوض المعارك الحربية ضد الدول الأوروبية ولكن النجاح مقياسه يقع في نوعية الحياة التي كانت متوفرة للمواطن العثماني علي أرض تلك الدولة.
وكم التخلف الذي أصاب الأمة الإسلامية تحت حكم العثمانيين لم يحدث لهم من قبل تحت أي حكم آخر.
أم أن ذلك هو أيضا محل خلاف؟
انه الاتحاد بين الحكم والدين هو ما ادي الي ذلك. وعلي كل حال فالخلافة العثمانية كما أسلفت قامت علي أساس غير صحيح لأن تنازل من لا يملك هو مما لا يعتد به.
لابد لنا أن نتخلي عن العواطف لو أردنا أن نستفيد من قراءة التاريخ، وإلا فالأفضل عدم قراءته.
ولئن كانت التجربة العثمانية تشكل خصما من الرصيد الحضارى الإسلامي فهناك تجربة أخري إسلامية مضيئة ومشرقة تماما كالشمس فى كبد السماء، ولا خلاف على تحضرها وتقدمها وقيادتها للعالم فترة من الزمان.. وهو حديث المرة القادمة..